مجلة الرسالة/العدد 666/الأدب في سير أعلامه:

مجلة الرسالة/العدد 666/الأدب في سير أعلامه:



ملتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 7 -

في هورتون:

على مسافة سبعة عشر ميلا من لندن كانت تقع قرية هورتون الصغيرة الجميلة، حيث اشترى الموثق جون ملتن بعض الأرض وأقام بيتاً ليأوي إليه إذا اعتزل العمل وجنح للراحة.

وكانت هورتون قرية هادئة تحيط بها المروج والمراعي، والحقول بين ضيقة محصورة وواسعة منبسطة، والغابات والخمائل عن يمين وشمال، تتراءى بينها عن بعد أبراج وندسور، تلك القلعة العالية القديمة فيتألف من مجموعها مجتلى ساحر جميل تستريح النفس لمرآه، ويسعه البصر من أوله إلى منتهاه.

وأتخذ ملتن طريقه إلى هورتون، تاركا وراء ظهره الكلية ومن فيها من ثقلاء وظرفاء، ومن أولى الغلظة والعنت من العرفاء، ومن المتبجحين بالعلم من الأغبياء، مبتعداً عن دروسها ومناظراتها، وقد نفض قدميه من ثراها ويديه من كتبها.

وأوى الفتى إلى هورتون لا ليقضي بين ربوعها أياماً معدودات ثم يعود إلى لندن، ولكن ليقيم فيها سنين تطول أو تقصر حسبما يشاء، فهو لا يتقيد في مقامه بشيء!

وماذا عسى أن يصنع ملتن في تلك القرية؟ وهل درس ما درس في الجامعة وحصل على درجتين من درجاتها ليركن إلى البطالة والدعة في ظلال الريف؟ ليس هذا مما ألفه الناس، ولا هو مما يجري على سنن العقل، وليس يقره عليه أحد؛ بذلك كان يحدث الموثق نفسه ويحدث أصحابه، ويتناقله بينهم من يعرفونه من الناس! ولكن الشاعر لا يأبه لما يقولون، فقد عقد العزم بادئ الرأي على رفض أية وظيفة في الحكومة، كما رفض الالتحاق بالكنيسة، وإن كان قد درس اللاهوت؛ وليس يعنيه أن يبين لهم وجهة نظره، فأكبر الظن أنهم لن يقروه عليها؛ وهل فيهم من يقره على إقامته في الريف، حيث تكون له عزلة يستريح فيها من ضجيج المدينة ولهوها وزحمتها ليتفرغ للقراءة والدرس، فيستدرك ما فوتت عليه قراءته الكلية من كتب، ويستكمل ثقافته في الإغريقية واللاتينية، فهما عدته لما يتهيأ له من رسالة؟ وهو إنما يزداد شعورا بأنه يتهيأ لرسالة، وأن عليه أن يستزيد من المعرفة والحكمة ليكون أهلا لها لما يستشرف له.

ذلك كان مأربه من إقامته في الريف، فهمه في الحياة أبعد من كسب القوت وأجل من ذلك شأناً، وما يرى العلم والحكمة بل والفضيلة نفسها إلا وسائل يتوسل بها إلى ما يبتغي من غاية؛ وإنه لواثق إن الناس ينكرون عليه ذلك، وأنهم يعدونه حلماً من الحلم يوسوس به الشباب في صدر شاعر سحره عن نفسه، وأذهله عن الصواب حب الشعر. . . وماذا عسى أن يقولوا غير ذلك وليس فيهم من يصدق أن الشعر مطلب ترصد له الحياة، وغاية يحتقر في سبيلها المال والجاه!

وكان أبوه يطمع أن يلتحق الفتى بالكنيسة، ولكنه منذ صغره لا يحب أن يحمله على ما لا يريد، فحسبه أن يمني بذلك نفسه، على أنه كان خليقاً أن يدرك بعد أمنيته عن التحقيق، فهو أعم الناس بابنه، وأخبرهم بنوازعه وآراءه.

كانت صفات ملتن تحول بينه وبين الكنيسة، فإباءه ونزوعه إلى الحرية لا يسمحان أن يتقيد بقيد، ورغبته للتفرغ لقراءته والتهيؤ لرسالته يبتعدان به على أن يشغل نفسه بغيرهما، وإنه فضلًا عن ذلك ليحس في نفسه الكراهة لرجال الدين، ويشمئز قلبه إذا ذكرت عقيدة روما الكاثوليكية، فهي عنده علة التعصب وأصل تحكم القساوسة واستبدادهم وجمودهم؛ وهو فتى يعشق الحرية الفكرية وحرية العمل، ولا يستطيع أن يتصور كيف تخلو الحياة منهما وتسمى مع ذلك (حياة)! ولا نجد ما يوضح رأيه في رفض الالتحاق بالكنيسة خيراً مما كتبه بعد ذلك ببضع سنين عن الكنيسة وأشار فيه إلى ما نحن بصدده قال: (أما عن الكنيسة التي أزمع إعدادي لخدمتها منذ طفولتي حتى بلغت مرحلة من مراحل نضجي فإني مذ رأيت مبلغ ما دخل فيها من طغيان، وأن من يلتحق بها يجب أن يكون عبداً، وأن يقسم على ذلك قسماً، وجدت خيراً لي أن أفضل الصمت الذي ليس فيه ما يعاب على الوظيفة الكلامية المقدسة التي تشترى بالقسم سلفاً، وبالعبودية وتبدأ بهما!)

ولم يكن ملتن حتى ذلك اليوم بيوريتاني المذهب، وإن كانت عفته وطهره وترفعه عن الدنايا تمثل خلق البيوريتانية، وإن لم يقصد؛ أما عن مذهبه الديني، فكان حتى ذلك الوقت يتبع الكنيسة الإنجليزية الحرة، دون أن يعني بتحديد ما فيما يتعلق بقواعد مذهبها؛ ولقد كان يكره من هذه الكنيسة ما كان يكرهه من كنيسة روما من التعصب لرأيها والرقابة على المذاهب الأخرى وعلى المطبوعات؛ وأبغضت نفسه طريقة كبير أساقفتها (لود) في تعقبه مخالفيه والتجسس عليهم ورفع أسمائهم إلى الملك؛ ويعد ملتن في هذا الاتجاه كذلك أقرب إلى البيوريتانية في ناحية من نواحيها وإن لم يرمي إلى ذلك.

وأن شخصاً هذه نظريته إلى الكنيسة ورجالها لخليق ألا يقبل مركزاً دينياً مهماً منى أبوه نفسه أن يقبل، ومهما ألح عليه أصحابه أن يفعل!

أما القانون وقد كانت لحرفة أبيه صلة به، فقد فكر فيه عقب تركه الكلية، ولكنه ما لبث أن انصرف عنه؛ وأما الوظيفة الحكومية، فلم تكن احب إلى نفسه من وظيفة الكنيسة، وما ترتاح نفسه في الواقع، ولا يتجه قلبه وعقله إلا إلى الشعر، فلتكن له من عزلته في هورتون فرصة أجمل بها وأعظم من فرصة يتهيأ فيها لما يريد!

وعكف الفتى على محرابه في هورتون، فما يبرحها إلى لندن إلا لماماً ليشتري بعض الكتب أو ليستمع إلى الموسيقى أو يستعين بمن يفهمه بعض مسائل الرياضة، وألف حياة الريف وأستروح نسيمه، واستغرقت في هدوءه نفسه واستمتع بصفائه حسه، وتقلب في مشاهده بصره في بكره وآصاله وفي متوع نهاره، وإذا كان غيره من الشعراء قد تغنى بحياة الريف ولم يره، فلسوف يحيا ابن المدينة حياة الريف حقبة من عمره، ثم يمسها مسة العبقرية فيغنيها ويصور مشاهدها ويضيف بذلك إلى أدب لغته وفنها ما تباهي به وتعتز!

كان يقضي كثيراً من ساعات نهاره بين كتبه، وكان يقوم الليل كدأبه منذ سن العاشرة، وقد قوى جلده على القراءة واشتد صبره، ويعجب المقيمون في القرية من ذوي الثقافة من هذا الشاب الذي تخرج من الجامعة، ولا يزال يكب على الكتب ليله ونهاره كأنما هو مقبل على امتحان! أما أهل القرية فانهم لم يألفوا أن يقيم بينهم إقامة متصلة شاب من هذا الطراز؛ وقد ظنوا أول الأمر انه لاعب يستجم، أو زائر لن يلبث حتى يبرح القرية إلى حيث يكون مقام أمثاله في المدينة؛ وكانت ترمقه عيون فتيان القرية وصباياها في إعجاب ومحبة، فهم حيال شاب عليه فوق رونق الشباب وغضارته روعة الجمال وسيماء الوقار والاحتشام، وإنهم ليحسون في صوته عذوبة الموسيقى، ويرون في محياه إمارات النبل والأريحية والكرم؛ وما يطمع القرويات منه أكثر من أن يرينه ويراهن، وإن كان له في كل قلب محبة، وما عسى أن تنتظر صبايا القرية فوق ذلك من هذا الشاب الذي يتهامسن بأنه تخرج من الجامعة وأنه من ذوي المحتد؟ على أنه فضلا عن ذلك كان في شغل عنهن بعرائس شعره!

وإنه لأشد بالطبيعة ولوعا يقلب في مشاهدها بصره، ولكم يرى في مجالي القرية مما يشرح صدره ويهز قلبه؛ وكانت تعجبه الوجوه القرويات الوضاء لما توحيه سذاجتها من طهر، كما كان يطرب لأغاني الرعاة ويحس ما فيها من المعاني والأخيلة والصور القروية، التي يراها الآن تتصل بنفسه صلة قوية بتأثير بيئته الجديدة؛ وتبعث تلك الأغاني ما كمن في ذاكرته من أشعار أوفيد والحان سبنسر مما يتصل بالحياة القروية فيرجع إليها ويعيد في هذا الجو قراءتها فيستشعر من جمالها ويستبين من معانيها أكثر مما أتفق له من قبل؛ وهكذا يعيش عيشة الريف ويقرأ أدب الريف، فيكون لذلك أثره العميق في خياله وحسه، ولا يلبث أن تتضح صبغته في فنه!

ولكن الموثوق الشيخ وقد ركن إلى الراحة في القرية لا يزال يأمل أن يراجع ابنه نفسه فيرضى بوظيفة من الوظائف، فأنه ما يرى حياته هذه إلا ضربا من البطالة لا يسيغها عقله ولا يحبها لابنه، ويدأب الرجل على الشكوى إلى جيرانه ويصل نبأ شكواه إلى ابنه فتكدر خاطره حينا، لأنه يكره أن يغضب أباه ويكره في الوقت نفسه أن ينصرف عما يتهيأ له من رسالة تهجس بها نفسه.

ويرد الفتى على أبيه بقصيدة لاتينية جميلة فيتوسل إليه أن يدعه فيما هو فيه، ويرجو منه ألا يحتقر الشعر ويتساءل كيف يدهش أبوه وهو الموسيقي النابه من أن يكون ابنه شاعراً؟ لقد قسم أبولو إله الموسيقى والشعر موهبته بين الأب وابنه؛ والموسيقى والشعر صنوان، والشعر أقوى مواهب الإنسان دلالة على قداسة عنصره؛ وإنما يتظاهر الأب فحسب بأنه يكره الشعر، ويحتقر الشاعر في قصيدته الثراء والمادة مما يدل على إن أباه قد أشار إلى رغبته في أن يعمل على كسبهما ويستطرد موجها الخطاب إلى أبيه فيقول: (يا أبت لقد عودتني منذ الصغر أن أطلب المعرفة من أجل المعرفة فكيف تطلب اليّ أن أحفل بالمال، وأنت دون الناس جميعاً من لا يخلق ذلك به. يا أبت إن الوالد الذي لا يقتصر على أن يعلم ابنه اللاتينية فيعلمه معها الإغريقية والعبرية والفرنسية والطليانية والفلك وعلوم الطبيعة، لا يسأله أن يجعل كسب المال غرضه من الحياة، يا أبت إني اخترت ما هو خير بذلك وكأن بوحيك ما اخترت. وإني أعلم انك تقر ذلك بقلبك وتشاطرني الرأي فيه. وعلى هذا فما دمت أيها الوالد العزيز لا أستطيع أن أقابل جميلك بمثله، فإني أرجو أن تكتفي مني بالاعتراف به وببقائه أبدا في ذاكرتي؛ وإذا كان لأشعاري الفنية أن تتطاول إلى الأمل في الخلود، فسوف يكون لي من اسمك موضع لشعري).

وأكبر الظن أنه قد أصلح بهذه القصيدة ما بينه وبين أبيه، فلم يعد أبوه يشكو من إقامته في هورتون، ولعل الرجل إنما صالح نفسه على هذا الوضع إذ لم يجد لشكاياته من جدوى ولم يهتد في إقناع ابنه إلى وسيلة.

وظفر ملتن بالهدوء في عزلته الريفية الجميلة، واتفق له جو شعري ساحر،، ندر أن اتفق مثله لغيره من الشعراء في مستهل عهدهم بالشعر، فما نعلم منهم إلا من لقي أول أمره عنتا وضيقا كثيرين، وانهم ليبتلون بالعذاب من الحياة ومن أنفسهم، وما كان لينعم ملتن بما نعم به لولا زكانة أبيه وسماحة طبعه وإدراكه قيمة الفن وإيمانه به.

ولكن عبئا آخر يهبط على الشاعر في عزلته من صاحب لم يعرف اسمه، فقد عثر فيما بعد في أوراق ملتن في تلك الحقبة على ورقتين بهما سطور من رسالة كان يرد بها على كاتب صاحبه، وقد جاء فيه أنه لا يرضى لملتن أن يقضي سني عمره حالما في عزلته شأن أنديميون مع القمر بينما يمضي الزمن مسرعا. ورد ملتن بأنه يقضي أرب نفسه من الثقافة والمعرفة ليكون أرفع مما هو قدرا، ولولا أنه يؤمن بهذا الذي يأخذ نفسه به في غير رفق لما وقف مصمما في وجهه كثير من غرور الحياة كالطموح إلى المناصب والرغبة في جمع المال، والميل إلى البناء بزوجة وتكوين أسرة، والإقامة في مسكن خاص. ويرسل ملتن إلى صاحبه تلك القصيدة التي نظمها وهو في الجامعة واستغل فيها ثمار جهوده ليدرأ بها عن نفسه تهمة التبطل والخمول.

وأقبل ملتن على القراءة إقبالا عظيما؛ وكان أكثر همه منصرفا إلى الشعر في أشهر آداب الأمم، وخاصة الإغريق والرومان، واطلع إلى جانب ذلك على الأدب الفرنسي والأدب الإيطالي، وقرأ الفلسفة القديمة وخاصة أفلاطون، وفلسفة العصور الوسطى كما قرأ التاريخ يستخرج منه الحكمة والعبرة؛ وعنى بعصر شكسبير عنايته بعصر بركليس، فكان أكثر وقته مخصصا لهما وأحب هوميروس وفرجيل وأوفيد ودانتي حبا لا يضارعه إلا حبه لشكسبير وسبنسر، وكان ولعه عظيما بما استحدث في العصر الأليزابيثي من صور البيان، وما تولد فيه من مشرق اللفظ وبديعه، وما أفتنه المفتون من أساليب الوصف والغناء؛ وأعانه على استيعاب ذلك سليقة فنية خالصة، وروح إلى الفن وجماله متعطشة، وعبقرية طامحة توحي إليه أن يجري في مضمار هؤلاء العباقرة والأفذاذ وألا يتخلف عنهم في شيء.

إما عن أدب عصره فالأرجح أنه قليلا ما كان يتناول بعض آثار ذلك العصر، لأنه قليل الإشارة إليها فيما كتب قليل التأثر بها، ولعل مرد ذلك إلى انه حصر ثقته في الروائع السالفة من أدب العالم، ولم يجد ما يكافئها إلا آثار شكسبير وأفذاذ عصره.

ولم يك يقرأ ملتن قراءة عجلان لا يقع على مطلب حتى يطير عنه إلى غيره، وإنما كان يقرأ قراءة المتثبت المتقصي، الذي يعمل فكره ويقدح ذهنه في غير ملل أو نصب؛ يتكئ على نفسه حتى ينفذ إلى أعماق ما يقرأ، ولن يبرح ينشره ويطويه ويقلبه على أوجه الرأي جميعا حتى يطمئن إليه، ويقضي في أمره بالقبول أو بالرفض. ولقد عثر سنة 1874 على كراسة من مخلفات ملتن بها ملاحظات واقتباسات من نحو ثمانين مؤلفا دونها أثناء قراءته ومنها يقف المرء على مثال لكدحه وصبره على عناء الدرس.

على هذا النحو قضى ملتن ست سنوات في هورتون؛ وما تظن إن شاعرا قبله أو بعده اتسع أفق ثقافته أكثر مما اتسع أفقه، وما نظن إن أحدا من الناس شاعرا كان أو غير شاعر قد أعد نفسه لما يريد من أمر بما هو أقوى مما أعد به هذا الفتى للشعر نفسه

وكان يزور المدينة أحيانا فلا تغريه حياتها عما وطن عليه النفس من الجد، وأقصى ما كان يقضيه فيها إذا حل بها بضعة أسابيع، ولكن ذلك كان نادرا فإن معظم إقامته فيها كانت لا تعدو بضعة أيام؛ وكان في المدينة يسعى إلى حيث يستمع الموسيقى، كما كان يغشى المسارح ويزور علية القوم، ويمتع ناظريه بما يرى من جمال الحياة، ولكنه يملك زمام نفسه، ويسيطر عليها سيطرة قوية تامة قل ما توافي مثلها لغيره في سن كسنه، فإذا قضى أرب مشاعره من الجمال، وأرب جسده من الراحة، واشترى ما تتطلب دراسته من كتب عاد إلى هورتون فأقبل على أوراقه وكتبه.

(يتبع)

الخفيف