مجلة الرسالة/العدد 663/الأدب في سير أعلامه:

مجلة الرسالة/العدد 663/الأدب في سير أعلامه:

مجلة الرسالة - العدد 663
الأدب في سير أعلامه:
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 03 - 1946



مِلْتُن. . .

للأستاذ محمود الخفيف

طفولة ملتن ونشأته

وأحدثت الوراثة والبيئة أثرهما في جون ملتن، فأحب الأدب وأحب الموسيقى كما أحبهما أبوه، وظهرت فيه منذ صغره تلك النزعة الاستقلالية التي طرد بسببها الأب من كنف أبيه.

ولا ريب أن جون ملتن قد حرص على أن تنمو هذه النزعة الموروثة في نفس ابنه، وآية ذلك أنه لم ينشأ أن يحمله على ما لا يحب فتركه وشأنه حين أعرض عن الالتحاق بالكنيسة. والحق أن نزوع ملتن إلى الاستقلال سينمو مع الزمن حتى يصبح من أبرز صفاته.

وكان إعجاب جون ملتن بابنه عظيماً، وكذلك كان إعجاب أصحاب أبيه به، فما سمعوا أشعاره التي ينظمها وهو في الثانية عشرة من عمره إلا أفاضوا من ثنائهم عليه، وما رأوا إقباله على الدرس إلا تحدثوا بنباهة مستقبله؛ وأنهم ليرون سمات العبقرية تختلج على محياه الأبلج الجميل وهو بعد في سن اللعب واللهو. . .

وأحدثت كثرة الثناء عليه أثراً قوياً في نفسه سوف ينمو على مر الأيام؛ فقد داخله شعور منذ طفولته أنه فوق مستوى غيره من الأطفال، وأنه سوف يغدو رجلاً عظيماً، وكان يقوي شعوره بنفسه وإحساسه بمقدرته كلما أزداد إطلاعه وأتسع مجال ثقافته.

وكان أبوه عظيم الثقة في كفاية ابنه ومقدرته، فعول ألا يدخر وسعاً في تنشئته ليكون رجلاً عظيماً، فأختار له مربياً يعلمه في المنزل هو توماس ينج، وأرسله إلى مدرسة قريبة هي مدرسة سنت بول؛ وكان للمربي الذي يتعهده في البيت شهرة في فنه فائقة كما كان (لاسكندر جل) رئيس المدرسة التي ألحق بها صيت عظيم، يمتدح الناس أسلوبه وفنه في التربية والتعليم.

وكان أبوه إذا فرغ من توثيقه ومن ألحانه يعينه بنفسه على فهم ما يقرأ ويرشده إلى الكتب التي تلائم مزاجه وطبعه، وكذلك كان يعلمه الموسيقى إذا أنس منه إقبالاً شديداً على الألحان وتذوقها وتفهم تأليفها.

وشهد مربيه في المنزل ومعلموه في المدرسة أن عقل الصبي أكبر من سنه، وأن له إلى الأدب ميلاً قوياً، وأن ذوقه الأدبي مولود فيه، فهو جزء من نفسه، وهو قوام إدراكه وحسه، وما وقعت عينا امرئ عليه إلا تبينتا فيه شاعر الغد؛ فالشواهد فيه على ذلك بينة متعددة، تطالع المرء في تأمله وتفكيره وفي عذوبة حديثه وسعة ثقافته وجمال عبارته وإشراقها، وقدرته منذ حداثته على اختيار اللفظ الجميل وقعه في النفس والذهن، وانفعال نفسه للموسيقى وللبليغ من القول منثوره ومنظومه، هذا إلى ما تنم عنه ملامح وجهه الوسيم وما تنطق به عيناه الحالمتان الواسعتان من رقة وظرف وصفاء نفسي، وما يتسم به مظهره من رشاقة وأناقة وسلامة ذوق.

وكان محيط قراءته واسعاً في اللغة الإنكليزية وآدابها. وكان للشاعر العظيم سبنسر المتوفى سنة 1599 مكانة عظيمة في نفسه، تعمق دراسته وتأثر به تثراً شديداً، واستوعب قصيدته العظيمة أو على الأصح كتابه الشهير (الملكة الجنية) وأحاط بما فيها من خيال وجمال، وفطن إلى ما أراده سبنسر فيها من آراء دينية وخلقية، فقد كان كل فارس من فرسانها الإثني عشر يمثل فصيلة من الفصائل، وكان كل من هؤلاء الفرسان بطل فصل من فصول القصة يدور حول معنى مقصود اتخذت الحكاية وسيلة لإبرازه وألبسه الشعر القوي الجميل لباساً ساحراً حبيباً إلى القلوب، وكانت شخصية الفارس الأمير أرثر هي الرابطة التي تربط بين فصول القصيدة كلها؛ ولهذا كانت أهم شخصيات الكتاب وأحبها إلى القراء. ولقد كان سبنسر أعظم شعراء عصر شكسبير غير المسرحيين، ومن أشدهم تأثيراً في جيله، ويعد قمة من القمم الشوامخ في تاريخ الشعر الإنكليزي كله.

وثمة شاعر آخر أقبل على قراءته الصبي المجد، هو سلفستر المتوفى سنة 1618 أي بعد عامين من وفاة شكسبير والذي نقل إلى الإنكليزية القصة الشعرية الشهيرة التي نظمها الشاعر الفرنسي دي بارتس سنة 1578 وموضوعها يدور حول خلق الدنيا، والتي طبعت ثلاثين مرة في ست سنوات وترجمت إلى ست لغات. ولقد أعجب سبنسر نفسه إعجاباً شديداً بهذه القصيدة وبموضوعها. ولكم وجد فيها الصبي ملتن لنفسه وبخاصة موضوعها الذي ظل خياله في خاطره حتى ظهر بعض أثره فيما بعد في قصيدته الخالدة الكبرى، الفردوس المفقود. ولقد أعجب الصبي في تلك السن بمقدرة دي بارتس الفرنسي على اشتقاق ألفاظ جديدة لمعانيه، كما أعجب بمحاكاة سلفستر إياه في الإنكليزية، فكان لهذه الترجمة أثرها في ذوقه وفنه إلى جانب أثرها في خياله وحسه.

وتطاول الصبي إلى قراءة شكسبير فقرأه على قدر ما يتسع له إدراكه، كما قرأ بعض المسرحيات الشهيرة لشعراء المسرح النابهين غيره في العصر الاليزابيثي.

وكان كثير المطالعة للإنجيل حتى وعت ذاكرته أكثر أجزائه، وألف لغته وتذوقها وتأثر بها قلبه ولسانه.

ونهل مع هذا كله من مناهل الإغريق والرومان، في التاريخ والأدب والشعر والميثولوجيا، وأحب المنهل الأخير حباً شديداً فكان لا يمله مهما استزاد منه، وصارت له خبرة بهذه الناحية من خيال الإغريق والرومان قل أن يتوافى مثلها لمن كان في مثل سنه، ولسوف يمتلئ شعره منذ حداثته بالإشارات البارعة إلى آلهة الإغريق وإلاهاتهم فيما يعرض له من وصف فيلبسه الجمال والسحر. . .

هكذا نرى الصبي في أولى مراحل ثقافته ينتقل كالفراشة الطليقة بين أفواف الربيع الاليزابيثي فيبهج نفسه جمال الربيع، ويملأ حسه اقتتان الربيع، وترن في جوانب سمعه ألحان الربيع، وتستقر في خاطره تلك الأصداء الساحرة الجميلة التي تجاوبت بها قيثارات سبنسر وسلفستر وشكسبير. . .

فتطير روحه الوثابة فتطوى العصور إلى ربيع قديم أشبه بهذا الربيع الذي انطوى مهرجانه من قريب، وذلك هو الربيع الإغريقي فتنعم روحه بزينته وقوته وسحر أساطيره وأنغام مزاميره وتختزن ذلك نفسه كما تختزن الزهرة العطر، وتحلم تلك النفس الشاعرة أحلام الخيال والجمال حتى تصرفها عن حلمها البهيج الرؤى فترة فيها كثير من الجد ولا يكاد يوجد فيها شيء من الزينة.

ملتن في الجامعة:

وفي السادسة عشرة من عمره تأهب ملتن ليدخل الجامعة، فقد اجتاز الامتحان الذي يؤهله لها في يسر، وتفوق في نجاحه تفوقاً ملحوظاً وأقدم مزهواً ليلتحق بكمبردج، وكانت الكلية التي انتظم في سلك طلابها، والتي لبث فيها من عمره سبع سنين هي كريست، ولسوف تفتخر تلك الكلية فيما بعد بأن كان ملتن أحد أبنائها، ولكنها اليوم تتلقاه كما تتلقى غيره من الفتيان، لا تدري ماذا يكون غداً من أمره.

وأقبل الفتى على كليته فرحاً يداخله من الزهو ما يداخل كل يافع في مثل موقفه؛ يحدث نفسه في حماس عما هو عسى أن ينهل فيها من المعرفة ويصاحب من الأقران؛ وما هو عسىٌّ أن يأخذ منه بقسط من المناظرة والحوار وتبادل الرأي بينه وبين أقرانه، وكل أولئك حبيب إلى نفسه التواقة إلى الدرس الطلابة للعلم.

وتلفت الذين سبقوه إلى الكلية يتطلعون على عادة الطلاب إلى أقرانهم الجدد في أول الموسم، فوقعت أعينهم من بينهم على فتى أنيق الملبس، جميل الطلعة، حلو السِمت، في قسماته وسامة رائعة، وفي ملامحه أمارات الذكاء، وفي نظرته جد يشبه الكبرياء، وفي عينيه تأمل وحلم، وفي مشيته والتفاتته هدوء ودعة، وفي تحيته رقة ودماثة.

وسرعان ما تعرف إليه فريق منهم، فما لبثوا أن أعجبهم اتساع أفقه وحدة ذكائه؛ وإن كانوا يرون فيه كثيراً من الاعتداد بنفسه ورأيه، ويرون فيه كذلك حرصاً شديداً ما رأوا قبل مثله على قواعد السلوك واحترام النفس، يكادون يحسونه تزمتاً وانقباضاً لا يرتاحون إليه؛ وإن فيه لميلاً قوياً إلى الشعر، يحفظ منه قدراً عظيماً ويشير إلى مواضع الجمال ويستمع في شغف وطرب إلى ما ينشد أقرانه مما غاب عنه ويعجب كيف غاب عنه؛ ولما توثقت بينهم وبينه المعرفة رأوا فيه شاباً يأخذ نفسه بقواعد الطهر والعفة وهو في ذلك صلب الإرادة لا يلين ولا يحيد.

وما لبث ملتن أن أحس أنه علق من الآمال على الكلية أكثر مما يريه الواقع، فأين منه أيام قراءاته في بيته، وأين منه حريته في هاتيك الأيام الحلوة؛ إنه كلما ازداد صلة بالكلية أحس في نفسه النفور شيئاً فشيئاً من جوها، والضيق من كثيرين من القائمين بأمرها؛ ولكن ما من البقاء زمناً بها بد، وما على المرء إلا أن يحمل نفسه على الصبر حتى ينقضي أمر بقائه. . . بهذا كان يتحدث الفتى إلى نفسه، كلما ساوره من حاله ضيق أو كدر خاطره أمر.

وكانت الكلية غداة التحق بها ملتن لا تزال فيها على الرغم من النهضة بقية من العصور الوسطى، وذلك في روحها وفي مواد دراستها، وكانت أهم مواد الدراسة بها المنطق والبلاغة والفلسفة المدرسية، واللغتين اللاتينية والإغريقية، وشئ من علوم الرياضة، وقليل من الفلك، وقدر يسير من التاريخ الروماني ومن عجب ألا يكون التاريخ الإنجليزي ولا الأدب الإنجليزي من مواد الدراسة، على أنه كان لمن يشاء أن يدرس هاتين المادتين أن يفعل ذلك إذا أبدى للكلية رغبته.

ولكن على الرغم من طابع العصور الوسطى، دبت في الكلية النهضة، فشاعت فيها رغبة الإصلاح والنهوض، وملأ جوانحها كفاح من أجل هذا الغرض؛ وكان دعاة الإصلاح يبتغون أن يصلحوا نواحي الحياة كلها، والتعليم والسياسة والدين والاجتماع؛ ففي التعليم رغب فريق أن تتخلص الكلية من بقية العصور الوسطى، وتعني في مناهجها ودراستها بما هو أقرب إلى روح العصر، وما هو أدنى إلى الإنسانية والحرية الفكرية؛ وفي السياسة تطلع المصلحون إلى إبراز حق الفرد والاعتراف بكيانه واحترام إرادته؛ وفي الدين قوي الميل إلى البيوريتانية والبروتستنتية؛ وإن كان ثمة خلاف قد دب بين الكلفنية والأرمينية، أعني بين عقيدة القدر المحتوم التي آمن بها كلفن، وبين عقيدة قبول التوبة وغفران الذنب التي نادى بها ألرمينيوس الهولندي سنة 1603؛ وفي الاجتماع دعا المصلحون إلى الفضيلة وإلى محاربة الرذيلة، وظهر أثر ذلك في تشدد القائمين على أمر الطلبة ألا يسمحوا للفتيات اللائي يتعهدن حجرات نوم الطلاب بدخول تلك الحجرات إلا إذا غادرها أصحابها.

واستجاب ملتن لهذه النزعة الإصلاحية، فقد صادفت هوى في نفسه التي تعشق الحرية وتنزع إلى الاستغلال، وتعلقت بها روحه الوثابة الفتية؛ وبدأ بها أول شوط له في الدفاع عن حرية الفكر؛ ولكن ذلك أخذ يغضب عليه القائمين بالأمر إذ اتهموه بالتمرد والثورة إلا قليلاً منهم، وسبب له كراهة بعض أقرانه ممن لم يعجبه اعوجاجهم وإسفافهم وشراسة طباعهم.

لم يدع ملتن فرصة اجتماع إلا وقف يندد بالفلسفة المدرسية معلناً إنه لا يرى فيها أية فائدة، ولئن اقتصرت الكلية على هذا المنهج فلن يكون من ورائه جدوى. وراح ملتن يسخر من تلك الكتب التي تدرس في الكلية، والتي هي آثار أشياخ ضيقي الصدر من القساوسة تشتم فيها رائحة الحجرات الضيقة المظلمة التي كتبت فيها؛ ويتساءل: أليس أجدر بنا وأجدى علينا أن ندرس بدلاً منها طبائع الكائنات الحية وأخلاق الناس وأحوال دول العالم؟ ويوجه ملتن سهاماً لاذعة إلى مدرسي المنطق والبلاغة، فهم يتكلمون كما يتكلم المتوحشون والأطفال، وإنه يراهم أقرب إلى العصافير منهم إلى الرجال. . .

ويعجب الطلاب من حمية هذا الفتى الذي عهدوه في مجالسهم وديعاً رقيق الحاشية، وتعجبهم حماسته وجرأته وصراحته وتمرده على القيود التي طال بها العهد؛ ولكن المدرسين ساخطون عليه ناقمون على ثورته، يرمونه بالغرور ويتهمونه بالشغب والعناد والعصيان، وقد شاع أمره فيهم حتى ضاقوا به ذرعاً من يعلمه منهم ومن لا يعلمه.

وأدى بالضرورة مسلكه هذا إلى الشحناء بينه وبين القائم على أمره من رجال الكلية وهو (شابل) فكان يحس أن الطالب جون ملتن يحتقره بنظراته، ولعله يراه متوحشاً أو طفلاً أو نوعاً من العصافير؛ ويرى أنه يخالف عن أمره، فلا يؤدي ما يطلب إليه أداؤه كتابة من دروسه، ولا يتقيد بما يرسم له من نظام في حياته اليومية؛ يريد أن ينصرف إلى ما يحب من قراءة، ويعلن إلى معلمه أنه لا يقتنع بجدوى تلك العلوم التي هي تراث العصر المدرسي، وأنه يأسف على فقدانه حريته التي نعم بها قبل التحاقه بالكلية؛ ويرى أنه كان يد في مدرسه سنت بول من العلم المجدي ما لم يجد مثله هنا، ومن الحرية ما لا يجد بعضه في الكلية، ومن عطف معلميه ومسايرتهم إياه إلى ما يحب ما لا يتمتع هنا بشيء منه.

(يتبع)

الخفيف