مجلة الرسالة/العدد 664/من غزل الفقهاء
مجلة الرسالة/العدد 664/من غَزل الفقهاء
للأستاذ علي الطنطاوي
قال لي شيخ من المشايخ المتزمِّتين، وقد سقط إليه عدد من الرسالة، فيه مقالة لي في الحب:
مالك وللحب، وأنت شيخ وأنت قاض، وليس يليق بالشيوخ والقضاة أن يتكلموا في الحب، أو يعرضوا للغزل؟! إنما يليق ذلك بالشعراء، وقد نزَّه الله نبيه عن الشعر، وترفع العلماء وهم ورثة الأنبياء عنه، وصرَّح الشافعي أنه يزري بهم، ولولا ذلك لكان أشعر من لبيد. . .
فضحكت، وقلت له:
أما قمت مرة في السَحر، فأحسست نسيم الليل الناعش، وسكونه الناطق. . . وجماله الفاتن، فشعرت بعاطفة لا عهد لك بمثلها، ولا طاقة لك على وصفها؟
أما سمعت مرة في صفاء الليل نغمة عذبة، من مغن حاذق قد خرجت من قلبه، فهزت منك وتر القلب، ومسّت حبّة الفؤاد؟
أما خلوت مرة بنفسك تفكر في الماضي فتذكر أفراحه وأتراحه، وإخوانا كانوا زينة الحياة فطواهم الثرى، وعهداً كان ربيع العمر فتصرم الربيع، فوجدت فراغاً في نفسك، فتلفت تفتش عن هذا الماضي الذي ذهب ولن يعود؟
أما قرأت مرة قصة من قصص الحب، أو خبراً من أخبار البطولة فأحسست بمثل النار تمشي في أعصابك، وبمثل جناح الطير يخفق في صدرك؟
أما رأيت في الحياة مشاهد البؤس؟ أما أبصرت في الكون روائع الجمال؟ فمن هو الذي يصور مشاعرك هذه؟ من الذي يصف لذائذك النفسية وآلامك، وبؤساءك ونعماءك؟ لن يصورها اللغويون ولا الفقهاء ولا المحدثون، ولا الأطباء ولا المهندسون. كل أولئك يعيشون مع الجسد والعقل، محبوسين في معقلهما، لا يسرحون في فضاء الأحلام، ولا يوغلون في أودية القلب، ولا يلجون عالم النفس. . . فمن هم أهل القلوب؟
إنهم الشعراء يا سيدي، وذلك هو الشعر!
إن البشر يكدون ويسعون، ويسيرون في صحراء الحياة، وقيد نواظرهم كواكب ثلاثة هي هدفهم وإليها المسير، ومنها الهدى وهي السراج المنير، وهي الحقيقة والخير والجمال، وأن كوكب الجمال أزهاها وأبهاها، إن خفي صاحباه عن بعض الناس فما يخفى على أحد، وإن قصرت عن دركهما عيون فهو ملء كل عين، والجمال يعدُ أس الحقائق وأصل الفضائل، فلولا جمال الحقيقة ما طلبها العلماء ولولا جمال الخير ما دعا إليه المصلحون. وهل ينازع في تفضيل الجمال إنسان؟ هل في الدنيا من يؤثر الدّمنة المقفرة، على الجنة المزهرة؟ والعجوز الشوهاء على الصبية الحسناء؟ والأسمال البالية على الحلل الغالية؟
فكيف يكون فيها من يكره الشعر، وهو جمال القول، وفتنة الكلام؟ وهو لغة القلب فمن لم يفهمه لم يكن من ذوي القلوب. وهو صورة النفس، فمن لم يجد فيه صورته لم يكن إلا جماداً. وهو حديث الذكريات والآمال، فمن لم يذكر ماضياً، ولم يرجُ مستقبلاً، ولم يعرف من نفسه لذة ولا ألماً، فليس بإنسان.
ومن قال لك يا سيدي إن الله نزّه نبيه ﷺ عن الشعر لأن الشعر قبيح؟ إنما نفى عنه أن يكون شاعراً كمن عرف العرب من الشعراء، ورد عليهم قولهم: (إنه شاعر). لأن الشاعر يأتيه الوحي من داخل نفسه، والنبي يجيئه الوحي من السماء، وهذا الذي لم تدركه العرب، فقالوا قولتهم التي ردّها الله عليهم!
وأين وجدت حرمة الشعر، أو مذمته من حيث هو كلام جميل، يصف شعوراً نبيلاً؟ إنما يقبح إذا اشتمل على الباطل، كما يقبح كل كلام يشتمل عليه.
ومن أين عرفت أن العلماء قد ترفعوا عنه، والكتب مملوءة بالجيد من أشعارهم في الحب والغزل ووصف النساء؟
أو ما سمعت بأن النبي ﷺ أصغى إلى كعب وهو يهدر في قصيدته التي يتغزل فيها بسعاد. . . ويصفها بما لو ألقى عليك مثله لتورعت عن سماعه. . . وتصاممت عنه، وحسبت أن ذلك يمنعك منه وذهبت تلوم عليه، وتنصح بالإقلاع عنه قائلة. . .
وما سعاد غداة البين إذ برزت ... إلا أغنُّ غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظَلم إذ اابتسمت ... كأنها منهل بالراح معلول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرةً ... لا يشتكي قصر منها ولا طول
وأن عمر كان يتمثل بمثل ما تكره أنت. . . من الشعر، وأن ابن عباس كان يصغي إلى إمام الغَزِلين عمر بن أبي ربيعة، ويروي شعره؟ وأن الحسن البصري كان يستشهد في مجلس وعظه، بقول الشاعر:
اليوم عندك دَلها وحديثها ... وغداً لغيرك كفها والمعصم
وأن سعيد بن المسبب سمع مغنياً يغني:
تضوّع مسكاً بطن نعمان إن مشت ... به زينب في نسوة خفوات
فضرب برجله وقال: هذا والله مما يلذ استماعه، ثم قال:
وليست كأخرى أوسعت جيب درعها ... وأبدت بنان الكف للجمرات
وعلّت بنان المسك وحْفاً ... على مثل بدر لاح في الظلمات
وقامت ترائي يوم جمع فافتنت ... برؤيتها من راح من عرفات
فكانوا يرَون هذا الشعر لسعيد بن المسبب!
ومالي أدور وأسوق لك الأخبار، وعندنا شعراء كان شعرهم أرق من النسيم إذ اسرى، وأصفى من شعاع القمر، وأعذب من مال الوصال، وهم كانوا أئمة الدين وأعلام الهدى.
هذا عروة بن أذينة الفقيه المحدث شيخ الإمام مالك يقول:
إن التي زعمت فؤادك ملها ... خُلقت هواك كما خلقت هوى لها
فبك الذي زعمت بها وكلاكما ... يبدي لصاحبه الصبابة كلها
ويبيت بين جوانحي حبٌّ لها ... لو كان تحت فراشها لأقلها
ولعمرها لو كان حبك فوقها ... يوماً وقد ضَحيَت إذن لأظلها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدقها وأجلها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها!
فدنا، فقال لعلها معذورة ... من أجل رقبتها، فقلت: لعلها!
هذه الأبيات التي بلغ من إعجاب الناس بها أن أبا السائب المخزومي لما سمعها حلف أنه لا يأكل بها طعاماً إلى الليل!
وهو القائل، وهذا من أروع الشعر وأحلاه، وهذا شعر شاعر لم ينطق بالشعر تقليداً، وإنما قال عن شعور، ونطق عن حب، فما يخفى كلام المحبين: قالت (وأبثثتها وجدي فبحت به): ... قد كنت عندي تحب الستر، فاستتر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: ... غطى هواك وما ألقى على بصري
هذا الشاعر الفقيه الذي أوقد الحب في قلبه ناراً لا يطفئها إلا الوصال:
إذا وجدت أوار الحر في كبدي ... عمدت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لحر على الأحشاء يتقد؟!
وهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أحد فقهاء المدينة السبعة الذين انتهى إليهم العلم، وكان عمر بن عبد العزيز يقول في خلافته: لَمجلس بن عبيد الله لو كان حياً أحب إليّ من الدنيا وما فيها. وإني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع شدة تحريك وشدة تحفظك؟ قال: أين يُذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصيحته ومشورته على بيت المال بألوف وألوف. وكان الزهري يقول: سمعت من العلم شيئاً كثيراً، فظننت أني اكتفيت حتى لقيت عبيد الله فإذا ليس في يدي شيء!
وهو مع ذلك الشاعر الغزِل الذي يقول:
شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتام الفُطور
تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور
أفسمعت بأعمق من هذا الحب وأعلق منه بالقلب؟ ولم يكن يخفي ما في قلبه، بل كان إذ القيه ابن المسيب فسأله: أأنت الفقيه الشاعر؟ يقول: (لا بد للمصدور من أن ينفث) فلا ينكر عليه ابن المسيب. هو القائل:
كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم ... ولامك أقوام ولومهم ظلم
نم عليك الكاشحون وقبلهم ... عليك الهوى وقد نم لو نفع النم
وزادك إغراء بها طول بخلها ... عليك وأبلى لحم أعظمك الهم
فأصبحت كالنهدى إذ مات حسرة ... على أثر هند أو كمن سقى السم
ألا من لنفس لا تموت فينقضي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
تجنبت إتيان الحبيب تأثما ... ألا إن هجران الحبيب هو الإثم فذق هجرها إن كنت تزعم أنه ... رشاد ألا يا ربما كذب الزعم
ألا إن هذا هو الشعر!
البقية في العدد القادم
علي الطنطاوي
-