مجلة الرسالة/العدد 667/د هلورنس

مجلة الرسالة/العدد 667/د هلورنس

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1946



للأستاذ فخري قسطندي

لعل د. هـ لورنس أجدر القصصيين المحدثين بالدراسة والبحث وأحقهم بالذكر والتنويه. فهو ظاهرة طبيعية فذة كتلك الظواهر التي تبرز إلى عالم الوجود كلما ارتقى الفكر وتقدم العصر وتعقدت الحضارة. وهو كغيره من الكتاب له نواح من الإجادة والافتنان يغبطه عليها القارئ والناقد، وله نواح من النقص والضعف ينعيها القارئ والناقد أيضا. وتفسير ذلك هين ميسور، ذلك أن لورنس كان فنا مطبوعا، ولكنه يخشى أن يتملك الفن زمام نفسه ويطغي على حواسه، فهو يضطرب لذلك أشد الاضطراب، ويجزع لذلك أشد الجزع، ومادام في نفس الفنان اضطراب وجزع، ففي نتاجه اختلال وقصور. ولورنس أمير من أمراء الكتابة الفنية عند الإنجليز بلا مراء، لا يسبقه في هذا المضمار أحد من الكتاب القرن العشرين. ولا غرو فقد كان نادرة في انتقاء الكلمة اللائقة، وصياغة الاستعارة المبتكرة، تتصرف أنامله الرقيقة الصناع في اللغة فتخلقا خلقا جديدا، وتضفي عليها ثوبا شعريا جميلا تجعلها أقرب الشبه بالشعر المنثور منها بالنثر الرقيق الأنيق.

وينفرد لورنس من بين سائر الكتاب بالجدة والطرافة والابتكار التي تبدهك دون كبير انتباه فيما تقرأ له من وصف وقصة ومقال. وحسبه أنه كاتب الفكرة وأنه كاتب العاطفة؛ ولكنه ليس كاتب الفكرة الصرفة أو العاطفة الخالصة. فهو يقول (أنا أفكر) ثم يستدرك سريعا ويقول (أنا أحس). ومن ثم فإن الفكرة والعاطفة عنده تتدخلان وتتشابكان وتطغى كل منها على حدود الأخرى. وعهدنا بالعاطفة المشبوبة أن لها شأنا كبيرا في تلك الرنة الموسيقية الرائعة التي تشيع في كتابات كبار الكتاب وأئمة الروائيين. فلا عجب إذن أن يكون لأسلوب لورنس وقع جميل وسحر أخاذ.

ولد لورنس من آب سكير عربيد، يشتغل بالتعدين قي قرية بالقرب من نوتنجهام، وقد حرم عطف الأب منذ نعومة أظفاره، إذ كان أبوه متهالكا على اللذات غارقا في غمرة من المفاسد والموبقات، فلم يلق بالا إلى أسرته ولم يرع مصالحها، غير أن حدب ألام عوضه ما قد فقده من عطف الأب. إذ كانت أمه تنفث فيه موجه أثر موجه من ذلك الحب الحبيس الذي كانت تحتجزه لزوجها أيام أن كانت تعده رجل أحلامها ومحط أمالها. ويحدثنا لورنس في كتابه (أبناء وعشاق كيف أن أماً ذاقت أهوال الجحيم كي تتعهد وليدها المريض بالرعاية والعناية، وتنقذه من التهلكة والموت.

وليس ثمة شك في أن لورنس كان يصور جزءا من نفسه وبعضا من أمسه حين يعرض لهذا الحدث وما على شاكلته من الأحداث التي اكتنفته في طفولته. وقد شعر لورنس بحب ألام المفرط يجيش في كيانه ويجري في عروقه فيأسره ويتملكه. وقد يكون حب ألام خير في عالم يمكث فيه الأطفال أطفالا غير أنه شر مستطير في عالم يشبون فيه عن الطوق ويدخلون في طور الرجولة. فكما أن المرء يفسد طفله كلما بالغ في إعزازه وتدليله كذلك أفسدت تلك ألام وليدها بما أغدقت عليه من حب جامح فياض. فقد أنقلب حب لورنس لأمه وجدا وهيما، ويتجلى ذلك بوضوح في مرثيته التي يشيد فيها بذكرها والتي مطلعها:

معشوقتي الصغيرة! محبوبتي!

أقبلت قبلة الوداع، يا أحب مخلوق إلي.

فهنا استحالت عاطفة البنوة إلى صبابة ووله، ولم يعد لورنس ينظر إلى أمه كشيء أثير عنده عزيز عليه فحسب، بل كمحبوبة خليقة بالتشبيب والتقديس. ويقول مدلتون مرري في كتابه (أبن الذي ترجم فيه للورنس (أنه لم يكن في مقدوره أن يسبغ حبه على امرأة أخرى مادامت أمه على قيد الحياة. ولقد كان لهذه التنشئة أثر ضار، إذ أشرب كاتبنا عقيدة جديدة شاذة ناضل عنها بكل قواه، وضحى في سبيلها بما كان يرتجي له في ميدان الأدب من رفعه وسمه وجاء، فما وهنت له عزيمة، وما فترت له همة وما خف له حماس حتى دهمه الموت وفارق الحياة.

ذلك أن لورنس ذهب إلى قول بأنه ما من سبيل إلى فهم الحياة على حقيقتها ما لم نتصل بالمرأة اتصالا جنسيا، فنقرب الشقة بيننا وبين الجنس الأخر ونفهم نياته وخفاياه، ونطلع على أحاجيه وأسراره ونبرزها للعيان. وما كانت الحياة عند لورنس إلا رجل وامرأة، رجلا سبرنا أغوره واستقصينا أعماقه وإدراكنا ماهيته، وامرأة تحيطها بغلالة من الإبهام والغموض والالتواء والتعقيد،

ولا أمل لنا في فهم الحياة ما لم تبد لنا المرأة كما هي مجردة عارية من جميع الدوافع والنوازع والمغريات والمؤثرات. وإذا كانت الحياة كذلك فلا غنى للرجل عن المرأة، ولا غنى للمرأة عن الرجل، فلا كلاهما شطر يكمل الأخر ولا ينفصل قط عنه. ومن ثم فليس ببعيد أن تثير سيرة المسيح في لورنس الحقد والموجدة، وتؤجج في صدره نيران الغيظ والكراهية، إذ كان المسيح الشخصية الوحيدة الفريدة في تاريخ البشرية التي تهدم نظريته من أساسها. فلم يلجأ المسيح إلى المرأة يبتغى منها أن تملأ ما في حياته من فراغ وأن تسد ما بها من نقص. ولم يدع المسيح إلى الحياة الجنسية يؤازرها ويعضدها، بل فرق ما بين الروح والجسد بنطاق من الطهر والعفاف، وأحدث خرقا لا سبيل إلى رتقه ما لم نرجع إلى الحياة البدائية الأولى حيث كان اتصال الجنسين حرا طليقا لا تعوقه العوائق ولا تعترضه العقبات.

والفتح الجديد الذي فتحه لورنس في القصة هو محاولته أن يفلسف الجنسيات. ولا أدل على ذلك من أن أسلوبه بدع في مرماه ومغزاه، إذ هو يسعى في غير خجل وحياء إلي التعبير عن العلاقات الجنسية بين العشاق، وما تستتبعه من لذة ونشوة حسيتين عظمتين، وقد يصيب لورنس ويجيد ويفي على الغاية، وقد يخطئ ويقصر دون بلوغ الغاية، ولكنه علىذلك كله حاول أن يبتدع أسلوبا غير معهود من قبل فيما كتب الكتاب وألف المؤلفون. ومن الكتاب من يثنى على لورنس لنجاحه في التعبير على الجنسيات، ومنهم من يرثى لفشله في هذا الضرب من الكتابة دون الاعتبار لأي معيار من معاير الأخلاق، فما زالت تدوي حتى ألان تلك الصرخة: الفن للفن والذي يعنياه أن لورنس كان يعمد إلى كد الذهن، وإعنات الفكر ليتحقق ما كان ينشده من التعبير عن الجنسيات في لغة مثيرة غنية بالصور الحسية والاستعارات غير المألوفة. فما كانت المتعة الجنسية وما يدخل في نطاقها من لذة ونشوة غير مشاعر وأحاسيس خفية لا يسهل الإفصاح عنها إلا عن طريق المجاز، وبرغم ذلك كله فإن لورنس لم يظفر بالنجاح المنشود ولم يبلغ الغاية المرموقة.

ويبدو لنا التجديد الذي أدخله لورنس على القصة قوياً رائعاً أخاذاً في تقديمه لقصته (عشيق ليدي تشاترلي ' بقوله (إن الصورة التي يفيض عليها الشعور وينحصر هي التي تقرر حقاً مصائر حياتنا، وهنا تكمن الأهمية العظمى للقصة حين نتصرف فيها تصرفا صحيحاً، ففي مقدورها أن تقود فيض شعورنا المتسق في مواضع جديدة، وفي مقدورها أن تقود شعورنا بعيداً في ارتداده عن الأشياء التي انتهت إلى العدم. ومن ثم كان في استطاعة القصة حين نتصرف فيها تصرفا صحيحاً على المواضع الخفية جداً في حياتنا، لأن فيض الشعور المرهف في حاجة إلى إن ينحسر ويتدفق منظفاً ومجدداً في الأماكن الخفية العاطفية في حياتنا)، والذي لاشك فيه أن لورنس يريد أن يصور الحياة كفيض يتعاقب عليه الجزر والمد. فالحياة أذن أفراح وأتراح، وحب وبغض، وأمال وألام، وحقائق وأوهام، وتفاهة وخطر، إلى غير ذلك مما يضمه كتاب الحياة المليء بين دفتيه. أما ما يعنيه لورنس بفيض الشعور وانحساره فهو أن النفس البشرية ذات خوالج مختلفة ونوازع متنافرة، ونحن لا نرى في الشخوص التي يعرضها علينا لورنس في قصصه الطويلة والقصيرة إلا النفس في حالة قبضها وبسطها ورضائها واستيائها.

وحين ينقم لورنس على المدينة الحديثة، ويصب جام سخطه عليها يضع نصبة عينيه فلسفته الجنسيات. فالمدينة الحديثة معتلة مموجة، مختلفة مضطربة، متداعية منهارة، لأن الإنسان الحديث أطلق العنان للعقل. وأسلم له قياده، وتركه يهيمن على عواطفه، ويسيطر على حياته. حتى بلغ الأمر بالعاطفة إنها صارت نتاجا تافها للعقل، ولورنس ينحني باللائمة على العقل، الرجل المتمدين الحديث لأنه بإذعانه للعقل، أفقر الدم الذي هو ينبوع العاطفة، ومن ثم فقد أرسل لورنس غضبته المدوية فقد أرسل لورنس غضبته المدوية بأن على المرء أن يحيا حياة عاطفية لا تكبلها الأديان ولا تحدها الطريق. ولورنس يذهب إلى ابعد من هذا فينادي بالاتصال الجنسي ويحث عليه، إذن أن فيه تحقيقا للحياة الفطرية العاطفية القديمة التي لا يشوبها تكلف وتصنع أو شاب وأدران.

ولورنس يحمل على المدينة الحديثة لأنها حطت من قدر الحياة القديمة، وشوهت من قيمتها، ذلك لأن التكالب على جمع المال، وتحصيل الثروة وطلب الجاه، وحب السيطرة والرئاسة؛ دفعت بالمرء في طريق غير مأمون العاقبة، فأخمدت شعوره بدلا من تذكيه، وأسكنت عاطفته بدلا من أن تثيرها ومن ثم فقد صار من أن يأخذ فيض الشعور وانحساره طريقه المعهود.

هذه النقادات الجارحات التي أرسلها لورنس عن طريق قصصه أثارت ثائرة النقاد عليه وأحفظهم ضده، فحملوا عليه حملات شعواء ونددوا بآرائه وكتبه وكأنه أراد أن يقابل العدوان بالعدوان، فلجأ إلى إصدار قصته الطويلة (عشيق ليدي تشارلي) التي وصف فيها وصفاً سافراً العلاقات الجنسية بين الرجل والمرآة. والواقع أن رغبته الجامحة في أن يكتب لجمهرة القراء قصصاً تكشف بوضوح عن انحسار العاطفة وفيضها كان بليغ الأذى بعيد الضرر.

ولقد قصر لورنس نفسه في مستهل حياته الأدبية على وصف ذلك اللون من ألوان الحياة الذي يدور على حياة المعدنين المضطربة التعسة، ونفوسهم الحزينة الكسيرة، وآمالهم المحطمة الذابلة. ولقد وفق لورنس في هذه الناحية توفيقاً بعيداً، وأجاد أجاده كبيرة لا تتوفر إلا فيمن خبروا مثله صنوف الألم ومتاعب الحياة في مهد الصبا وميعت الشباب.

فلما تألق اسمه في سماء الأدب حين حظيت قصته الطويلة (الطاووس) بالرواج والذيوع، ترك هذا اللون من ألوان القصص إلى غيره مما لم يستكشف من قبل، وما أتينا على ذكره حين عرضنا لفلسفته. فلما كانت قصته الطويلة (عشيق ليدي تشاترلي)، لم يجد بداً من أن يشد رحاله بعيداً عن إنجلترا حيث اغضب الرأي العام، وابتدأ تجواله في طول الأرض وعرضها، فزار فرنسا وإيطاليا وألمانيا، واستقر به المطاف في المكسيك.

وهناك عاش ناعم الحال رضى البال يحيا لفلسفته ويعيش على كتبه، وهناك أيضاً خبر الحياة البدائية الطبيعية البعيدة عن أدران المادية والمدنية.

وصفوة القول أن لورنس كاتب شاعري النزعة يحتل مكانه في عالم الأدب بجانب أميلي بمرونتي، وتوماس هاردي وغيرهما من الكتاب الذين حاولوا أن يفهموا الحياة ككل، فلم يعرضوا لها من جانب واحد يقتلونه دراسة وبحثاً. ولئن كان لورنس قد تنكب جادة الصواب في بعض الأحيان، فله بعض العذر إذ عاش عيشة مضطربة قاسية أملت عليه ما أذاعه للرأي العام.

ومهما يكن منشيء فللورنس على القصة فضل كبير، إذ أدخل عليها الجرأة في التفكير والصراحة في التعبير.

فخري قسطندي

ليسانسيه الامتياز في الأدب الإنجليزي