مجلة الرسالة/العدد 66/في الأدب الدرامي
مجلة الرسالة/العدد 66/في الأدب الدرامي
9 - الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
الملهاة
تعريفها: الملهاة تمثل حادث منتزع من الحياة العامية يبعث اللهو ويثير الضحك. وموضوعها الجهة الوضيعة من طبائع الناس وعادات المجتمع ونقائص الحياة. أما جهة الإنسان الرفيعة ونكبات الدهر الفظيعة وجرائم الهوى السفيه فموضوع المأساة. ويخيل إليّ أن الفرق بين الملهاة والمأساة لا يزال غير واضح ولا محدد، فيحسن هنا أن نفصل القول فيه. فالملهاة تختلف عن المأساة في المبدأ والواسطة والغاية. فمبدأ المأساة حساسة الإنسان وشعوره، وواسطتها التأثير، وغايتها الرهبة من الهوى المضل، والرعب من الجرم الفظيع، والرغبة في الخلق الكريم. وأما الملهاة فمبدأها خباثة الإنسان وضعفه، وواسطتها السخرية والضحك، بأن تنظر إلى عيوب الناس نظرة الضاحك الساخر مادامت غير مؤلمة فتثير الرحمة، ولا محنقة فتثير البغض. ولا مخطرة فتثير الفزع. ثم تصور هذه النقائص بمهارة ودقة، وتستعين على تقوية هذه الصورة بالمفارقات والمفاجآت لتكون مثاراً للاستهزاء والضحك. ولا ريب انه كان أجدر بنا وأنفع لنا أن نقابل عيوب الناس بالرثاء الأخوي والنظر الفلسفي بدلاً من هذه الضحكة الهازئة، ولكنهم وجدوا أن أقرب الطرق وأنجع الوسائل أن يستخدموا فساد بعض الناس في إصلاح فساد الآخرين، كما تستخدم ذبابة الحجر من الماس في صقل الماس نفسه. وإصلاح العيوب بالعيوب هو غاية الملهاة. ومن الناس من يفرق بين الملهاة والمأساة بكيفة الأشخاص وكمية العواطف، فيقولون إن أشخاص المأساة من طبقة الخاصة، وأشخاص الملهاة من طبقة العامة، وإن درجة العواطف في الأولى قوية وفي الأخرى ضعيفة، وذلك فرق لا يميز ولا يوضح، لأن الآلهة والملوك قد يتخذون في بعض الأحيان أضاحيك كما ترى في رواية (امفتريون) لمولير، ولأن اليأس القاتل الذي استولى على بخيل موليير حينما فقد خزانة ماله، لا يقل في درجته وشدته عن يأس فيلوكتيت سوفوكليس حينما خطفوا منه سهام هرقل.
إن النوازل الفادحة والمهالك الجائحة والعواطف الخارقة مرايا المأساة ودلائلها، ولكن المنافع الخاصة والأخلاق العامة والعيوب الشائعة كيان الملهاة وخصائصها، فالأولى صورة من التاريخ، والأخرى صورة من المجتمع، والرذيلة تدخل في باب الملهاة إلا وهي مضحكة محتقرة. فإذا كانت ممقوته مضرة دخلت في باب المأساة. فموليير جعل المنافق المحتال شخصاً مضحكا في (ترتوف)، وشكسبير جعله شخصاً محزناً في (جلوسستر)، وذلك بالطبع راجع إلى طبيعة النفاق والحب في الحالين.
سبب الضحك في الملهاة: سبب الضحك هو خطأ حقيقي أو
ادعائي لا ضرر منه ولا تبعة له. فنحن وإنما نضحك إذا
لحظنا بين الشيء وبين الواقع اختلافاً لا يكون فيه مضرة
لأحد.
فالرجل المفلس الذي يظن نفسه كفؤاً لأن يعلم الناس جمع الثروة، والشيخ المتهدم الفاني الذي يتصابى في مشيته، ويتظرف في لهجته، يبعثان على الضحك ويستوجبان السخرية، لأنهما يريان الأشياء على غير حقيقتها. والدمامة في ذاتها ليست مضحكة، وإنما تصبح كذلك إذا ظن الدميم نفسه جميلاً، أو رجا أن يظنه الناس كذلك. ولهذا السبب نفسه نضحك من اريجون بخيل موليير حين يطبق على خزانته ما يقوله له فالير عن ابنته، وكذلك نضحك من (مينالك) لابرويير حين أخذ نعله وهو يحسبه كتاب القداس، كما حدث لأحد إخواننا من المعلمين الكهول إذ وضع (دفتر التحضير) في شباك المرحاض بجانب قطعة بالية من قفة خوص. ولما قضى أمره سها فأخذ (البرش) بدل الدفتر، ودخل به الفصل فكركر التلاميذ في الضحك من هذا السهو الغريب.
على أن حدوث السهو أو الخطأ من إنسان لا يكفي في حدوث الضحك، بل لابد أن نلحظ ذلك الخطأ منه، وندرك التباين بين فكرته عن الشيء، وبين حقيقة ذلك الشيء نفسه. فإذا اتفق أن أحد الناس لم يفطن إلى هذا الخطأ لفتور ذهنه أو قلة علمه بقى جاداً لا يضحك ولا يبتسم. وذلك سبب ما نرى من أن الشيء يضحك بعض الناس ولا يضحك البعض الآخر. ولا يلزم أن يكون الخطأ المضحك حقيقياً، بل يكفي أن نراه نحن كذلك، أو يتظاهر المضحك بأنه غلط في شخص أو في شيء. والمازح إذا أراد أن يمزح فإنما يدعى الحماقة والسذاجة وهما مصدر السهو والخطأ. كذلك يجب ألا يكون لهذا الخطأ تبعة محزنة ولا نتيجة مشئومة كما ذكرت من قبل، وإلا أثار الرعب والإشفاق، بدل أن يثير الجذل والضحك. فميروب حين أخطأت في ولدها فظنته قاتلاً، وأرادت أن تقتله لم يضحكنا ما تفعل، وإنما ملأ قلوبنا رعباً وخشية؛ والمتكبرون لا يضحكون من أنفسهم إذا أخطأوا، لأنهم يجدون في هذا الخطأ جدعاً لكبرهم وإهانة لصلفهم فيتألمون.
ومنشأ الخطأ الذي يولد الضحك إما نقص في الخلق، وإما ضعف في الذكاء، وإما ظروف خارجة عن شخص المخطئ. والخطأ يستتبع في أكثر الأحوال أقوالاً وأفعالاً تخالف المرعي من العادة أو العرف أو القوانين أو الذوق؛ وتلك هي السمات التي تحدد لك أخلاق الملهاة. ففي ملهاة (المتوحش) لموليير تجد كل ما يقوله (ألسِسْت) ويفعله مناقضاً للعادة الجارية، لأنه فقد قوة الحكم على الأشياء، فبالغ في تقدير الفضيلة إلى حد أن يرى فيما أجازه العرض وأمضاه خطورة ليست فيه.
أنواع الملهاة: الملهاة ثلاثة أنواع: وهي الملهاة الإشكالية ' وتؤلف من الحوادث المضحكة الغربية المتشاكبة المعقدة التي تأخذ على المشاهد أنفاسه وتملك حواسه، حتى تنتهي بحل مرغوب غير متوقع. فالحوادث روحها وقوتها. أما وصف العادات، وتصوير الأخلاق، فهما في المحل الثاني منها، كملهاة المريض الواهم، والطائش، والحضري الشريف لمليير، والملهاة الاجتماعية وتؤلف من الهزؤ بخيال الناس وسخف المجتمع، وتصوير ما أحدثته العادات السيئة في الأخلاق من تشويه ومسخ، وذلك في طبقة خاصة وعصر معين. ويجب أن يكون كل شيء فيها مهيئاً ليظهر مع غيره عيباً من عيوب الاجتماع. فالحوادث تختار عن قصد لبلوغ هذه الغاية، والظروف ترتب بدقة لأحداث هذا الأثر، والفرد يكبر ويعظم حتى يتضمن الجنس بأسره، والحوار يجري على طريقة تبرز فكرة المؤلف واضحة في كل خطاب وجواب، كالمتحذلقات السخيفات لموليير، ونصف العالم، ومسألة النقود، والأب المبذر، لاسكندر دوماس الصغير. والملهاة الخلقية وهي تهاجم العيوب والنقائص المسيطرة على الأخلاق في كل زمان ومكان، ونزعتها إلى الإفادة والإمتاع أقوى منها إلى السخر والإضحاك. كالبخيل، وترتوف، والمتوحش لموليير. وهذا النوع أنفع الأنواع الثلاثة وأقواها وأصعبها. فأما أنه أنفع، فلأنه يرجع إلى مصادر العيوب وأصولها فيهاجمها في مبادئها ومناشئها؛ وأما أنه أقوى فلأنه يقدم إلى الناس المرآة فيخجلهم من صورهم ويضحكهم من أنفسهم، وأما أنه أصعب فلأنه يطلب من المؤلف دراسة عميقة للأخلاق، وبصيرة نافذة في الملاحظة، وخيالاً قوياً ليجمع شتات الملحوظات الكثيرة في نقطة واحدة.
هذه هي أنواع الملهاة الثلاثة، دون أن نعد منها تلك الأنواع التي تعتمد في الإضحاك على النكات اللفظية، أو على المواقف الخليعة المجونية، فإنها بضاعة الأذهان الكليلة، والأذواق السقيمة. ولها مع ذلك اسم غير هذا الاسم وموضع غير هذا الموضع. على أن هناك نوعاً رابعاً هو أسمى من تلك الأنواع وأقوى. ذلك هو الملهاة المختلطة التي تستوعبها جميعاً. فتجمع إلى هزل المواقف هزل الأخلاق والعادات، فترى فيها الأشخاص مدفوعين بضعف عقولهم، أو مرض قلوبهم إلى أن يقفوا مواقف مخزية تعرضهم إلى سخر المشاهدين واحتقارهم. . كالموقف الذي وقفه أرباجون بخيل موليير مع ولده حينما أقبلا يتعاملان بالربا دون أن يعرف أحدهما الآخر، فكانت مقابلة الأب المرابي والابن المبذر من سخريات الحياة وغرائب الأمور.
ماذا يجب في عمل الملهاة: إن الغرض الذي يتوخاه واضعو
القواعد للعمل الروائي هو التقريب بين الافتراض والحقيقة.
وأقوى الوسائل إلى هذا التقريب هي قاعدة الإمكانية. ولما كان
عمل الملهاة منتزعاً من العادة المألوفة، والأخلاق المعروفة،
والنكتة الحاضرة، كان بعده عن الحقيقة، ومخالفته للواقع أمراً
سهل الملاحظة صعب الاحتمال. لذلك وجب أن تراعى
القواعد في الملهاة مراعاة شديدة، وعلى الأخص وحدة العمل،
واستمرار الخلق، وسهولة الأسلوب، وبساطة التقعيد، وطبيعة الحوار، وصدق العاطفة. وقوة الفن في إخفاء الفن، بحيث
يكون كل ما يحدث ويقال على المسرح صورة ساذجة للمجتمع
حتى ينسى المشاهد أنه في مشهد من مشاهد التمثيل، لأن
الصورة إذا رسمتها يد عاجزة اتجه فكرك فيها بعد النظرة
الأولى إلى الرقعة والألوان والإطار. قبل أن يتجه إلى التدوير
والنتوء والبعد.
يتبع
(الزيات)