مجلة الرسالة/العدد 66/نهضتنا الاقتصادية

مجلة الرسالة/العدد 66/نهضتنا الاقتصادية

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 10 - 1934


بمناسبة النمو العجيب في شركة مصر للغزل والنسيج

نهضتنا الاقتصادية هي وحدها الدليل الناهض على نضوج شعبنا المظلوم. لأنها نَسقَ من الضرورة والقدرة على النظام والثقة قائم بذاته لا يقوم على الهوى، ولا ينتظم على الطيش، ولا يصبر على الفساد، ولا يتقدم على العجز، ولا يبلغ شيئاً وراء الزعامة الرخوة. فبينما نجد النهضة السياسية تنتكس فترجع إلى الموت، والحالة الأخلاقية تنحل فتعود إلى المهانة، والحركة الأدبية تضطرب فتنقلب إلى الفوضى، وحمية الشباب تنكسر فترتد إلى الفتور، نجد هذا الركن القوي الذي يقوم على بنك مصر وشركاته يثبت أصله في الأرض، ويسمو فروعه في السماء، ويمسك هذا الوطن المنكود في مهب الأزمات ومضطرب الكوارث. واطراد النجاح في هذا العمل الشعبي الخالص مبعثه إخلاص القادة، وثقة الأمة، وضمان من الله يسميه الدين إيمانا، والخلق ثباتاً، والعلم كفاية، ونسميه نحن: طلعت حرب.

إن هذا اللحن الذي يتألف من صريف الأموال المصرية في (البنك)، وهدير البواخر المصرية في البحر، وأزيز الطوائر المصرية في الجو، ودوي المصانع المصرية في (المحلة)، لهو النشيد القومي القوي الذي يعلن استقلال البلاد، ويملأ مسامع الأجانب، وينبه مطامع الشعوب إلى أن هنا أمة حية لها ماض تستهديه، ووطن تستغله، وغرض تسعى إليه؛ وأن هذا التوسع المطمئن الحازم في شركة مصر للغزل والنسج في الوقت الذي تُتَّهم فيه كفاية البلد، وتطير الشائعات السود في جو السياسة، تصحيح للإفهام الأجنبية التي تحاول استنتاج الحقيقة المصرية من أخطاء جماعة.

كان نجاح شركات (بنك مصر) نجاحاً حقيقياً طبيعياً يطَّرد اطراد الزمن من غير بطئ ولا طفرة. ولكن نجاح هذه الشركة - شركة مصر للغزل والنسج - وهي كأخواتها مصرية الرجال والأموال والعمال والمادة، جاوز حدود الظن، وفات معاقد الأمل؛ فقد أنشئت منذ ثلاث سنوات وعدد أنوالها 448 نولاً فأصبح اليوم أربعة آلاف، وعدد مغازلها اثنا عشر ألف مغزل فبلغ هذا العام خمسين ألفاً، وعدد عمالها ستة آلاف فأصبح مع هذا التوسع ثمانية عشر ألفاً، وكانت مصانعها تنشأ بادئ الأمر على قدر الحاجة، فبسطها النجاح السريع، والفرص المواتية، والإدارة الرشيدة، حتى بلغت مساحة الأرض التي تقوم عليها اليوم مائة فدان؛ وكان عملها مقصوراً على غزل القطن المصري ونسجه، فصنعت الآ (الدوبارة، والفانلات، والجوارب، وبكر الخيط، والقطن الطبي). فأصبحت بهذا النمو العجيب في هذا الوقت القريب من أكبر المصانع العالمية.

عمل جسيم من أعمال الإدارة والفن، غزت به هذه الشركة ميادين الاقتصاد في البلاد، وفتحت الطرق الموصدة أمام الرءوس المصرية، والأيدي المصرية، لتفكر بنفسها، وتعمل لنفسها، وتنسج من القطن المصري الجميل، مجد الكنانة واستقلال النيل.

هذه هي الوطنية المثمرة بوسيلتها وغايتها. فأما ثمرة وسيلتها فتوظيف الأموال المصرية في أضمن مكان وأرج مورد، وتخفيف العطلة باستخدام هذا الجيش الكثيف من العمال وما يتبعه من مرشدين ومهندسين وكتبة، واستهلاك مقدار من القطن المصري قد يربو على خمسمائة ألف قنطار، ثم نشر الثقافة الآلية الحديثة في هذه الصناعة بمن ترسله من البعوث إلى أوربا، ومن تدربه من الأحداث في المصانع. وأما ثمرة غايتها فدفع هذا الاحتلال الاقتصادي الذي أفقر البلاد وأذل الشعب، وحبس أموالنا في بلادنا حتى لا تخرج ذهباً من أيدينا لترجع حديداً في أرجلنا، وإنماء العزة القومية بشعور المصري انه يلبس من زرعه ومن صنعه، وترفيه الحياة المصرية بكثرة الإنتاج ووفرة المكسب وتوزيع الثروة، ثم تمكين النفوذ المصري في الأسواق الشرقية والأقطار العربية، وذلك مجد ورثناه ثم حرمناه منذ طويل.

قَدَرت الأمة الرشيدة غاية هذه الشركة، وعقد آمالها بمستقبلها، وأخلدت بثقتها إلى رجالها، فلم تضن عليها بالعطف والمساهمة. وآية ذلك أنها أصدرت منذ ثلاثة شهور 17500 سند بثلاثمائة وخمسين ألف جنيه بفائدة 5 % فبينت كلها على رغم هذه الأزمة! وهاهي ذي تريد اليوم أن تطرح للاكتتاب العام خمسة وسبعين ألف سهم اقتضاها نمو المشروع، واتساع العمل، والتقدير الدقيق لحاجة البلاد، وضرورة التصدير، وضمان المستقبل. ولا ريب أن الأمة التي تئن أنين الأسير المُعاني من الاحتلال والاستغلال والامتيازات، لا تني عن تعضيد هذه الشركة وأخواتها بالأموال والآمال. بعد ما علمت بدلائل التجربة وشواهد الواقع أنها أنجح الوسائل وأقصر الطرق لإدراك الاستقلال الصحيح.