مجلة الرسالة/العدد 665/نظرة لمعركة عين جالوت

مجلة الرسالة/العدد 665/نظرة لمعركة عين جالوت

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1946



وقتل قائد التتار كتبغا في 25 رمضان 658 هجرية

للأستاذ أحمد رمزي

(ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا افرغ علينا صبرا

وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) قرآن كريم

قلت مرة لصاحب من إخواننا الذي يغلب عليهم التشاؤم (أن في الكون قوات طبيعية هائمة لا تلبث أن تصيب الرجل الذي اختارته العناية لعمل عظيم، فستفيق من غشيته متنبهاً ليقبض على تلك القوى الضائعة ويجمعها ويحشدها ويحركها ويقودها ببصيرته وعزيمته وجرأته، ليغير معالم الأشياء فيخلق من الجمود حركة ومن الخمود حياة ومن التسلم أملا، ويحول مجرى التاريخ ليكتبه كما يشاء. هؤلاء الرجال الأفذاذ كثيرون في تاريخ الإسلام، كانوا كالصخور الصلبة التي تواجه السيول، وكانوا كالسدود الضخمة التي تحول مسير المياه إلى جهات ونواح غير التي كانت تقصدها بدفعتها الأولى).

(وأعرف في تاريخ مصر العربية معارك كثيرة ومواقف خالدة كانت كالسدود العالية تصد حوادث الزمن وتقارع نكبات الدهر لتتغلب عليها: ولكني اعرف منها معركتين فاصلتين يجب أن يعرفها كل واحد منا لأنهما مفخرة لنا ولآبائنا ولأجدادنا، وقعت كل منهما في أرض فلسطين الشهيدة، في الجزء الشمالي منها أي بالقرب من بحيرة طبرية، تلك البحيرة التي أعدها وما حولها بقعة من اجمل بقاع الأرض، أما أولى المعركتين فهي معركة حطين، وأما الأخرى فهي معركة عين جالوت. كان بطل الأولى سلطاننا صلاح الدين وكان صاحب الأخرى سلطاننا الشهيد المظفر قطز، ففي الأولى تحطم ملك أورشليم وفي الأخرى تحطمت أطماع هولاكو في فتح مصر، وفي الأولى ظهرت مزايا جند مصر وعسكرها على فرسان أوربا، وفي الأخرى انتهت خرافة العهد من أن جيش المغول لا يغلب، فغلب وتشتت شمله، وظهر أن الدماء التي تجري في عروق الأباء والأجداد، أقوى وامتن واثبت من الدماء التي تجري في عروق فرسان أوربا وزمازمها من الاستبار والداوية، وعلم الناس والعالم بأكمله والأجيال السالفة واللاحقة أن صلاح الدين وقطز ه من رجال الله).

فإذا فتحت خريطة لفلسطين الشقيقة، فابحث عن بيسان، تجدها تحت جسر المجامع جنوبي بحيرة طبرية وتطل على وادي نهر الأردن، وعلى اليسار وادي جالوت حيث كانت تقع بليدة باسم عين جالوت، ففي هذه الناحية ومنذ سبعمائة وسبع سنوات، التقى جيش مصر بقيادة سلطانها الملك المظفر قطز مع جيوش المغول ودارت بينهما معركة هائلة فاصلة، وكان مجيء المغول من الشمال حيث أراضى البقاع الخصبة - بقاع العزيزي المشهورة - وهي الواقعة الآن داخل حدود الجمهورية اللبنانية. وكان مجيء جيش مصر من القاهرة إلى الصالحية إلى غزة إلى الرملة ثم عكا ثم إلى المصاف بعين جالوت.

ولما التقى الجمعان كتب الله النصر للمسلمين فسجد ملك مصر المظفر قطز شاكرا الله ومرغ وجهه في تراب الأرض، أما قائد المغول فقد كان اسمه كتبغانوين، وقد قتله بطعنة واحدة أمير من أمراء مصر هو جمال الدين أقوش الشمسي. وكتبغا اسم تتري مركب من كلمتين قيل أن معناه الثور الذي يدهشك أو يدعو للدهشة أو يثير الإعجاب، وكان أولى أن يسمى بالثور الهائج. ونوين قيل في معناه قائد العشرة الآلف؛ وجندهم كما نعلم تتحرك بالآلاف وعشراتها.

وصفه الشيخ قطب الدين اليونيني فقال (رأيته ببعلبك حين حاصر قلعتها وكان شيخا حسنا له لحية طويلة مسترسلة قد ضفرها مثل الدبوقة، يعلقها من خلفه بأذنه، وكان مهيبا شديد السطوة) دخل الجامع، وصعد المنارة ليتأمل القلعة ومن فيها من جنود الإسلام، قال: (خرج من الباب الغربي ودخل دكانا خربا وقضى أمرا والناس ينظرون إليه) ثم أردف ذلك بقوله: ولما بلغه خروج العساكر المصرية حار في أمره ماذا يفعل ولكن حملته نفسه الأبية على اللقاء وظن انه منصور على جاري عادته، فحمل يومئذ على المسيرة فكسرها ثم أيد الله المسلمين وثبتهم في المعركة) وجاء النصر من عنده تعالى.

وجئ بالأسرى وبينهم ابن القائد العظيم فأخذه الملك المظفر قطز وسأله: (اهرب أبوك). فأجاب: (أن مثله لا يهرب). وعرضت القتلى فتعرف الابن على أبيه وصرخ باكياً، فعلم المظفر بموته وسجد لله شكراً مرة أخرى.

وكان المغول يؤمنون بعبقرية كتبغا ويستبشرون به خيراً، إذ هو الذي اخضع البلاد لهم من حدود فارس الشرقية إلى حدود الشام، ولما قتل ذهب سعدهم، وألف قوادهم الهزيمة واعتاد رجالهم الفرار. وكانوا يعتقدون بالتنجيم والعرافة، ذكر ابن الفرات في تاريخه أن هولاكو ملكهم لما دانت له الدنيا بفتح بغداد واستيلائه على العراق وحلب وامتلاكه دمشق، حدث نفسه أن يقهر الديار المصرية ويفتحها ويطأها بجنده.

قال: إنه احضر نصير الدين الطوسي وقال له (اكتب أسماء مقدمي الجند وانظر أيهم سيملك مصر ويجلس على تخت السلطنة) فكتب أسمائهم وحسب ودقق النظر فما ظهر له أن يملك مصر غير رجل اسمه كتبغا فذكر ذلك لهولاكو وكان اسم صهره كتبغا نوين فسلمه قيادة جنده وسيره لفتح مصر وكان مقتله في عين جالوت) بعد أن أدرك أيام جنكيز خان وحارب تحت قيادته وقاد جحافلهم إلى النصر طول أيام هولاكو.

وإني لأتخيل كتبغا هذا على صورة (تاراس بولبا) في القصة الروسية رجلا جباراً عملاقاً مهيب الطلعة يلبس البغلطاق التتري وقد استبدل بالشاربين الطويلين المنحدرين على كتفيه باللحية الطويلة التي وصفها الشيخ قطب الدين والتي كان يعلقها على أذنيه لإرهاب الناس وقذف الرعب في قلوبهم.

ومن الغريب أن يكون بين عسكر المغول فتى لا يكاد يدرك سن البلوغ واسمه كتبغا أيضاً فيؤخذ أسيراً ويربى بقلعة مصر ويطلق عليه اسم زين الدين، ثم يؤمر في عهد المنصور قلاوون، ثم يستقر في نيابة السلطنة بالديار المصرية، وأخيرا ينادى به سلطاناً فتصبح النبوءة المذكورة بعد ست وثلاثين سنة من معركة عين جالوت التي اخذ فيها من بين الأسرى.

ويصح أن نشير إلى ما ابتدعه المغول في فن الحروب وما ادخلوه من التغيير في كيفية ترتيب الجنود والزحف وتسوية الصفوف لأنه ابتداءً من جنكيز خان اتجه هؤلاء إلى ضبط الزحف بعشرات الآلاف من الرجال وإلى توجيه ضربات حاسمة من عدة جهات بطرق وأساليب لم تخطر على بال هانيبال ولا الاسكندر الأكبر ولا غيرهم من كبار قواد العالم. وهذا ما سنعرض له أن شاء الله في دراسة حملات جنكيز وأولاده وأثرها في التربية العسكرية بمصر وفي عقلية كبار قواد الدولة المصرية وملوكها وما أخذوه من الأنظمة عنها، ولا اترك هذا دون أن أعطي فكرة أولى عن ما أبتدعه كتبغا نوين من أساليب الحروب وخداعها لأنه تلميذ من تلاميذ جنكيز خان في هذه الناحية.

فقد نقل صاحب البداية والنهاية انه كان يعتمد في حروبه للمسلمين أشياء لم يسبقه أحد إليها، فكان إذا فتح بلداً ساق مقاتله هذا البلد إلى البلد الذي يليه، فكان هؤلاء اللاجئون يدخلون في هروبهم الخوف والرعب على الناس. وإذا دخلوا البلد شاركوا الناس في أقواتهم، فإذا حاصرهم تقصر مدة الحصار عليه لاضطراب شؤون التموين والإعاشة لدى البلد الذي يقصده، وإذا رفض أهل البلد قبولهم وإيوائهم ساق هؤلاء المقاتلة اللاجئين عليهم لقتالهم وتلقى الضربات الأولى، وحينما يضعف الطرفان يقذف بجنوده لإتمام الفتح.

ومن حيله التي لا يمكن أن تقهرها قوانين الحرب أن يبعث إلى المدينة المحاصرة من يقول: أن ماءكم قد قل بعد طول الحصار وإننا على وشك أن نأخذكم عنوة فنقتلكم جميعاً، أما إذا فتحتم صلحاً أبقينا عليكم فيفتر أهلها بذلك ويقولون أن الماء عندنا كثير فلا نحتاج إلى الماء فيقول الرسول لا اصدق حتى ابعث من عندي من يشرف عليه فإن اقتنعت بأنه كثير انصرفت إلى بلد أخر. فيقولون أبعث من يتأكد، فيرسل برجال من جيشه معهم رماح مجوفة محشوة سما، فإذا دخلوا إلى المدينة التي أعيته الحيل في فتحها لعظم أسوارها وقلاعها أدخلوا في آبارها وصهاريجها تلك الرماح على انهم يقيسون عمق المياه فيقذفون السم في عمق المياه ويكون سبباً في هلاك كل من يشرب منه.

ولو شئنا أن نعدد أساليبهم في القتال وطريقتهم في ابتداع الحرب الخاطفة والهجوم في جبهتين تفصل الواحدة عن الأخرى مئات الأميال لتبين لنا أن آسيا هي أهم الحروب وان الأوربيون لم يبتدعوا شيئاً جديداً. ولقد اجمع المؤرخون على مقتل كتبغا في عين جالوت، وذكر المقريزي أن رأسه حُمل إلى القاهرة، ولذلك تعجبت حين اطلعت على حاشية للأستاذ الدكتور مصطفى زيادة تقول (أن السلطان كتبغا كان تتري الأصل وهو الذي قاد الجيوش التترية التي انكسرت على يد السلطان قطز). إذ هناك إجماع على مقتل قائد التتار وعلى اسم قاتله وهو الأمير جمال الدين الشمسي وكان من أعيان الأمراء المصريين وأمثالهم وشجعانهم، ذكره صاحب النجوم الزاهرة في المنهل الصافي ضمن وفيات 678 وذكره ابن كثير ضمن وفيات هذه السنة فقال (إنه أحد أمراء الإسلام وهو الذي باشر قتل كتبغا نوين). أما المقريزي فيقرر وفاة الشمسي سنة 679 وهو الأصح إذا كان آخر عمل له أنه تولى نيابة السلطنة المصرية بمدينة حلب على السلطان المنصور قلاوون وتوفي ودفن بها كما جاء ذلك في أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، وكان قبل ذلك نائباً لسلطان مصر بمدينة دمشق وهو الذي قبض بها على الأمير عز الدين إيدمر الظاهري حينما توقف عن البيعة للمنصور قلاوون، ويدل تاريخه على الهيبة ووفرة الحرمة والوقار والنفوذ التي كان يتمتع بها لدى ملوك مصر نظراً لأياديه البيضاء في معركة عين جالوت وأن هذه الهيبة كان يتمتع بها حتى مماليكه بالقاهرة وهو غائب عنها لما كان أميراً بالشام. فقد قبض الملك الظاهر بيبرس على عدة من أمراء مصر بدمشق ولما وصل إلى جمال الدين الشمسي لم يجسر أن يقبض عليه بل تركه على حاله ومات رحمه الله في الخمسين من عمره.

فلا محل إذا لكي تختلط شخصية كتبغا نوين مع العادل زين الدين كتبغا وان تشابها في الاسم. وقد ورد في السلوك انه في سنة 678 أنعم المنصور قلاوون على أربعين من رجاله فرفعهم إلى مرتبة الأمراء وذكرهم واحداً واحدا بالاسم، وكان منهم زين الدين كتبغا وسنجر الشجاعي وأغلب المؤرخين يقررون أنه أخذ أسيراً في عين جالوت وهو شاب وإن كان البعض اشتبه عليه نسبته إلى المنصور بقوله المنصوري فضن أنه أخذ أسيراً من يوم معركة حمص (رجب 678) فيكون بين أخذه أسيراً وتعيينه أميراً أقل من سنة، وهذا لا يمكن وقوعه نظراً لما تطلبه الجندية الإسلامية في مصر من تهيئة واستعداد وتدريب، ولا يتحقق ذلك إلا بعد سنوات طويلة.

والعادل كتبغا رجل من أعظم رجال القرن السابع والقرن الثامن الهجري، وقد وفاه المؤرخون حقه أيام توليه السلطنة، وبعد عزله منها وإقامته أميراً بالشام وهو الذي قضى على الفتن عند مقتل الأشرف خليل، ووطد أركان الملك للناصر محمد وهو في العاشرة من عمره، وقد بدأ حياته وهو على دين التتار، وأسلم وحسن إسلامه، وقال عنه صاحب الدرر الكامنة (كان قليل الشر يؤثر أمور الديانة شجاعا مقداما سليم الباطن رفيقا بالرعية)

وفي عهد سلطنته لجأ إلى مصر آلاف من بلاد التتار وهم الاويراتية فسكنوا بالقاهرة واختلطوا بأهل البلاد. ولما عزل من السلطنة تولى قلعة صرخد ثم نائبا بمدينة حماة، وفي أثناء نيابته بها هجم التتار على الديار الشامية في عام 702 فحضر الجهاد وهو محمول على محفة لمرضه وكبر سنه وهذه نهاية ما يمكن أن يصل إليه الإيمان وكان ذلك في معركة (شقحب) التي شارك فيها شيخ الإسلام أبن تيميه وحرض فيها جيوش المسلمين على القتال.

وفي يوم الجمعة الموافق عيد الأضحى من تلك السنة توفي العادل زين الدين كتبغا التتري الأصل وهو مسلم ومؤمن ونقل إلى التربة التي بناها بسفح جبل قاسيون بمدينة دمشق غربي الرباط الناصري رآها ابن كثير وقال (هي تربة مليحة ذات شبابيك وبوابة ومئذنة وله عليها أوقاف للصرف على وظائف من قراءة وأذان وإمامة) وختم بقوله (كان من خيار الملوك أعد لهم وأكثرهم براً وكان من خيار الأمراء والنواب رحمه الله).

وانتهت حياة الشاب التتري الذي جاء محارباً للإسلام والمسلمين فأصبح مجاهداً في سبيل الإسلام والمسلمين فأعطى مثلاً لقوة الإسلام وعظمته أثره في شؤون الكون وكيف ينقلب أعداؤه فيصبحون سيوفا يذودون عنه وأنصاراً يقاتلون في سبيله.

أحمد رمزي

القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان