مجلة الرسالة/العدد 663/القصص

مجلة الرسالة/العدد 663/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 03 - 1946



قصة البانية:

المهد الذهبي

(مهداة للأستاذ الكبير كامل كيلاني)

نقلها الأديبان:

وهبي إسماعيل حقي وإبراهيم خير الله

- 3 -

اتجه الشابان إلى المقهى الذي اعتادا الجلوس عليه، وقبل أن يصلاه قابلهما صديقهما (شفيق حامد) ومر بهما دون أن يحييهما، فظنا أنه لم يرهما، أو أن شاغلاً شغله عنهما، ثم إنهما انتحيا في المقهى ناحية خالية من الناس واتخذا مقعدين متقابلين وبعد صمت لم يدم طويلاً قال فريد:

- لا يعلم إلا الله وحده أين أكون بعد شهر من هذا التاريخ؟

- من الرأي ألا تبرح المدينة إلا إذا دعت ضرورة ملحة.

- وهل أنا مجنون؟ كيف لا أبرحها وعندي جبل من النقود؟

- لا تبرحها لنرى أولاً مقدار النقود التي ستحصل عليها من هذا الكنز.

- إنها عدة ملايين على أقل تقدير.

- ما دمت تريد الملايين يجب أن تظل هنا مؤقتاً.

- أظل هنا لأخرج كل يوم إلى المتجر وأقضي نهاراً متعباً في البيع والشراء كما كنت قبلاً! إن ذلك لن يكون.

- أمهلني لأتمم حديثي. يجب أولاً أن تعرف قيمة الآثار المادية، ثم يجب ثانياً أن تبحث عن طريقة لبيعها، فإذا ما تم ذلك وأصبحت النقود معك فيجب إبقاء عليها من الضياع أن تضع مقداراً كبيراً منها في بنوك سويسرا وانجلترا، ومن النقود الباقية يجب أن تنشئ معهداً خيرياً يعلو به ذكرك، ويخلد اسمك.

- نعم! في مقدمة مشروعاتي أن أعمل شيئاً خدمة للوطن وليكن معهداً كما تقول للتعليم بالمجان.

- معهد خيري لتعليم المواد المختلفة ويتبعه مستشفى لمعالجة الفقراء، وتجلب لهما كبار العلماء، ومشاهير الأطباء في العالم، عدا من يقع عليهم الاختيار من أبناء الوطن المبرزين، وتدفع لهم أجوراً طبية.

وماذا أيضاً؟

- تريث فحديثي لما ينته، ثم تنشئ أيضاً ملجأ للعجزة والمعوزين الذين نكبهم الدهر في أنفسهم وأهليهم. . . وتؤسس مكتباً للمحاماة يضم أشهر المحامين ليقوموا بالدفاع عن أولئك القرويين الذين تضيع كثير من حقوقهم لجهلهم بالقضايا وعدم ترددهم على المحاكم. وتلحق بهذا المكتب داراً للكتب! ولكن اترك أنا هذه الأخيرة فأني أريد أن أقوم بها.

لماذا؟

هل تريد أن تعمل أنت الآخر شيئاً؟ قال فريد هذه العبارة بتعجب رداً على استدراك صديقه كأنه لم يرقه. فأجابه محمود:

نعم! أريد أن أخلد أنا الآخر اسمي ولكن ذلك يتوقف على المقدار الذي ستتنازل لي عنه، فإن كان كثيراً فسأقوم أنا أيضاً بتأسيس معهد آخر.

ومن أي أنواع المعاهد يكون هذا المعهد؟

معهد ثقافي أجمع فيه علماء اللغة، وأقوم بطبع مجلة شهرية، وأدون مفاخر الألبان وقصص القدماء وأشعارهم وأغانيهم وعاداتهم بحيث لا أترك بقعة من بقاع الدنيا إلا سردت تاريخها وطبائع أهلها، وكل ما مر بها، وأخرج كل ذلك في كتب مفيدة، وأكافئ مؤلفيها أحسن مكافأة تشجيعاً وحثاً على الاستزادة، وسأؤلف لجنة تقوم بتصحيح وطبع القواميس وترجمة كتب من عيون الأدب العالمي، وسأنشئ داراً عظيمة للكتب وصالة عظيمة للمحاضرات.

هذا حسن، وستقوم به إن شاء الله.

ثم إنه يلزم بعثة من رجال ممتازين ممن تفوقوا في مدارسنا لإرسالها إلى الخارج لتتخصص في الفنون التي ستقوم معاهدنا بتعليمها. وفي هذه اللحظة داخل المقهى صديقهما شفيق حامد وتلفت عن يمينه وعن يساره وأمامه وخلفه كأنه يبحث عن شخص بعينه، ولما وقع نظره على فريد ومحمود اقترب منهما فحياهما وسألهما عن السيد لطفي فأجابا أنهما لم يرياه فاستأذنهما وخرج يواصل البحث عنه، ولم تمض بضع دقائق على خروجه حتى دخل السيد لطفي يتلفت هو الآخر ولما مر بجانبهما قال له فريد: لقد كان هناك منذ قليل (شفيق) يبحث عنك.

وإلى أين ذهب؟. ألم يقل لكما؟

لا ندري! فقد خرج دون أن يقول إلى أين ذاهب؟

لعله يرجع، فإني متعب من البحث عنه، ثم أدنى كرسيه منهما وقال: هل لديكما ما يمنع من أن أتشرف بالجلوس إليكما فقالا له:

تفضل فليس أحب لدينا من ذلك.

خلع السيد لطفي معطفه ووضعه فوق مسند الكرسي ثم جلس مع الشابين تبدو عليه مظاهر الحزن ودلائل التفكير مما حمل فريداً ومحموداً على سؤاله.

ماذا عندك؟ وفيم تفكر؟

لا شيء، فلم يجد للآن جديد وإني أعتقد أنه بعد قليل من الزمن سيكون لدينا أخبار جديدة مهمة.

وهل تعتقد أن شيئاً مهماً سيحصل؟

أقصد أخباراً شخصية خاصة لا مصلحية عامة.

طبعاً، إنك تعرف أننا نحب أن نسمع عنك كل خير ونتمنى لك كل سعادة.

أعرف ذلك جيداً وأشكركما.

على كل حال فإننا نهنئك مقدماً بما تنتظر من خير.

آه! لو تعرفان ماذا أنتظر؟ ثم رأى صديقه شفيقاً قد دخل من باب المقهى فقال لهما: هذا هو شفيق؛ وناداه فاقترب منهم وقال للسيد لطفي: أين كنت؟ فقد فتشت عنك كثيراً، إني أريد أن أحدثك على انفراد في موضوع هام.

انتظر قليلاً حتى أشرب الشاي فقد أوصيت عليه.

المسألة مهمة، لا تحتمل الانتظار، فاعتذر السيد لطفي للشابين ولبس معطفه وخرج مع شفيق.

قال فريد لصاحبه ضاحكاً ماذا بهما؟

قد سمعت إنه يقول: أعمال خصوصية، ولست أدري ماذا يريد بها؟

لا يبعد أن يكون قد التحق بوظيفة؛ فإنه يسعى لهذا من زمن بعيد، وأنا أعلم أن حاله سيئة جداً.

مسكين والله؛ فقد كانت أسرته من أغنى الناس، وكانوا جميعاً يرتعون في بحبوحة النعيم ولكن! هي الأيام.

يقال في المثل: ارحموا عزيز قوم ذل، فإن مصيبته أكبر من مصيبة من لم يذق للعز طعماً.

لقد باعوا كلشيء بالمزاد؛ فقد كانت بيوتهم مجاورة لبيوتنا. . . وبعد فترة سكوت قصيرة رجعا إلى ما كانا فيه من حديث قبل مجيء السيد لطفي، فأخذا يتباحثان في أحسن الوسائل وأنجح الطرق لإنفاق هذه الأكداس المكدسة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة. . .

ولما دقت الساعة الثامنة خرجا من المقهى وفي الطريق دعا فريد محموداً للمبيت معه في منزله، ولكن محموداً اعتذر؛ فقد شم من بعيد أن والد صديقه قد ثقل عليه أن يراه مع أبنه في البيت.

وقال لفريد. سنتقابل في الصباح المبكر، ثم افترقا بعد أن تمنى كل منهما لصاحبه ليلة سعيدة.

عندما وصل فريد إلى منزله قصد إلى حجرة والدته التي كانت مريضة مرضاً مزمناً من سنوات مرت، وليست تستطيع أن تفارق الفراش ولا أن ترى الموقد غير مشتعل ليلاً أو نهاراً، وكان فريد يقضي معها بعض الوقت كل يوم في الصباح قبل الخروج إلى المتجر وفي المساء بعد العودة منه، ولم رأته في هذه الليلة والسرور يشع من قسمات وجهه قالت له بعد أن صرفت الخادم التي تقوم بشئونها: لقد أخبرني والدك بما حدث فهل أنت مسرور؟ فرد عليها بصوت تعمد أن يكون رزيناً هادئاً فقد ضبط شعوره حتى لا تتأثر والدته. . . نعم أنا مسرور جداً؟ فإن الحظ قد ابتسم لنا وأصبحنا نستطيع أن نمد يد المساعدة للآخرين. وأنت ماذا قلت عندما بلغك الخبر؟. فابتسمت ابتسامة لطيفة وإن ظل بريق الحزن المكبوت في قلبها يشع في عينيها؛ فقد كانت محرومة من كل نعيم في الدنيا، وقد علمها المرض أن التقديس لا يكون إلا للكنوز المعنوية وهي العمل الصالح الذي ستلقاه شفيعاً لها أمام الله يوم الضيق، والضنك، يوم القيامة ولذلك أجابت:

لم أقل شيئاً! وإنما سررت كثيراً جداً من أجلك أنت. فقال بصوت امتلأ حناناً وإجلالاً وتقديراً: سيكون أول عمل أبدأ به أن أرسل في طلب أشهر الأطباء العالميين المتخصصين ليقتلع جذور هذا المرض الوبيل من جسمك الطاهر. فأخذت يده في يدها وجعلت تضغط عليها تعبر بذلك على أنها سعيدة بسعادته وأنها تتمنى له كل خير. . .

غادر فريد حجرة والدته، وعطف إلى حجرة المائدة فوجد والده يتناول عشاءه وهو عبوس الوجه، مقطب الجبين، شارد اللب، مبلبل التفكير، ورد تحية ابنه بصوت ضعيف حزين، ثم خيم سكون شامل، لم يكن يقطعه إلا رنين الشوك والملاعق وخشخشة السكين في الأطباق، وإن فريد - وقد تناول عشاءه مع بيرام ومحمود مبكراً - جلس ساجي الطرف، مطرق الرأس متحيراً، لا يدري السر في حزن والده المفاجئ، ولا يعرف من أين ولا كيف يبتدئ الحديث معه؛ فقد انسدت عليه مسالك القول من هذا الجو القاتم، ولم ير من المستظرف أن يغادر المكان دون أن يتكلما في الموضوع على انفراد ليكونا طليقين. . . وأخيراً وبعد صمت طويل قال الوالد في تأثر ظاهر: كان يسرني أن تكون أبعد نظراً، وأسد رأياً، وأكثر حكمة، فلا تقع في هذا الخطأ الذي وقعت فيه فإن قعودك عن مرافقة القروي إلى الكهف قد يفوت عليك الفرصة، ففي المثل (إذا خرج الطير من الوكر فإن القبض عليه ثانية مصادفة قد لا تكون). وهاهي السيارات تحت تصرفك فلم لم تركب إحداها وتذهب معه؟ ألا تخشى أن يذهب القروي إلى غيرك؟

لست أعتقد ذلك، فقد خرج شاكراً لأني أعطيته جنيهين.

وهذا أيضاً تصرف سيئ؛ فإن جنيهين مبلغ لا يعري كان الواجب أن تعطيه خمسة على أقل تقدير.

أنه غير محتاج؛ فقد سألته عند انصرافه أن يأخذ غيرها فرفض.

سكت التاجر لحظة والغضب يشيع في وجهه، ثم قال فيشيء من الحدة: ولماذا أطلعت محموداً على هذا الموضوع؟ ألا تعلم أنك بهذا العمل قد برهنت على قصر نظرك، وقصور عقلك، وعقم تفكيرك، وأن محموداً سيطالب هو الآخر بمثل نصيبك في هذا الكنز؟ ولن تستطيع أن تدافع عن أحقيتك منه. . . فنكس فريد رأسه ولم يقل شيئاً بل جمد في مكانه يستمع إلى والده وهو يقول: أتستبعد أن يتسلل محمود في هذا الوقت إلى القروي ويعرض عليه شروطاً أسخى؟ وطبيعي لا يرفض القروي، بل إنه يرحب به وينساك وينسى هذه الساعات التي قضاها معك هنا. . . إنك دائماً لا تحسن التصرف في الأمور التي تتولاها وأنا غائب! فرفع فريد رأسه وعارض والده فيما نسبه لصديقه وقال له في قوة: لا يا والدي! إن محموداً لا يفكر في مثل هذا.

يا بني، مثل هذه الأعمال يجب على الإنسان أن يخفيها حتى عن أقرب الناس إليه، فقديماً قيل: (اسْتعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان) وأنت لا زلت فتى غراً، قليل الدراية بأخلاق الناس ومعاملتهم. . .

إنني يا والدي لم يصادفني مثل إخلاص محمود ولا مثل مروءته وحفظه لحقوق الزمالة.

قد يكون ما تقول حقاً، ولكن على الإنسان أن يحتاط لنفسه. ثم ساد بينهما الصمت حتى فرغ الوالد من طعامه وقال: متى يأتي القروي؟

سيأتي في منتصف هذه الليلة.

أذن عليك أن تنتظره حتى يجيء بالعينات لنراها ونعمل حساباً مبدئياً لما قد نحصل عليه من مكسب. فإنه قبل الشروع في العمل يجب أن نتعقل ونتروى؛ لأن أقل خطأ يتركنا صفر اليدين. وإن عليك ألا تسير خطوة واحدة في غير الطريق التي أرسمها لك، فالآثار ذات القيمة يلزم نقلها على الخيل أو السيارات أولاً وإخفاؤها في الدور الأسفل من هذا المنزل، وإن كان في الأزيار نقود - كم أعتقد - فإنه لا بد من سفرك إلى الخارج لتبيعها على دفعات متواليات. وأما الأشياء الأخرى فما نستطيع تصريفه منها نبقيه وما لا نستطيع تصريفه نرسله إلى الخارج أيضاً.

هذه يا والدي عملية شاقة تحتاج - كما تقول - إلى كثير من التبصر والحكمة.

نعم يا بني! ومن أجل ذلك فإن المكسب سيكون عظيماً وسيعيننا على توسعة تجارتنا وإنشاء متجر كبير لنا في (تيرانا) العاصمة. . . إنك لم تقص عليّ ما اتفقت عليه مع بيرام، وماذا يكون نصيبه من المكسب؟

لقد اتفقت أن نبذل له معونتنا، وأن نقتسم ما نحصل عليه مناصفة.

أبك جنون؟ كيف تتفق معه هذا الاتفاق؟ ولكن لا بأس! فسأعرف كيف أرضيه. إن مائتين من الجنيهات نفرغها في جيبه - بعد أن ننقل من الكهف كلشيء - مبلغ لن يحلم به ولن يقدر أنه سيحصل عليه. فقال فريد: وماذا نعطي محموداً؟

إنك قد أدخلت محموداً في هذا الموضوع من غير داع، وهذا خطأ كبير، فلنترك له تماثيل الأحجار، واللوحات المكتوبة وليذهب بنفسه ليأخذها بعد أن ننتهي من بيع الأشياء الأخرى

قد يكون ثمن التماثيل واللوحات أكثر من ثمن تلك الأشياء؟

إن ذلك هو الواقع! ولكن من المستحيل تهريبها خارج القطر، ثم إن الحكومة ستعلم - إن عاجلاً وإن آجلاً - بشأنها وتستولي عليها، والمهم أن ننجو نحن بما نريد.

مكث التاجر مع ابنه طويلاً يتحدث إليه في هذه المسألة وكان كل هم الوالد أن يؤسس لهما تجارة جديدة في (تيرانا) وفي العاصمة الثانية (دورس) أكبر مواني ألبانيا. ولكن (فريداً) كان غير مرتاح لهذا الرأي فكان إذا أبداه والده اعتصم بالصمت، وقد كان من رأيه أن التوسعة في التجارة لا فائدة منها ما دامت لديهم هذه الكثرة من النقود. . . ثم إن (السيد عفت) أوى إلى فراشه وترك ابنه في انتظار (بيرام) فقام (فريد) إلى الموقد - وكانت ناره قد خبت - فأشعله، وجلس بجانبه يتصفح جريدة صباحية؛ إذ لم يكن إلى هذا الوقت قد استطلع الأخبار؛ ولكنه عجز أن يحصر انتباهه في الجريدة فقد كان بعيداً بعقله عنها وعن كل ما حوت. وإن عينيه لم تغادرا السطر الأول؛ فقد احتلت اقتراحات محمود بؤرة شعوره، وسيطرت على تفكيره؛ فرأى نفسه على رأس معهدين كبيرين ومشى وراء خياله في تلك الشوارع الواسعة التي ضمت المؤسسات الخيرية التي أنشأها، وتحدث كرئيس أعلى لتلك المؤسسات إلى كبير الأطباء، ومديري المعاهد، وأمناء دار الكتب، وإلى المؤلفين، وإلى غيرهم من الموظفين الذين يأتمرون بأمره؛ فكانوا جميعاً يحوطونه بهالة من الإكبار والإجلال، كسباً لعطفه، واغتناماً لمودته، ثم طار في عالم اللذات فرأى أن المؤسسات تحت رعاية طبية لا تحتاج إلى الكثير من الرعاية، وأن في استطاعته أن يقوم بسياحات واسعة في أوربا، وأمريكا، وأفريقية، ليمتع نفسه تمتع من يملك مثل ثروته. وإنه لفي هذه الأحلام اللذيذة وإذا بأجراس الكنيسة تعلن انتصاف الليل فتدق اثنتي عشرة مرة، فاهتز جسمه، واضطرب قلبه، وأرهفت حواسه، وانقطعت سلسلة أفكاره؛ فقد اقترب موعد (بيرام). . . ولقد طغت عليه موجة من الخوف والحزن كادت تعتصر قلبه، وتسلبه شعوره، حينما دقت الساعة الأولى بعد منتصف الليل، فأخذ يدور في الحجرة في غير وعي؛ وظل هذا حاله إلى أن دقت الساعة دقتين فثاب إليه بعض الرشد وقصد إلى حجرة الأضياف وأطل منها على الطريق غير عابئ بقارس البرد؛ فإن حرارة جسمه، وثورة غضبه، وإشفاقه من أن يتحكم فيه سوء الطالع وتلعب به يد الأقدار، جعلته في حالة لا يحس معها برداً. . .

أمسكت السماء عن المطر، وانجابت السحب في بعض الأماكن، وأرسلت النجوم من عليائها على الأرض ضوءاً خافتاً ضعيفاً، ومضى الوقت وئيداً وئيداً، واشتد الحزن بفريد شيئاً؛ فشيئاً؛ فملأت الدموع عينيه وضاق به المكان، فرجع ثانية إلى حجرة المائدة، ووقف بجوار الموقد - وقد نسي أن يضع عليه وقوداً - جامداً كالتمثال، إلى أن طلع الفجر، واستنار الكون فأيقن أن رجاءه قد خاب، وأن أمله قد ضاع لأن (بيرام) لم يرجع.

(يتبع)