مجلة الرسالة/العدد 662/الأدب في سير أعلامه:

مجلة الرسالة/العدد 662/الأدب في سير أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 03 - 1946



مِلْتُن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .).

للأستاذ محمود الخفيف

- 3 -

البيوريتانية كمذهب:

يتلخص مذهب البيوريتانز في العقيدة الدينية، في الأيمان بالقدر المحتوم، ويرون وجوب خشية الله أشد خشية في عمق وإخلاص، فالله وحده هو الحاكم، وهو وحده القادر ذو الجبروت والجلال؛ ويعتقدون أن معينهم الذي يجب أن يستقوا منه دينهم هو كلام الله كما ورد في الإنجيل، فلا وساطة للكنيسة البابوية بشرح أو تأويل؛ وهم ينفرون أشد النفور من الكنيسة البابوية لتحكمها في العقول وانغماسها في السياسة والحكم وأخذها بالبدع والضلالات، واعتمادها على الزخرف والبهرج الزائف من النقوش والصور والغناء والتماثيل وما إليها من مظاهر الوثنية؛ وبعد رجالها عن روح الدين ورسالته، وإقبالهم على الحياة الدنيا وزينتها، وانخداعهم بغرورها ومادتها، وجرى الأشراف على كنائسهم وفق نظام (كلفن)، فلا تكون الرياسة للقساوسة، وإنما تكون لفريق منهم يختار، ويشاركهم فريق من غير رجال الدين على نحو قريب من الديمقراطية بعيد كل البعد عن الاستبداد؛ ويتمسك البيوريتاني بأهداب الدين، ويحرص على العبادة، ويغلو في ذلك كل الغلو، فكل رب أسرة هو في الواقع قسيسها ومرشدها ومنفذ ما توجبه روح الدين فيها، وقاري الإنجيل ومفسره لأبنائها وبناتها. . .

أما في السياسة، فإن شعورهم القوي بان الله هو الحاكم الأعلى، وأنه القاهر فوق عباده، الملوك منهم وغير الملوك، جعلهم يستصغرون كل سلطة غير سلطته، ويرون الناس جميعاً بالقياس إلى الله سواء،؛ وينفرون من كل استبداد أو إرهاب في أية صورة من صورهما؛ وقوى هذه الروح عندهم شعور آخر هو تمسكهم بحرية الضمير في الفكر الديني بتخلصه من آراء الكنيسة، وعلى هذا فحرية الرأي في السياسة جزء من هذه الحرية الفكرية التي بثها مذهبهم في نفوسهم واستمدها من التحرر العقلي العام الذي هو وليد النهضة والإصلاح الديني، والذي هو مظهر من مظاهر شعور الفرد بشخصه وذاتيته بالنسبة للمجتمع كله. . .

وفي آداب المجتمع نرى لهؤلاء البيوريتانز مبادئ خلقية يتمسكون بها تمسكهم بدينهم ويغلون فيها غلوهم فيه، وعندهم إن الروح فوق الجسد، فتطهير الروح من مفاسد الحياة لا يكون إلا بقهر الجسد وفطامه عن الشهوات ومحاربة الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولقد أسرفوا حتى كرهوا كل زينة وخافوا من كل متعة، وعدوا طيبات الحياة مبعث النزوات ووسائل الشيطان وحبائله. والبيوريتان صريح شجاع حر الرأي، إذ هو يميل إلى الطهر في كل شيء، ويميل إلى النزاهة في جميع صورها، ولذلك يطلب العدالة والحق قولا وعملا. وكما ان الأسرة البيوريتانية تأثرت بالدين نراها تأثرت كذلك بهذه المبادئ الخلقية، فرأس الأسرة حريص على أن يغرس هذه الصفات في أفرادها في صرامة وحزم، ولقد صبغ ذلك الأسرة البيوريتانية بصبغة خاصة في المجتمع الإنجليزي. . . .

وأثرت نزعتهم الدينية ومبادئهم الخلقية في نظرتهم إلى الفن والأدب، فمن حيث نزعتهم الدينية نجد انشغالهم بالدين وما يتصل به وتأثرهم بمذهبهم وتحمسهم له، يصرفانهم عن التفكير فيما سواه من معرفة أو أدب أو فن، مما يتصل بالحياة الدنيا ومسائلها؛ بل لقد كرهوا هذه الأشياء وخافوا مغبتها على عقيدتهم ومذهبهم ومالوا إلى حصر الأدب في أضيق نطاق له. وعندهم أن في الإنجيل غناء عن كل كتاب غيره، وحاربوا في شدة وعنف دراسة آداب الإغريق لما فيها من وثنية ومادية ورجس من عمل الشيطان. . . ومن حيث مبادئهم الخلقية نجدهم يحاربون الفنون في ضروب تعبيرها، لأنهم يعدونا لهواً ولعباً من غرور الحياة وفتنتها، فلا يقرون التمثيل، بل يرون فيه أنواعاً من الإغراء والفتنة تسوق إلى الفجور والضلال؛ وهم بالضرورة يمقتون الرقص ويعدونه فسوقاً وضلالاً بعيداً وحيوانية جامحة؛ وينظرون إلى الموسيقى نظرة أخف حدة من نظرتهم إلى المسرح والرقص، فإذا كانت للعبث واللهو والفتنة، فهي باطل وإثم، وإذا ذهب الناس إلى الكنيسة ليستمعوا إلى الموسيقى فحسب، وهم منصرفون عن العبادة بعيدون عن الخشوع، فوجب إبطالها من الكنيسة. وكره البيوريتانز إلى جانب ذلك التصوير والنقش والحلي والزينة وما يتصل بالجمال، لأنهم يرون في ذلك مدعاة للترف وصلة قوية بالدنيا توبق الروح وتميت في القلب الورع والخشوع.

هذا هو الجانب السيئ من البيوريتانية، وأي شيء أسوأ من أن تكون حرباً على الأدب والفن والمعرفة إلا ما كان معرفة دينية تستمد من الإنجيل؟

ولم يقتصر الأمر على هذه العيوب الأساسية في البيوريتانية، بل إن المذهب نفسه قد تطرق إليه الفساد، شأن كل مذهب ينشأ قوياً صالحاً، ثم يجر إليه الغلو والجهل وسوء الغرض ما يبعد به كل البعد عن حقيقته حتى ليقلب كل حسنة من حسناته إلى سيئة وبيلة.

فأول ما دخل عليه من فساد هو التعصب، فقد انقلب التحمس للمذهب والغلو في الدفاع عنه تعصباً فيه الزراية بغيره، وإنكار كل حق إلا ما يراه أصحابه أنه الحق؛ وتبع ذلك التمسك بالشكل دون الجوهر في كثير من المواقف.

وتطرق إلى بعض النفوس النفاق، فأصحابها يظهرون في العلن التمسك بالمذهب، ويأتون في سر ما ينكره ذلك المذهب أشد الإنكار، وشاع الحمق والغضب وحدة الجدل وسرعة التخاصم والتنابذ بين فريق من البيوريتانز الغالين في مذهبهم وبين الناس، وأساء هؤلاء بلا ريب إلى أصحاب المذهب جميعاً، إذ يحسبهم الناس كلهم من هذا الطراز. . .

وظهر بعض البيوريتانز بمظهر الضعف العقلي لمجافاتهم المعرفة كما ظهرت في بعضهم الجلافة والغلظة لإنكارهم الفنون ونفورهم من الجمال.

إلا أنه لا يجوز أن نحكم على هذا المذهب بما تطرق إليه من فساد؛ ولئن كان فيه ذوو العقول الضيقة والمتعصبون والمنافقون، فلقد جاء إلى المجتمع بمبادئ سامية وبث في النفوس الحمية والأقدام وحبب إليها الحرية.

هذه هي البيوريتانية أو هذا هو الصيف الصارم العابس الذي يمثل عصر ملتن والذي أعقب ذلك الربيع الطلق الرخي الذي يمثل عصر شكسبير؛ وبين الربيع الراحل والصيف القادم ولد ملتن كما أسلفنا عام 1608، ولد والبيوريتانية تستقبل فتوتها، وسيستقبل كذلك فتوته ويبلغها إذ تبلغ البيوريتانية اشدها، فيكون شاعرها الفذ الذي تتمثل فيه روحها في أسمى أوضاعها وأجمل صورها، والذي يجتمع في فنه جمال الربيع الراحل وجد الصيف القادم.

طفولة ملتن ونشأته

أنتصف الليل أو تجاوز المنتصف ولا يزال صبي جميل في الثانية عشرة من عمره جالساً إلى مكتبه في حجرته الخاصة به في بيت أبيه بلندن يفرك عينيه الواسعتين الجميلتين بيديه الصغيرتين، وقد أخذ النعاس يداعب جفنيه، وأخذ الكلال يغمض مقلتيه، والمصباح يكاد زيته ينفد، بعد ساعات طويلة لم يكد يحول فيها الصبي عن الكتب بصره، وذلك دأبه في أكثر لياليه. وجلست على مقربه من الصبي إحدى الخادمات وقد أمرها أبوه أن تظل بقربه حتى يأوي إلى مضجعه؛ وقد أوى أبوه إلى مضجعه منذ وقت غير قصير بعد أن عزف بعض ألحانه الجديدة والقديمة كما يفعل كل ليلة ما عدا ليلة الأحد؛ وإنها لتعجب من إقبال الصبي على كتبه واستغراقه في قراءته على صورة لم تشهد مثلها قبل في صبي مثله لم يتجاوز الثانية عشرة.

وماذا يقرأ الصبي في تلك السن؟ أيقرأ القصص الخرافية وحكايات الجن وأشباهها مما يقرأ أنداده في مثل سنه؟ لا فهو لا يحب هذا النوع من الكتب كثيراً كما يحبها الصبية من أقرانه؛ ومثل هذه الكتب لا تكون إلا للتسلية، ولن يكون من أجل التسلية هذا السهر الذي تكاد تعشى منه العينان.

كان الصبي يقرأ كتب الأدب وعلى الأخص الشعر، وكان يقرأ التاريخ على قدر ما تسمح سنه، ويدرس اللغات اللاتينية والعبرية واليونانية والطليانية. وفي ليالي الآحاد حين كانت تجتمع الأسرة حول الموقد، كان يستمع الصبي إلى ما يذكر أبوه عن آخر لحن له من ألحان الموسيقى، إذ كان يشغل الأب نفسه بالموسيقى كما كان يشغل الابن نفسه بالقراءة، وكان لأبيه في صوغ الألحان حس مرهف وذوق مهذب وإن لم يكن طويل الباع؛ كما كان له إلى قرض الشعر ميل، ولكنه سرعان ما انصرف عن الشعر إلى الموسيقى إذ أعيته معاناة قرضه من أول الأمر. . .

وانه ليعجب إذ يستعصي عليه الشعر، وهو يجده سهل الانقياد إلى ابنه منذ سن العاشرة! وها هو ذا ابنه الآن في الثانية عشرة يسمع أباه وأصحابه من نظمه ما يطربون له جميعاً وعلى الأخص أبوه؛ وكان ينظر إليه أبوه في تلك الليالي التي يخلوان فيها من الجد، ويجلسان قرب الموقد نظرات ملؤها الإعجاب والمحبة؛ ويقول لمن حوله: لقد كنت أريد أن أجعل منه كلفن ثانياً بتوجيهه الوجهة الدينية وإلحاقه بالكنيسة، فإذا به ينفر من هذا ويأبى إلا أن يجعل من نفسه هوميروس آخر، ولست أحب أن أميل به إلى غير ما يريد ويهوى، ولئن فعلت ذلك فما آتى غير العبث، فليمض فيما هو فيه من شعر وأدب.

ويرهف الرجل أذنيه إلى ابنه إذ يتكلم أو يقرأ الشعر فتملأ نفسه الغبطة، فلهذا الغلام الجميل المحيا، فضلاً عن ذكائه ورشاقته، صوت حلو النبرات، موسيقى الجرس، وكأن مقاطع كلامه أسجاع مفصلة؛ وإن أذني أبيه لتحسان ذلك إحساساً صادقاً، فليس يلقى ذلك في روعه فرط محبته إياه، ولا هي أمنية يخالها حقيقة كما عسى أن يتوهم الآباء من صفات ينسبونها لأبنائهم وان لم يكن لهم منها شيء.

ولطالما ارهف الصبي أذنيه إلى الحان أبيه فطرب لها قلبه واستقرت نغماتها في أعماق نفسه؛ وإن أثر هذه الألحان ليبدو جلياً في أشعاره الأولى وهو بعد غلام، فأخص ما يميزها موسيقى حلوة تختلط بالنفس، حتى ألفاظه فإنك تحس في كل لفظ منها سحر الموسيقى، وتجده منذ أول شوط له قادراً على أن يختار اللفظ الذي يؤدي المعنى إلى الذهن ويطرب بوقعه وجرسه النفس.

كان أبوه مُوَثِّقاً وتلك هي حرفته التي اكتسب منها ماله، أما الموسيقى فكانت هوايته؛ وكان يكتب للناس الوثائق والعقود والظلامات وغيرها من ضروب الكتابة، وكان الموثق في تلك الأيام رجلاً عند الناس عالي المكانة ينظر إليه عامة الناس إلى عالم خبير، إذ لم يكن الأمر مجرد الكتابة، وإنما كان نوعاً من الكتابة يقتضي معرفة الصيغة الخاصة والعبارات التي جرى بها العرف، وذلك كله يطلب عند الموثق وله أجره على ما يكتب؛ وبقدر ما يتفق له من طالبي خبرته يكون كسبه؛ ولقد مهر الرجال في عمله وبات بحرفته ينعم برغد العيش.

واحترف الموثق حرفته في لندن؛ وقد جاءها منذ أن طرده أبوه من بيته؛ وكان أبوه يعيش على مقربة من أكسفورد، وكان مزارعاً من ملاك الأرض يتعصب للكاثوليكية تعصباً شديداً، فلم يعجبه من ابنه ميله إلى البروتستنتية وإقباله على البيوريتانية وعد ذلك منه مروقاً من دينه وعصياناً لأمره، ولما لم تجد معه حيلة طرده ساخطاً عليه. فلما جاء لندن اشتغل بالتوثيق فنبه فيه شأنه، وبنى له بيتاً تمتع فيه بهدوء الحياة ونعم بالطيبات من الرزق.

وكانت لندن غداة شخص إليها في ربيع العصر الاليزابيثي؛ فلم تشغل الموثق جون ملتن حرفته عن الأدب والفن والعلم فأخذ من كل بطرف.

(يتبع)

الخفيف