مجلة الرسالة/العدد 660/حرية الرأي
مجلة الرسالة/العدد 660/حرية الرأي
في مدى العوامل غير الشعورية
للأستاذ حسين الظريفي
إن حرية الرأي لا تتمثل في أن لنا أن نختار فيما نفكر وفي طريقة التفكير وفيما نصل أليه من مبدأ وغاية، ثم نقف عند هذا المرتفع من الحرية لا نتقدم. وانما هناك شيء يسبق الاختيار، هو أن نكون بمعزل عن التأثر بما ورثنا وبما حرثنا حتى إذا تلقينا الفكرة من غيرنا أو من عند أنفسنا بصفاء لا يشوبه كدر كان من حقنا أن ندعها أو نصدع بها، وتلك هي حرية الرأي في شقيها المتلازمين.
إذا كان من حق الباحث أن يكون حر الاختيار تجاه أية فكرة تعن له من محيط نفسه أو من الخارج، فأن من حق تلك الفكرة ألا تنظر بالعين الملونة بأصباغ الماضي القريب والبعيد، وما قيمة الخيرة في وسط غير مختار؟
لقد عرف التاريخ أناساً كان في وسعهم أن يأتوا ببعض الحقائق في بعض المواقف، وكان الظرف الذي عاشوا فيه يدعو إلى هذه الدعوة ويهيء لها، إلا أنهم كانوا من الخضوع لما عرفوا وألفوا بحيث تهيبوا التفكير بكل جديد فمروا بالحياة ولم تمر هي بهم. وعرف التاريخ أناساً جاؤوا بالفكرة الصالحة وبالمبدأ الصالح ثم قبروا وما جاؤوا به، ملومين غير مكرمين. ذلك لأن آراءهم لم تلمس إلا بيد كانت داخل قفاز مما وهب الماضي وكسب الحاضر، فتراءت بلون غير لونها وأعطى لها دون وزنها. وكذلك يفعل المقلدون.
وظاهر، أننا نرث ما ترك لنا الأولون من عقائد وتقاليد. . . بشيء كثير من التقديس. وكل فكرة جديدة تعن لنا أو تعرض علينا إنما يحدد لها أمد البقاء بالقياس إلى قوة اصطدامها بالقديم الموهوب أو المكسوب. أما التقديس فأنه وليد الغموض الذي يحيط بنشأة كل قديم، ولذلك نجد هذا التقديس يزداد أثراً في النفس وقوة على البقاء كلما كان أوغل في إبعاد الماضي السحيق وأبعد عن التعليل والتحليل. فالعقدة في تقديس الشيء هي فيما يعلو أصله من جهالة، فمتى ما استطعنا رد ذلك الشيء إلى أصله الذي صدر عنه، ظهر لنا تقديسه وكأنه ضرب من الوهم. وكان في استطاعتنا أن نأخذه بضروب النقد وبالأخذ والرد وأصبحنا أحراراً في موضوعه.
إن الخطورة ليست في ذات الفكرة، وإنما هي في تلك الهالة التي تحيط بها وهي ليست منها في شيء. ولا حق لنا في حرية الرأي تجاه ذات الفكرة إن لم نهتك دونها الحجاب ونخرجها من الإطار الذي وضعت فيه. عند ذاك فقط يصح لنا أن نتمتع بحرية الرأي ونقول: هذا خطأ وهذا صواب.
وقد يقوم بيننا وبين حقيقة الشيء حجاب هو من صنعنا ومن وضعنا، فيخرج الشيء عن حقيقته ويظهر لنا بغير مظهره فنشط بالحكم ونجور فيه، على غير إرادة وعن غير شعور.
لقد قامت خصومات كثيرة على المناهج والمبادئ، ولكنها كلها لم تنته بالنصر لأحد الفريقين المتخاصمين وبالتسليم على الفريق الآخر وإنما بقيت الخصومة قائمة بينهما تهدأ تارة وتثور أخرى. كذلك الخصومات التي قامت وتقوم بين بعض المعاصرين على غير فكرة واحدة وفي أكثر من ميدان واحد، فأنها لم تنته إلى نقطة اتصال وتفاهم، وإنما زادت كل مخاصم تعصباً لفكرته ومقتاً لآراء الآخرين، ولم ينقطع البحث إلا على القطيعة. وما كان هذا الحوار في التلقي والإلقاء في ميدان البحث والمناظرة إلا وليد تلك الأحياء التي تعيش في أحشاء العقل الباطن، وهي من غور قاعه، ومن وراء قناعه تملي إرادتها على الشعور، فتعمل ولا تُسأل.
لتكن لنا نية الخلوص إلى الحقيقة فيما نلقيه وفيما نتلقاه. ولنرفع النقاب عن تلك الرغائب العاملة فيما وراء الوعي فنحسن بها الانتفاع هنا ونتجرد منها هناك ونتخذ منا علينا حافظاً ورقيباً
ونحن إذ انسللنا في ميدان البحث عما سوى المبحوث، أعطينا الفرصة لأنفسنا وللآخرين في تحري مواضع الحق والصدق واختصرنا الزمن لتطور الأذهان وتتابع الحقائق، فدنّا بما يدين به العقل السليم ولم يقل بعضنا لبعض: لكم دينكم ولي دين. وعرفنا من بيننا من الزعيم ولم نقل: منا أمير ومنكم أمير.
تلك هي خطورة التجرد من هوى النفس عند التعرض للآراء بالتأييد أو التفنيد. وتعظم هذه الخطورة عندما تحكم في الموضوع كلمة ولي الأمر ومن يستمد منه القضاء.
ونعود فنقول إن وراء الشعور منطقة نفوذ أخرى غير ذات شعور، تصنع فيها الألوان فتصطبغ بها الأفكار والآراء. وتصدر عنها الأوامر فتتكيف بها الأقوال والأعمال. ويخرج منها النور فيضئ الطريق ويسار فيه إلى الغاية. وكل أولئك عوامل تكوين وتلوين غير شعورية، يخضع بها العقل الواعي إلى أخيه الكبير فيما وراء الوعي. فإذا أردنا التمتع بحرية الرأي بالحق وبالصدق، والإتيان بالأفكار المستقلة، كان علينا التصرف بتلك المنطقة النائية من العقل والتجرد من نزعاتها الشاذة فيما ندع وفيما نصدع وفيما نقدر به الأشياء ونقول كلمة الفصل.
ليست الحرية عندي في أن نفكر فيما نريد وكيفما نريد وأن نقول وأن نعمل، وانما الحرية في تلك السيادة التي يفرضها العقل الشاعر على ما وراءه من عقل غير شاعر تحيا فيه جراثيم الزمن لتكون ذاته وصفاته وتجعل منه ولياً للأمر، ينطق بفصل الخطاب ولكن من وراء حجاب. ولسنا من الحرية في شيء إن لم نخضع العقل إلى تجارب الواقع وننقذه من غوائل ما بكته فكبته.
لا حرية إلا في ذلك التجرد الذي يجريه العقل على نفسه، فيمحو ويثبت غير خاضع إلا لما يرى أنه الحق المطلق من قيود الماضي وأثقال كل رغبة شاذة. وفي موضع هذا التجرد من العقل تتلاشى الألوان وتزول الموانع. ويصبح العقل في موقف من الطبيعة كموقف الطبيعة منه؛ يتفاعلان على هدى ويعملان على غير سدى ولا يزالان دائماً أبداً. (بغداد)
حسين الظريفي