مجلة الرسالة/العدد 662/الصهيوني الأول

مجلة الرسالة/العدد 662/الصهيوني الأول

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 03 - 1946



(مهداة إلى الأقلام النبيلة المجندة لنصرة فلسطين)

للأستاذ محمد سعيد الأفغاني

في الفاجعة الكبرى: فتنة الجمل:

سقط الخليفة الصابر الشهيد عثمان بن عفان مضرجا بدمه، ضحية المؤامرة الخطرة التي دبرها بإحكام عبد الله بن سبأ مالئ الأرض فتناً وشروراً وفساداً. فضج الناس من هول الفاجعة وفداحة الخطب وجأروا يطالبون بثأر عثمان. فانبلج ذهن أبن السوداء عن خطة مضاعفة ينجو بها هو ومن معه من القصاص، ثم يتحفز هو لأحكام مؤامرة أكبر، وسوق هذه الجماهير نحو فاجعة أكبر، وكارثة لا تذكر إلى جانبها الكارثة بعثمان رضي الله عنه.

انضم هو ومن تابعه إلى علي بن أبي طالب، حين انبرت السيدة عائشة وطلحة والزبير يؤلبون الجماهير للطلب بدم عثمان، فكان لابد للأمام علي من الخروج لرد السيدة ومن معها خشية أن ينبثق صدع جديد، فلما وصل إلى الكوفة كان أبن السوداء وأعوانه انشط جنده في الدعوة لأمره، وبذلك كانوا في حرز حريز من الثائرين لعثمان الذين احتلوا البصرة يستعدون.

جرت بين علي وأصحاب الجمل مكاتبات ثم سفراء ووفود، وتفاهم الفريقان، وفرح الناس بانقشاع الغمة، وتراضي المسلمين وجمع الكلمة على المشاورة في كل أمر، وعلى أن يكون أول الأمور حلاً أن يأخذ علي في قصاص قتلة عثمان، ورتق هذا الفتق الذي أحدثه أبن سبأ وأعوانه في أرض الجزيرة.

أرسل علي إلى رؤساء أصحابه بما تم عليه الإجماع من اتفاق وكذلك فعل طلحة والزبير، واتفقوا على الصلح، وبات الناس بليلة لم يبيتوا بمثلها فرحاً وابتهاجاً بما أشرفوا عليه من العافية والسلامة. أما أبن السوداء وأصحابه فقد باتوا بشر ليلة باتوها قط، وجعلوا يتشاورون ليلتهم في سر من الناس خشية أن يفطن أحد لما يبيتون من الشر.

المؤامرة:

أشرف الفريقان من أصحاب علي وأصحاب الجمل على الصلح والاجتماع، واطمأنوا إلى نوم هنئ لما وفقهم الله إليه، وكان في هذا ما يسر الناس جميعاً، إلا هذا الفريق الذين لا يطيب لهم عيش إلا بتأريث الشر، وهم هؤلاء السبئية المؤلبة على عثمان والوالغة في دمه، عرفوا أن لا مقام لهم سواء انتصر علي أم خصومه. لان علياً لم يسكت عن إقامة حد متى تم له الأمر وأمكنته الفرص، وكذلك أصحاب الجمل أن ظفروا لم يتركوا أحداً ممن شرك في دم عثمان، لقد كان هم الناس من الفريقين قتلة عثمان أينما كانوا.

جمع أبن السوداء هؤلاء النفر في ظلمة الليل إليهم، وكان منهم علباء بن الهيثم وعدي بن حاتم وخالد بن ملجم وسالم بن ثعلبة العبسي وشريح بن أوفي والأشتر. . .، في عدة ممن وقعوا في شرك الطاغية عبد الله بن سبأ فلعب بعقولهم وسيرهم وأتباعهم إلى عثمان، جمعهم فتداولوا بينهم هذا الكلام:

(ما الرأي؟ وهذا والله على - وهو أبصر الناس بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقربهم إلى العمل بذلك - وهو يقول ما يقول ولم ينفر إليه إلا قتلة عثمان والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شام (نظر) القوم وشاموه، وإذا رأى قلتنا في كثرتهم؟؟. . . انتم والله ترادون، وما انتم بأنجى من شئ).

الأشتر: أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما، وأما علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم. ورأى الناس فينا واحد، وإن يصطلحوا فعلى دمائنا. . . فهلموا - يا قتلة عثمان - فلنتواثب على علي فنلحقه بعثمان، فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكون.

أبن السوداء: بئس الرأي رأيت: انتم يا قتلة عثمان من أهل الكوفة بذي قار ألفان وخمسمائة. وهذا أبن الحنظلية (القعقاع أبن عمرو) وأصحابه في خمسة آلاف: بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلاً، فارقأ على ظلعك.

علباء بن الهيثم: - انصرفوا بنا عنهم ودعوهم؛ فإن قلوا كان أقوى لعدوهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم. دعوهم وارجعوا فتعلقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تتقون به، وامتنعوا من الناس.

أبن السوداء: - بئس ما رأيت، ود - والله - الناس أنكم على جديلة (ناحية) ولم تكونوا أقوام برآء، ولو كان ذلك الذي تقول لتخطفكم كل شيء.

عدي بن حاتم: - والله ما رضيت ولا كرهت، ولقد عجبت من تردد من تردد عن قتله في خوض الحديث؛ فأما إذا وقع ما وقع ونزل من الناس هذه المنزلة، فإن لنا عتاداً من خيول وسلاح محموداً، فإن أقدمتم أقدمنا وان أمسكتم أحجمنا).

أبن السوداء: - أحسنت.

سالم بن ثعلبة: - من كان أراد فيما أتى الدنيا فإني لم أرد ذلك، والله لئن لقيتهم غداً لا أرجع إلى بيتي، ولئن طال بقائي إذا أنا لاقيتهم لا يزيد على جزر جزور. وأحلف بالله: إنكم لتفرقون من السيوف فرق قوم لا تصير أمورهم إلا إلى السيف.

ابن السوداء: - إن هذا قد قال قولا.

شريح بن أوفي: - أبرموا أموركم قبل أن تخرجوا، ولا تؤخروا أمراً ينبغي لكم تعجيله، ولا تعجلوا أمراً ينبغي لكم تأخيره، فإنا عند الناس بشر المنازل، فلا أدري ما الناس صانعون بنا غداً إذا ما هم التقوا.

ثم تكلم أبن السوداء بعد أن أدلى كل بدلوه فقال:

(يا قوم، إن عزكم في خلطة الناس، فصانعوهم، وإذا التقى الناس غداً فأنشبوا القتال ولا تفرغوهم للنظر: فإذا من انتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع، ويشغل الله علياً وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون. فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون).

وعلى ذلك انفض الاجتماع الأثيم، وأحكمت الخطة.

قاتل الله ابن السوداء، فو الله ما أراه إلا شيطاناً خلق من مارج من نار، ما أبصره بطرق الفتنة وبث العقارب، وما أدق توهينه تلك الطرق التي أشار بها أصحابه، ما أفطنه إلى ضعفها وقلة غنائها، ثم كيف آل به تقليب الرأي حتى اهتدى إلى التي ليس بعدها شر منها: قاصمة الظهر ومبيدة الأمم.

ومنذ الذي يقرأ هذه المؤامرة، وكيف أدار أصحابها الآراء على وجوهها المختلفة، ثم لا يرجع ذهنه بسرعة البرق إلى ما ذكره أصحاب السير عن مجلس كفار قريش في دار الندوة: يجيلون الرأي في محمد ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، وقد حضر اجتماعهم ذاك إبليس بهيئة شيخ نجدي، فجعل كما عرض أحدهم رأياً في القضاء على دعوة محمد وهنه وأظهر فساده، حتى أعيى القوم جميعاً بحجته، فسألوه: ما عنده؟ فقال: تختارون من كل قبيلة رجلاً جلداً، فيجتمعون ويضربون محمداً ضربة رجل واحد فيضيع دمه بين القبائل، ولا طاقة لبني هاشم بقبائل العرب كافة).

أليست تلك المؤامرة نسخة (طبق الأصل كما يقولون) عن هذا المجلس؟

أليس أبن السوداء هذا إبليس بعينه؟ وأستغفر الله، فأين يقع منه إبليس؟ لهو والله أبلغ نكاية بهذه الأمة من إبليس، وأبعد أثراً في الدس والكيد. وأخشى أن يكون الذي ظنوه إبليس أبناً من أبناء السوداوات أبطال الشر والمكر والفساد من اليهود: تنكر لهم شيخاً نجدياً أحكاماً لدسيسته.

لما كان الغلس انسل هؤلاء المؤتمرون - وما يشعر بهم جيرانهم - إلى الأمر الذي أجمعوا عليه انسلالاً وعليهم ظلمة، فخرج مضريهم إلى مضريهم، وربعيهم إلى ربعيهم ويمانيهم إلى يمانيهم، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين بغتوهم، وحيرتهم الصدمة فقد كانوا باتوا على صلح تغشاهم الطمأنينة والسكينة.

فجئ الناس جميعاً، وخرج طلحة والزبير فسألا: (ما هذا؟) فقالوا: (طرقنا أهل الكوفة ليلاً). فقالا:

(قد علمنا أن علياً غير منته حتى يسفك الدماء، ويستحل الحرمة، وانه لن يطاوعنا).

ثم خرجا في وجوه الناس من مضر، فبعثنا إلى الميمنة - وهم ربيعة - عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يعبئها، وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وثبتا في القلب.

استطاع أهل البصرة أن يصدوا أولئك المعتدين حتى ردوهم إلى عسكرهم، فسمع على الصوت - وكان السبئيون المتآمرون قد وضعوا طبقاً لخطتهم رجلاً قريباً منه ليخبره بما يريدون - فلما قال: (ما هذا؟) قال ذاك الرجل:

(ما فجئنا إلا وقوم منهم قد بيتونا، فرددناهم من حيث جاءوا فوجدنا القوم على رجل، فركبونا وثار الناس).

فقال علي لصاحب ميمنته (ائت الميمنة) وقال لصاحب ميسرته: (ائت الميسرة) ثم قال: (قد علمت أن طلحة والزبير غير منهيين حتى يسفكا الدماء، ويستحلا الحرمة، وانهما لن يطاوعانا).

والسبيئة مجتهدون في إنشاب القتال لا يفترون، والتحم الناس بعضهم ببعض، ودارت المعركة فاصطلى بنارها الناس جموعاً، وكاد هؤلاء الناس الذين باتوا مصطلحين على غير حال، كادوا أن يتفانوا، وانحسرت المعركة عن خمسة عشر ألفاً من القتلى وما لا يحصى من الجرحى، وكان فيمن قتل رؤوس المهاجرين والأنصار وزعماء الناس وعدد جم من القراء والعلماء والمجاهدين الأولين، وسجل التاريخ أفجع نكبة حلت بالمسلمين منذ كان للناس تاريخ.

وبعد، فهل ألب الأمصار على عثمان إلا أبن السوداء؟

وهل غرهم أحد بمثل ما زور لهم من كلام ترويجاً لدعوته؟

وهل دم عثمان إلا نجاح خطة أبن السوداء هذا؟

وهل استطاعت الروم وفارس أن تنال من هؤلاء الفاتحين بمثل ما نال منهم أبن السوداء؟

وهل هذه العشرات الألوف من دماء المهاجرين والأنصار من صحابة محمد وتابعيهم إلا ثمرة خبه وكيده ومكره بهذا الدين وأهله؟

وما زال المسلمون من يومهم ذاك إلى الآن في شرور متتالية يزجها إليهم أبناء السوداوات في مختلف الإعصار والأمصار: دساً في دينهم وتفرقة لكلمتهم، واستهانة بتاريخهم، واستخفافاً بتقاليدهم ومقوماتهم، ووضعاً من شان لغتهم، وإفساداً لأخلاقهم، وتهويناً من سلامة نظمهم، وإشادة بكل مذهب أجنبي يفكك عراهم ويأتي بنيانهم من القواعد. والغريب أننا قوم (طيبون جداً) لا نرى غضاضة في توسيد أمورنا الصغيرة أو الكبيرة إلى الذين كانوا مطايا الاستعمار وجواسيس الأجانب، وأجراء لكل دعوة هدامة ودولة طماع. نفعل ذلك عن غفلة تارة وعن غرور تارة، وقد كتب الله على هذه الأمة ألا تفطن إلى أبناء السوداوات هؤلاء إلا بعد أن يبلغوا منها ما أرادوا ليقضي الله أمراً كان مفعولا.

ترى هل بدأنا نتعظ؟؟

سعيد الأفغاني