مجلة الرسالة/العدد 664/الأدب في سير أعلامه:
مجلة الرسالة/العدد 664/الأدب في سير أعلامه:
ملتُن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
وكان تشابل عنيداً ضيق الصدر، وكانت وظيفته تقتضيه ألا يتساهل فيما كلفته به إدارة الكلية، ولم يكن في وسعه أن يتغاضى عن مرد ذلك الطالب وإلا تتعرض لمؤاخذة القائمين بالأمر، فما يحب هؤلاء أن تشيع العدوى في بقية الطلاب؛ لهذا لم يكن بد من معاقبة جون ملتن عل في ذلك رادعاً له وعبرة لغيره.
وعوقب الفتى بإبعاده من الكلية إلى حين؛ وقيل إنه عوقب بالضرب إلى جانب ذلك، كان أكثر المترجمين له ينكرون ذلك أو يستبعدونه؛ على أن الضرب في ذاته يومئذ كان أمراً يقع في الكلية، فلم تكن العقوبة البدنية محرومة حتى في الكلية.
وقضى ملتن فترة النفي في لندن غير آبه بما حدث؛ يظهر في كل حين عدم مبالاته، فلن تنال منهَ قسوة مدرس يتجنى عليه، كما ذكر في بعض رسائله إلى (ديوداتي) أحد خلانه في مدرسة سنت بول؛ وإنه ليفضي إلى ديوداتي أنه جد سعيد بأبعاده عن كمبردج فما يطيب بها المقام لرهط أبولو؛ وأنه يستمتع بفراغه فيغشى المسارح كثيراً، ويقرأ من الكتب ما يحب غير مقيد بقيود تشابل؛ وأنه يسرح الطرف في شوارع المدينة إذ يذرعها جيئة وذهابا، ويمد عينيه إلى حسان لندن وقد لُحن له بعد أيامه الجافة في كمبردج أروع مما كن حسناً وأرشد فتنة، حتى إنه ليرى من الحكمة أن يبادر بالرحيل قبل أن تمسه جراح كيوبيد.
وتكشف لنا رسائله المنظومة والمنثورة إلى صاحبه عن بعض نوازع نفسه، فهو يحب المسرح ويكثر غشيانه؛ ولن يفعل ذلك متزمت يرى من أدلة الاستقامة أن يحرم على نفسه زينة الله التي أخرج لعباده؛ وهو يمد عينيه إلى الغيد ولكنه هنا يخشى الغواية فيطلب النجاة؛ وكان حريا أن يقع في حبالهن وأن يقمن في حباله بما توفر له من الجمال والوجاهة وأناقة الملبس ورشاقة الجسم، ولكنه حريص على عفته متمسك بطهره، تهفو إلى الجمال روحه إلا أنه يحلق ويأبى أن يرد. . .
وعاد ملتن إلى الكلية، وقد انقضى أمر النفي؛ ولكنه لم يعد إلى تشابل فقد نقل إلى غيره، وهو إجراء له مغزاه، إذ لم يكن مثل هذا النقل بالعمل المعتاد في تلك الأيام، ومنه يفهم أن القائمين على أمر الكلية يحملون تشابل شيئاً من اللوم.
ولم يفل النفي حدته ولا أوهن نشاطه ولا أذل كبرياءه؛ وعادت نفسه الحرة تنشد الإصلاح، وانطلق لسانه الفصيح يندد بما يرى من عيوب أيا كان أصحابها؛ فلا تنقطع له شكوى، ولا يفتر له نقد.
ونال أقرانه شئ غير قليل من نقده؛ وكانوا أحرياء إلا قليلا منهم، ألا يرتاحوا إليه، وأن أعجبهم كثير من خصاله وراقهم شخصه، فأن تمسكه بالفضيلة وتشدده في الطهر والعفة هو في ذاته تأنيب صامت أما يظهرون من نقائص، ناهيك بما يقول في كل فرصة، وبما يرسله كل آونة من عبارات التهكم أو نظرات الازدراء. وقف يخطب ذات مرة فقال (كيف آمل أن أجر فيكم الرغبة إلى الخير وأنا أرى في حفل عظيم كهذا الحفل وجوهاً تنطق بالعداوة يكاد يبلغ عددها عدد ما هنا من رؤوس).
وكان جزاؤه على ذلك العنت من الكثير من طلاب الكلية، فأخذوا على طريقة الطلاب يعابثونه ويهوشون عليه ويلاقونه أينما تكلم بشغبهم وزياطهم، ويسخرون منه كما سخر منهم، وجعلوا عفته موضعا لاستهزائهم به، وكانوا قد أطلقوا عليه من قبل اسم (السيدة) لما رأوا من رقته وظرفه ودماثته، فأخذوا الآن يعيدون هذه التسمية في موضع الإعنات والاستهزاء، فإذا سأل أحدهم صاحبه عنه قال هل رأيت سيدة الكلية، أو هل رأيت سيدة كريست، ويقصدون أن يسمعوه هذا وهو على مقربة منهم ليغيظوه، فيكظم غيظه ويحاول أن يغيظهم بترفعه عنهم وازدرائه إياهم.
ولم يأبه ملتن بما يقولون؛ ففيه على رقة حاشيته صبر على النضال، يلذ له الأذى في سبيل إعلان رأيه والدفاع عن مبدئه، ولذلك تراه ينهض ذات مرة خطيباً، فيشير في خطابه إلى هذه التسمية، فيقول متهكما إنه يعتقد أن ليس مردها إلا حسن وجهه وقصر قامته وجمال هيكله فحسب، ولكن إلى طهره كذلك ورقة حاشيته ودماثته وحسن سلوكه؛ ثم يتساءل في ازدراء عما إذ اكان يقصر اسم الرجولة على من كانت لهم القدرة أن يعبوا أقداحاً كبيرة من الخمر، أو الفلاحين الذين غلظت أيديهم وجمدت من أثر المحراث، أو على من يبرهنون على رجولتهم بالعربدة والفجور والفسوق؟. . . ويستخذى الجميع أمام حماسته وشجاعته ورباطة جأشه.
ولا يفوته أن يقارن بين نفسه بين من اتهموا قبله من النابهين الأعلام بمثل ما اتهم به، قائلا إن ديموستين نفسه لم ينج من اتهام أعدائه إياه بالنقص في رجولته!
والحق أن مرد هذه التسمية لم يكن إلى ضعف فيه ولا إلى خور، فقد كان منذ يفاعته شجاع القلب والرأي، ولسوف يقيم الدليل في المستقبل أيامه على أنه ما حمل القلم يوما أشجع منه؛ وكان في الكلية لا يهمل المران على استعمال سيفه يوماً؛ وكان لا يرهب التحدي، ولا يحب أن يصانع ذا غلظة أو يتواضع لذي كبرة، وإن كان في غير ذلك من المواقف جم الأدب مرموق الوداعة. . .
وما سماه أقرانه هذا الاسم أول الأمر إلا لأنهم أساءوا فهم وداعته ورقة حاشيته، ثم عادوا يرددونه رغبة منهم في إغاظته وإمعانا في إعناته، ولا يجد الشباب عادة في الزراية على من لا يتابعهم إلى ما يحبون من العبث واللهو الخشن أنكى من نعته بالأنوثة.
وكان مرد عفته واعتصامه بالفضيلة إلى معنى طريف يضاف إلى وازع الدين وداعي الخلق؛ وذلك أنه كان يرى أن الشاعر الذي يعد نفسه لرسالة سامية، ينبغي قبل كل شئ أن يكون أهلا لما يستشرف له، ولن يكون لذلك أهلا إلا إذا سمت نفسه وخلت من الأوضار، واتصلت في كل متجه بالمثل الأعلى لا تتخلف قط عنه، أو على حد تعبيره ينبغي أن يكون هو قصيدة سامية.
ولقد نجح ملتن نجاحاً عظيماً في توقد عاطفته وشاعرية روحه، وتفهمه أسرار الجمال، وتفطنه إلى موطن الفتنة في دنيا الطبيعة وفي دنيا الناس، وهذا إلى ما اتصف به من فراهة الجمال وروعة الشباب؛ ولذلك فأن سيطرته على نفسه مع هذا أعظم من أن تكون نجاحاً، فأنها تشبه أن تكون معجزة.
وحق لهذا الشاب أن يفخر بقهر نفسه، أو على الأصح بقهر شهوات نفسه، فقد أطلق نفسه على سجيتها بعد إذ جنبها مزال الضلال ومهاوي الفتنة لتنطلق حرة في مسارح الجمال ومواطن. الرأي. . .
وكان ملتن يؤمن بأن من يسمو بنفسه لا بد أن تواتيه قوة خارقة على التعبير عما يريد من معاني السمو، وبقدر ما يكون من طهر نفسه يكون ما يتوافى له من البيان فيما ينهض لبلوغه من معارج القول
وإلى جانب ذلك كان ملتن كثير الذهاب بنفسه، يعتقد أنه فوق غيره في الذكاء والعلم، يتداخله منذ صغره شعور قوي بتفوقه وامتيازه، وهو نوع من الاعتداد بالنفس حري أن يسمى الكبرياء العقلية، جعل ملتن الشاعر يؤمن بفكرة هي تغلب العقل على العاطفة، وهذه هي الحكمة، ثم يأخذ نفسه من غير هوادة بما تقتضيه منه الفكرة، فلا ينقاد لعواطفه يعيش حكيماً معتصماً بالزهد والعفة.
وإنه ليعتقد أنه خلق لعظيمة من العظائم في دنيا الشعر، وأن الزمن يهيئه فيعزله عن الناس ويرفعه فوقهم درجات ليتسنى له أن يأتي بما لا يستطيعون أن يأتوا به، وكان ولوعه بالأدب وشغفه بالبيان واستمساكه بالفضيلة، كل ذلك إرهاص يكون بعده الإعجاز!
ولم تصرف ملتن عنايته بالأدب والشعر عما فرضت عليه الكلية من دروس. كذلك لم تصرفه عنها كراهيته إياها ودعوته القائمين بالأمر إلى إصلاحها، وتوجيه المطاعن إليها، فهي أمر لابد منه إذا شاء أن يظفر بالإجازة الجامعية؛ وهو منذ صغره دؤوب على العمل صبور جليد، فما ينوء اليوم بأن يجمع بين دروسه الرسمية ومتعة نفسه من الأدب والشعر وغيرهما مما لا يدخل في محيط الدروس المقررة.
ويشهد أكثر القائمين على أمر الكلية أنه طالب مجد في عمله، نشط في طلب المزيد من العلم، يحب أن يحيط بما يدرس إحاطة، ولولا نزعته الاستقلالية ونفوره من القيود ورغبته أن يختار الوقت الذي يحب لينجز ما كلف من عمل، ما شكا منه أحد، ولا كان بينه وبين تشابل عريفه الأول ما كان من شحناء وتنابذ.
ولم يتخلف ملتن عن أقرانه على الرغم من فترة إبعاده عن الكلية، فحصل عند نهاية الأجل المقرر للدراسة الأولى على درجته العلمية الأولى، وكان اللاهوت هو العلم الأساسي الذي اختار من أول الأمر أن يمتحن فيه، ويحصل على درجته، فدرسه ودرس ما يتصل به أو يتفرع منه من معرفة.
ولئن درس اللاهوت على عسره دراسة جد، واستوعب ما يحيط به، فإن قلبه كان يجد العزاء في مجال آخر محبب إليه، وأي مجال أحب إليه من الشعر وأنغامه وأحلامه؟ وهل يشغله عنه شاغل مهما جل، وهو من افتتن به وظن أنه خلق له منذ من العاشرة؟ لذلك كان يعمد إلى قيثارته يغنى عليها أناشيده كلما نفض من اللاهوت يده!
ففي أول سنة له في الكلية، وقد دخل في سنته الثامنة عشرة، نظم الفتى باللاتينية - أول ما نظم - قصائد ست، ثم نظم واحدة بالإنجليزية، ولعله اختار اللاتينية لأنها لغة أوفيد، وهو به متعلق مشغوف منذ صغره؛ وكانت معظم أشعاره اللاتينية مراثي في مناسبات على نحو ما يفعل عادة من يستطيع النظم من الطلاب؛ ولكن طموح ملتن وثيقته في نفسه ألقيا في روعه أنه شاعر حقاً، وأنه لا يتكلف النظم كما يتكلفه غيره، وأنه ما يسطر على القرطاس شيئاً إلا استحق أن يشيع في الأدباء! ولكن الذين كتبوا تاريخ حياته، ممن لهم علم باللاتينية، يرون التقليد في هذه الباكورة يغلب على الأصالة. وكان ملتن يقلد أو قيد، وقد اتجه بقلبه وخياله إليه، كما يصنع الأفراخ النواهض من الشعراء أن يتأثر كل منهم في صدر شبابه بواحد ممن حلقوا قبلهم في سماء الشعر!
وكانت القصيدة الإنجليزية كذلك مرثية بكى بها الشاعر الشاب طفلة من ذوي قرباء، وعنوانها (في موت طفلة جميلة أودت بها سعلة). ونلمس في هذه المرثية خصائص ملتن الأولى في الشعر: فموسيقاه حلوة، وألفاظه تنساب في يسر وإشراق، وإن لها في السمع لجرساً ساحراً جميلاً. . . وهو كثير الإشارة إلى الميثولوجيا الإغريقية والمسيحية، يكثر من ذكر الآلهة؛ وهو يأتي بالصفة تتداعى بها إلى الذهن المعاني المتصلة بما يصف في قوة ومهارة، فتوحي بذلك الأبيات القليلة معاني كثيرة، بل لقد يجعل للكلمة الواحدة معنى واسعاً بما يسبقها أو يلحقها به من الكلام، فيرمز للموت هنا مثلا بالشتاء، وقد ناجى الطفلة في مبتهل القصيدة باسم زهرة من أشهر زهرات الربيع يكفي النطق بها لتذكر الأنفس الربيع وموسمه الحفل؛ ثم يعود فيتحدث عن الطفلة كأنها ملاك عاد إلى أفقه، وقد اتخذ صورة الإنسان لحظة، لُيري الناس كيف يحتقرون هذه الأرض، وكيف تهفو إلى السماوات أرواحهم، ويسأل أمها تبعاً لذلك ألا تحزن، فما فقدت شيئاً. . .!
وبعد ذلك بسنتين ينظم باللاتينية أولى غرامياته، وفيها يذكر أن عينيه وقعتا في سرب من حسان لندن على فتاة استأثرت بلبه ونفذت نظرتها إلى أعماق قلبه. . . فتاة هي فينوس حسناً وشكلاً. . . وسرعان ما جرحه كيوبيد بها في ألف موضع من جسمه. . . ثم غابت عن بصره وتولت وقد شغفته حباً. . . فأحس كأنه يحترق وكأن اللهب يحتويه. . . ولم يرها بعد ذلك أبداً، وأصبح بعدها كغيره من العشاق ينعم بشقاء حلو!
وأردف هذه القصيدة بأخرى لاتينية غرامية كذلك يصف فيها الحب، ولا يشير فيها إلى موقف بعينه كما فعل في سالفتها، ولكن. . . إلى الهوى وأسقامه وأحلامه. . .
ويحرص ملتن دائماً أن يسمو بحبه، فما تم كلماته ولا إشارته عما يستهجن من قول أو فعل، وما يصدر عن مثله إلا كل سام نبيل، وقد جعل سمو النفس وطهرها كما رأينا وسيلة إلى سمو التعبير؛ على أنه يفصح أحياناً عما يظهره أنه يحس شيئاً من المرح إذ يصف هيام الحب وأحلامه ومتعه؛ ولعله أراد بذلك أن يوحي إلى لذاته أنه يتخفف من تزمته، أو مما يأخذونه على أنه تزمت منه، وما هو فيما يرى إلا التوقر والاحتشام والجد؛ ولقد أشار في بعض خطبه إلى شئ من هذا المرح الذي يصف والذي يحبذ، وفي هذا الحب الذي يصوغ ألحانه، ما يرد به على من أطلقوا عليه ذلك الاسم السخيف الذي ضايقه بعض الثقلاء به!
(يتبع)
الخفيف