مجلة الرسالة/العدد 66/القصص
مجلة الرسالة/العدد 66/القصص
مُقَطَّفَة
للأستاذ إبراهيم بك جلال وكيل محكمة أسيوط الأهلية
كنا في حاضرة صغيرة في صعيد مصر، يجري في سفحها النيل زاخراً فياضا، وينطلق بين أغوارها رعاة الماشية في إثر الكلأ، وتستقيم على أنجادها بواسق النخيل يسطع بريق الضحى من سعفها كالأسنة في متون القنا.
وكان في أقصى المدينة خليج صغير يأخذ من النيل، يجري فيه الماء غديراً رقيقاً، يفيض بركة ويمناً حول ربوة عالية فيها أكواخ بالية لقبيل من الناس، عدتهم بين العشرين والثلاثين، فيهم الشيخ والطفل، وبينهم حفنة دون العشرة أهل باس ونجدة. وتمتد أكواخهم في ذرى النجد كالحة الجدران، تنساب بين شعابها عنزات عجاف، وتنيخ بأفنائها الأباعر، وتسبح في أفقها أسراب الحمائم.
ولأهل ذاك القبيل حقل صغير فوق الربى العالية عزّ على القوم سقياه، فشقوا له في السفح ثلاثة (شواديف)، يستقي أدناها من ماء الخليج فيسقي الذي يليه، وذاك يحمل ما تعلل به من البلل إلى الثالث، وذلك يلقى سقياه إلى الحقل.
ويتناوب أهل النجد تلك الشواديف؛ فهم أبداً جاثمون تحت السعير المتقد من جمرة الصيف في أثمال كشفها البلى عن سواعد دونها الفولاذ، فيشتدون في ساريات الشواديف جذباً ودفعاً حتى يستوفي الحقل رياً، فيُفيئون إلى صفصافة في الحي بها ظل وارف.
وكنا في دهشة الحرب العظمى، فخيم حول المدينة طائفة من جنود بريطانية يحرسون شعاب الصحراء ومفاوزها من أشياع السيد السنوسي، فكنا نصطبح بفرسانهم دارعين يمشون إلى المصاف ثم يعرجون إلى المضارب.
وجاء فيض النيل غمراً كأحسن العهد بالوفاء، وجرى الماء كثيفاً في خليج أهل القبيل، فاندفع الغلمان يسبحون فيه، وتوافد النساء يرتعن ويلعبن.
وكان بالنجد عذراء فتية، لونها الخمر إذا صفا، وغرتها البدر، وخطرتها الظبي، وحدقها المها، تسري بين الربى في قميص قُدَّ من قُبل في غير إثم ولا حرج، وفي خصرها نطاق من نسيج قرمزي كبرزخ الحسن، يعلو بك صعداً إلى معاقد ما بين ثدييها حيث الفتنة نائمة، ثم يهوي بك إلى كثيب تنوء به ساقاها.
ونشأت (مقطَّفَة) في حمى اليتم، فكفلها أخواها تحت جناحيْ رحمة، وجمعا لها زخرف الثياب والعقود والأقراط، وجمَّلا قدميها بخفين فيهما كل طلىّ من صنع المدينة، وضربا لها خدراً كريماً بين الحمى، فإذا أقلها الخدر وربض أخواها ببابه بات عريناً دونه جبهة الأسد.
وكرّت مقطفة إلى مشرع الخليج وحولها أتراب من الغواني، فأشرق النجد أغواره ورباه، ونضت ثيابها عن قامة كالغصن، فغمرها مدلا بروعة حسنها، ونسج الأتراب من معاصمهن حولها شفقاً رقيقاً كالذي نراه عند مغيب الشمس، فكانت غرّتها تشرق بينهن ثم تغرب في دجى فرعها.
وقدمت فصيلة من جنود الإنجليز إلى الخليج أفراداً وجماعات حتى أكملوا المائة، فنزعوا نعالهم الغليظة، وبعثروا فوق الثرى قلانسهم ومناطقهم، ثم نضوا بقية الثياب وافترشوا أديم الأرض، يستقبلون النيل في فورته واندفاعه إلى الخليج، وكانوا بمعزل عن أهل الحي تحجبهم هضاب وشعاب.
وخرج من صفوفهم فتيان يسبحان في الماء، وظلا في مرح واستباق وتراش بالماء، حتى رنت في أفقهما أغاريد بنات الحي من أقصى الخليج، فهوى أحدهما إلى القاع يسترق الخطى ويسبح الهوينا، حتى كشف له عذاري النجد كالحلقة المفرغة حول (مقطفة).
فخلب لبه ما صاغ المشرق من الحسن، فهو كامن في أفنان النخيل، وطيف النسيم العليل، وصفاء الماء السلسبيل، وملاحة ذلك القد الأسيل.
وسرّح الإفرنجي حدق المأخوذ في دمية النجد وغانية الحي، وبهره وضح جبينها ودقة تكوينها، وسولت له الفتنة أن يستقي حميا ذلك الثغر المصفى.
ونم على الذئب حر أنفاسه فنفر الظباء في ذعر وفَرَق، وتخلفت مقطفة تجمع أشتات العقود والعصائب، وأسبلت قميصاً فضفاضاً يجري ماء الحسن من جيبه إلى ذيله، وهمت في إثر أترابها لولا أن لاحقها الإفرنجي فرأت بشراً من غير معدنها في قميص مندى يكاد يلوكها بماضغ عينيه، ويعتصر جموح غريزته الملحة، فمد يمينه إلى جيدها الغضّ، ولكنها انتثرت كما ينتثر العقد بدراً، وفرت إلى خدرها تملأ الحي رجعاً موجعاً والرجل يشتد في إثرها، وتعلقت فتاة الحي بدروة خدرها ولوحت لأهلها بالعصائب القرمزية فكانت نفير النجدة.
وأبطأ الفتى الجندي على رفاقه من الإنكليز، فحفوا في أثره وتسنموا ذرى النجد، فخرج عليهم من ظلال الصفصافة حفنة من الفتيان غضاباً للأعراض والأحساب الكريمة، يحملون ساريات الشواديف وفلولاً من أعجاز النخيل، وانهالت الساريات تدق الضلوع، وتفلق الهام، وتطهر باب الخدر بالدماء، واستعر لهب الملحمة واشتد أوارها، وصرع من عامة الجند نيف وثلاثون.
وجاء النذير إلى دار الشرطة بالمدينة، فقدموا إلى ضوامر الخيل، وطوقوا الحي سهله ونجاده، وحُمل الجرحى إلى مضاربهم، وسيق الفتيان إلى السجن مصفدين في الأغلال.
وحشر أهل المدينة في الدروب والمشارق يستعرضون تلك الفئة القليلة التي غلبت فئة كثيرة بأذن الله، فإذا هم بضعة نفر من البدو غرا محجلين، يمشون في سكينة وعزة ويقين، مشيئة آبائهم مفاتيح النصر إلى اليرموك والقادسية، حيث دكوا عروش الروم وفارس، وجاء على أعقابهم نساء النجد يبكون حماة الحريم ورفات المجد القديم، وفي طليعتهن مقطفة تندي النقاب، وتهتك الحجاب، وتندب الأهل والأصحاب. وعقد مجلس التحقيق فكان مستفيضاً، وطال أمده يومين كاملين.
وجاءت البينات من جنود الإنجليز تشهد جراحاتهم وما تركت الساريات بأضالعهم وسواعدهم وأعجازهم وهامهم، وأنف حماة النجد من الكذب، وراحوا يصورون للقاضي ما كانوا فيه من دعة وسكينة بين الأهل والولد، حتى وثب الجند بالعقائل يستحلون المحارم ويستبيحون الخدور، فقامت سواعدهم بغريزة الذود وسجية الدفاع المشروع.
وكشف للناس فرسان من الإنجليز يمشون في ركاب أمير الجيش إلى المحكمة، ودخل القائد مجلس التحقيق في عتاده وشارات حسن بلائه، فساور القوم قنوط ويأس وظنوا بالله الظنون، وظلوا واجمين بالباب محتسبين عند الله أكرم القرابين. ولهم معذرة، فان مصر كانت في أغلال عرفية لا خيار لها ولا سلطان.
واستنار القائد بدخائل التحقيق وأسراره فنهض إلى الوثائق يجمعها ويطوي سجلها ويحكم رتاجها، ثم عاد إلى مضاربه وبين يديه الجارمون من أهل النجد.
وهلل الفجر فغصت محاريب المساجد بأهل الدعاء، يرفعون العقائر ويعلنون السرائر، وتواري بعضهم بين الشعاب المفضية إلى المضارب يتسمعون دوى البنادق وزفرات الشهداء.
فكشف الناس في أفق الصبح قوافل من السيارات تنوء بالعتاد والمضارب وفيها أشباح يخفقون، وهي تطوي ما بين المضارب والمحطة.
وسارع الناس فرادى إلى الأفاريز فتبينوا بارقا من الرحمة، وتوسموا الخير كله في نواصي السيارات. فقد كان ركبها من الذين استباحوا حمى مقطفة وأهل نجدها، طوح بهم القائد إلى أطراف الديار.
وذخر القطار يمشي بهم في غير ذمة الله تشيعهم من ناحية القائد عين ناقمة متبرمة.
وأومأ أمير الجيش إلى سيارة موصدة فانفرجت عن فتيان النجد في أمن ودعة، واستمعوا حكم البراءة مهللين مكبرين، يلوحون بالعمائهم ويملؤون الأفق حمداً وثناء على مكارم القائد ونبله. وتقدمتهم إلى النجد مقطفة تلوي عصائبها القرمزية، وحولها حلقة مفرغة من بنات الحي يغنين نغم البيد، ويرتلن حلو الأغاردي.
إبراهيم جلال