مجلة الرسالة/العدد 667/قصص فرعونية:

مجلة الرسالة/العدد 667/قصص فرعونية:

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1946


3 - قصة سينوحيت

لأديب مصري قديم

للأستاذ محمد خليفة التونسي

(ملخص ما نشر في العددين 663و666)

(أشرك ملك مصر أمنحت الأول قبل وفاته بعشر سنوات، أبنه وولي عهده أسرتن الأول في حكم مصر، وكان أسرتن يقوم بقيادة الجيوش في حملاته على البلاد الخارجية، بينما يبقى أبوه في العاصمة لتدبير شؤون مصر.

(في إحدى حملات أسرتين على ليبيا كان يرافقه بطل القصة سينوحيت الذي كان حافظ أختام الملك ونديمه ومستشاره والقيم على شؤون الغرباء في مملكته، وبينما الجيش عائد إلى العاصمة من الغرب جاء رسول من القصر إلى أسرتن ينعى أليه أباه سرا، وسمع سينوحيت بنعيه فقرر الفرار من الجيش ومصر جميعا لا نه رأى في مصر خطرا على حياته، بعد موت أمنحت واستداد أسرتين بالآمر فيها، فاختفى في أحد الحقول حتى مر الجيش على مكمنه دون أن يراه أحد، ثم سار إلى سنفرو وثم الجميزة، ثم عبر النيل إلى الشرق وجده هناك حتى وصل الجبل الأحمر، ثم سار إلى الشمال مجتازامسلحة عند عين الشمس كانت تحمي مصر من غازات الاسويين، ثم أنحدر من وادي كيمور (طوميلات في أقلي الشرقية) وفيه كاد يهلك ظمأ لولا أن عثر عليه رجال من الساتي (بدو آسو) فعرفه أحدهم وأنقذوه وأضافه أياما عندهم، ثم رحل إلى أدرهم فيقي فيها عدة اشهر، ثم دعاه أحد أمراء فلسطين أليه فلبى دعوته، هناك سأله الأمير عن سبب هربه فلم يجيبه جواب يطمئن أليه، وحاول الأمير أن يعرف منه أحوال مصر، وأثار ريبته في قوتها بعد موت امنحعت وتولي آسرتين، ولكنه أجابه بان مصر لم تضعف بل زادت قوة بتولي آسرتين ووصفه له يدل على بلاغة وإخلاص، وكان وصفه جامعا بين ابلغ الترغيب في الملك والترهيب منه، فاقطعه الأمير أرضا وولاء ولاية يحكمها وزوجه كبرى بنائه فأنجبت له كثيرا من الأبناء الذين صاروا رؤساء للعشائر في الولاية التي يحكمها أبوهم من قبل الأمير، وولاء الأم قيادة جيشه فأبلى في مكافحة أعدائه البدو وتامين بلاده خير بلاء ثم جرت بينه وبين أحد البدو مبارزة انتصر فيها على البدوي وقتلة واستحواذ على أمواله، وقد وقعت هذه المبارزة في آخر المدة التي أقامها هناك والتي تزيد على عشرين سنة، وقد رأى بعدها أن موقفه دقيق حرج في اغترابه، فستكشر من الأموال لتكون له عونا عند البلاء، كما أرسل إلى ملك مصر رسالة يلتمس فيها أن يأذن له بالعودة إليها بعد أن صار شيخا ضعيفا، ويصف له كيف كان في أول أغرابه بائسا وحيدا ثم كيف صار حاكما هو وبناؤه والذين أنجبهم على إحدى ولايات فلسطين وعشائره. . . وهذه بقية الرسالة والقصة. . .)

(آو لم يأن لي أن يصفح مولاي عن جريمة هربي، فأعود إلى وطني، واسترد مكانتي في البلاط، واحظي بالعيشة الراضية في تلك البقعة المباركة التي تركت فيها قلبي. انه لا سعادة لي ألا بان ارجع إلى تلك البقعة حيث ولدت ونشأت، ثم أموت وادفن هناك، فما اسعد من يقضي نحبه في بلد ولد ونشا فيه! لشد ما تحملت - يا مولاي - في غربتي من آلام! وطالما صبت نفسي إلى أن أراني في وطني مرة أخرى لأنعم في جنباته بالراحة والسلام، وما اكثر ما قدمت من القرابين للآهة علها تنظر آلامي وتحقق آمالي. حبذا لو تكرم فرعون مصر العظيم فشملني بعطفه، ومكنني من انعم بإحسانه، أتقدم بولائي إلى ربة قصره، واقف على حالها وحال بنيها وبناتها أذن لرد مولاي إلى بذلك شبابي الضائع، فهاأنذا اشعر بالشيخوخة تسعى إلي، والخور ينسرب في كياني، وإكلال يرين على عيني، والاضمحلال يدب في رجلي، والفتور يتغلغل في عروقي، والبطيء ينتاب نبضات قلبي.

ويحي! فان المنية القاسية لتسعى إلى لتخطفني، وما أوحى ما تقذف بي إلى الهاوية الأبدية، فهلا يتاح لي أن الحق بسيدة القصر سلطانة العالمين، فأجد راحة الموت على يديها).

لم يمضي بعد ذلك وقت طويل حتى آتاني جواب الملك المعظم وقد حقق آمالي وما فوقها، فقد عفا عني وسمح لي بالعودة إلى وطني، وولاني ولاية من قبله في الخارج، كما أتحفى بكثير من الإتاوات، أرفقها بتحية أولاده، وهاو هو ذا آمره الملكي الكريم: (من حورس بن رع صاحب التاجين، وحاكم مصر العليا والسفلى، وروح النسل، ومانح الحياة، والخالد على مر الدهور. الأمر الملكي العالي الموجه إلى الشريف سينوحيتلأعلامه بما رأى جلالة الملك فيما التمس منه.

هاأنتذا قد فررت من الدلتا إلى أصقاع أجنبية، وارتحلت من أيدوم إلى تنو، وجست خلال بلاد شتى طوعا لما جال بخاطرك فتأمل، ويحك، ما أداك أليه طيشك!

لست أدري ماذا حملك على هذه الهجرة، وأنت لم تجترح جرما، ولم تحتكم إلى مجلس الأشراف لتسمع حكمه فيك أنها أوهامك الكاذبة التي دفعتك إلى تلك الهجرة.

ولقد كان ما كان من أمرك على ما علمنا وعلمت، فلا تتحول عما أزمعت من الرجوع إلى وطنك بعد أن وضحلك الذهب السوي، كما أن مولاتك الملكة لاتزار تتألق في القصر على غاية من الرغد والعافية، وقد نما أولادها وصاروا زينة القصر، واتخذوا منازلهم في القصر، ولقد ابتهجت الملكة وأولادها بنبإ مقدمك حين نمى إليهم، وسيسعدهم أن يجزلوا لك الهبات، وأن يرعوا حقوقك. ولتثق أنك، عند عودتك إلى القصر الذي فيه نشأت ستكون حيث يليق بك، فدع كل ما في يديك، وعد إلينا بنفسك، حتى إذا بلغت مصر فاجعل وجهتك القصر المعظم فانك ستكون فيه زعيما على أنداد مرة أخرى.

هأنتذا تشعر بالشيخوخة تدب إليك، والضعف يحترم قواك وقد صار التفكير في دفنك بعد موتك يقلق فكرك، ويعذبك.

لا تجزع فانك ستعود إلى الوطن المقدس، حتى إذا حان حينك زاملوك بلفائف الكتان، وصبوا عليك الزيت حنوطا، ووضعوك في نعش مذهب قد طلى رأسه بطلاء لازوردي، وغطى بغطاء في شكل السماء، وعندما تشيع جنازتك ستجرها الثيران، وبين يديها المربتون يرددون أمامك أناشيدهم، وإذا ما أنزلت في قبرك - حيث يقبر أبناء الملك - رقصوا أمامك رقصة الدفن، وقام النائحون يجأرون بصلواتهم ومراثيهم لتأبينك، ونحت القرابين على روحك، وشيد فوق قبرك هرم من الرخام الناصع.

هذا ما ستكون عليه شعائر دفنك في وطنك بين أهلك، ولن تموت كما تخشى في أرض أجنبية فيلفك الأسيويون في أديم شاة، ثم يشيعونك وهم يدقون الأرض، ويبكون على جثتك إلى أن يغيبوك في لحدك وعليك أن تبادر إلينا بالرجوع).

كنت مجتمعا برجال قبيلتي حين أتاني الجواب، وما كدت أستوعبه حتى خررت على وجهي، وعفرت بالتراب رأسي، ولم أتمالك نفسي أن أقفز وأن أطوف بفسطاطي، وأصيح قائلا: (عجبا لي كيف أجاب إلى ما طلبت، وما أنا ألا تابع تمرد على سيده، وأبق من وطنه مهاجرا إلى أقطار أجنبية. لشد ما أجد من غبطة بعد أن عفا مولاي عني وأذن لي أن ارتد إلى وطني آمنا على حياتي، ولأقيم في بلاطه عالي الشأن راضي المعيشة إلى أن يوافيني أجلي).

ولم ألبث أن كتبت إلى مولاي هذا الكتاب، قدمته بين يدي رحيلي إلى وطني: (أنني خادمك سينوحيت، أتقدم إلى جلالتك بخشوعي وولائي وتحياتي، ملتمسا العفو عما جرته على حماقتي حين أبقت من مصر، وأنك لرب المغفرة أيها الآلة النبيل المهيمن على العالمين، وإني لأتوسل إلى رع وحورس وهاتور وسائر الأرباب العظام أن تهبك الخلود، وتلهمك الحكمة والسداد في كل خطاك، وتكفل لك الأمن والسلام، وتغدق عليك نعمها ظاهرة وباطنة، وتبسط سلطانك على الصحراء، وتمده على كل ما تطلع عليه الشمس من السهول والحزون.

لقد أسبغت نعمك علي أيها الآله الجليل كما يسبغ رع نعمه على مريديه، وقد اطلعت على ما حاك في صدري فشملتني برحمتك وهديتني من ضلال، وآويتني من اغتراب. وانه ليحلو لي أن أعيد ما كتبته يا مولاي إلى من روائع حكمك وآيات بلاغتك، وما كنت ألا خاما تافها لا يستحق شيئا من هذه النعم ولا بعض هذا الاهتمام، لولا أنك - في جلا لك ورحمتك - كالآله العظيم حورس تضلل برعايتك جميع رعيتك.

ولقد ضللت لك - يا مولاي - التابع الأمين الوفي في كل ما قلت وفعلت، وان أمراء هذه الجهات شهداء على ما أقول وحسبك يا مولاي أن كل السكان هناينظرون إلى جلالتك في خضوع الطلاب الوفية، ما تبدلت عواطفي نحوك، وما كانت هجرتي ألا رؤيا حالم في الشمال بأنه قد صار فجأة في أبو (قريب أسوان شمالا) أو رؤيا حالم من جيرة الوادي في الجنوب بأنه رحل إلى مستنقعات الشمال، فأنا لم أجن ذنبا أخشى مغبته، ولم ادنس أذني بالإصغاء إلى الأشرار، ولم يلهج باسمي لسان في مجامع القضاء، وما فتئت في غربتي أرفع ذكرك وأشيد بعظمتك، وما كانت هجرتي من مصر نظاما مدبرا؛ بل خاطرا فطيرا مرتجلا تلجلج في صدري فانطلقت قدماي انطلاقا، لقد قدرت الآلهة على الهجرة. ثم قدرت لي العودة، وهاأنذا أتزلف إلى جلالتك مطاطي الرأس لعلك تعفو عني، وتتجاوز عن سيئاتي. ولا على الإنسان أن يعود إلى وطنه، فما مقامي في هذه الغربة كمقامي عندك في القصر، أيها الملك العظيم الذي نشر الآله رع رهبتك وجبروتك على كل البلاد، فكل سكانها ينظرون إليك خشية وهيبة بقلوب مضطربة وعيون زائغة. سأترك كل ما في يدي هنا طوعا لآمرك الكريم لمن له الآمر بعدي. غير أن أطمع أن تأذن لرسولك إلى أن يختار ما يروق له عنده وسأبقى مدين لك وحدك بحياتي التي أنقذتها من العذاب. وأدع رع وحورس وهاتور ومنث ـوأنت صفيها ومختاراـ أن تصفيك الحياة الراضية الخالدة).

وأقمت مهرجانا عاما فخما في إقليم (ياع) ثم دفعت إلى أبنائي كل ما تحت يدي من أموال وأنعام، وخلفني ابني الأكبر في زعامة القبائل فاختصبكل مالي من الحدائق والبساتين والحقول والأنعام. وما فرغت من ذلك حتى وليت وجهي شطر الجنوب في عصبة من رجال الساتي (البدو) كانت مهمتهم خفرتني في الطريق طوال رحلتي إلى مصر، ومضينا نغذي السير حتى بلغنا طريق حورس حول الفرع الشرقي للنيل حيث أقيم هنالك حصن لدفع الغارات عن الحدود، فاستقلبنا حاكم الأقاليم بحفاوة، وبعث رسول إلى البلاط يخبر الملك بمقدمنا، وما هي ألا أيام قضيناه هناك في طريق حورس حتى بعث الملك إلينا كبير المشرفين على مزرعة في أسطول من السفن تحمل الإتاوات الملكية إلى العصبة التي تولت خفرتي في أثناء الطريق من رجال السات، فأذنت فيهم، وسلمت كلا منها ما يستحق منها، وبلغتهم تحيات الملك وشكره ورضاه، فحملوني تحياتي أليه وتقديرهم لنعمته، وكروا إلى بلادهم راجعين.

أما أنا فقد تابعت رحلتي حتى بلغت ثتوى (العاصمة) وعندما تنفس الصبح وافاني رسول الملك بدعوتي إلى المثول بين يديه، فسرت معهم حتى بلغنا القصر، فصافحت أرضه، وفي فنائه وجدت أولاد الملك متهيئين لاستقبالي، ثم اقتادني رجال الحاشية إلى حجرة الملك الفاخرة، وفيها وجدت جلالته مستويا على عرشه الفخم، فسجدت بين يديه، وعندئذ أحسست بالعمى يرين على عيني، وبالانحلال يشل أعضائي فيمنعها الحركة، وشبه لي أن قلبي زال عن مكانه، وكانت قد حالت بي الحال حتى لم يعرفني جلالته، فأشفق على، وأمر رجال الحاشية أن يقيموني، وتحدث ألي برفق ولطف، ليسرى عن ما أل بي من الدهشة، ويطلق لساني مما عقله من الاستغراب، فأحسست بالحياة تعود آلي بعد الموت، وبالنطق يعود إلى لساني بعد الحصر، وبدأت أعي ما حولي وأتأهب لفهم ما يلقي ألي.

قال لي جلالته: (هاأنت ذا أخيرا في القصر بعد أن جست خلال القفار، وتمرست بألاسفار النائية، فقد مسك الضر، ونال منك الوهن، وصرت شيخا ضعيفا حتى ليعسر تحنيط جثتك، ماذا أنت؟ وفيما وجومك؟ أهو الخوف قد عقد لسانك وحصره عن الكلام؟).

فاستجمعت قواي، وتحاملت على نفسي، وبادرت جلالته قائلا: (ومم الخوف يا مولاي؟ أنني لم أسمع منة جلالتك ما أخشاه أمنا أنا إنسان ضعيف، لا تؤيده قوة علوية تدفع ما يحوي محضرك من رهبة في قلبه، وهأنذا أمامك، وحياتي منك واليك وقد وضعت حياتي كلها بين يديك).

وما هي ألا لحضه حتى دخلت الملكة والأمير، وشاء جلالته أن يتبسط معي، فقال مداعبا: (هذا سينوحيت قد أقبل كأنه أحد رجال العامو (بدو أسيا)!).

فتجاهلتني الملكة والأميرات، وهتفن معا: (ما هذا سينوحيت أيها الملك!).

فأجاب (بل سينوحيت نفسه).

ابتهجت الملكة والأميرات بمقدمي، وبادرن إلى جناحهن في القصر، وسرعان ما عدن وقد تقلدن القلائد، وأنطقن المناطق، وتهيأن بآلات الرقص، وطفقن يرقصن وينشدن هذا النشيد:

جادك الأربابُ بالخير العميم ... أيها الملك وأصفوك الخلود

وأحاطوكَ بآياتِ النعيمْ ... واحبَوْاعهدك عزاً وسعودا

ورعا مَسراك أربابُ النجومْ ... أين أبحرت هبوطا وصُعُودا

جامِعَ التاجين في تاج يقومُ ... حول الثعبانُ وضَّاءً فريداً

فوق رأسٍا لك جبارٍا حكيمْ ... لم يزل في كلِّ ما يمضي سديدا

قد أزلت البوسَ عن مصرَ فزلاً ... وغدت أقدارُها في راحتك

دان قطر أنها جنوبا وشمالاً ... لك وأستخذى أعاديها لديك

كل من فيها إذا شاء سؤلاـ ... لا يرى من ملجأ ألا إليك

حيث ضاق الناسَ بالعيش احتمالا ... لم يكن معتمدٌ ألا عليك

دمت للخائف والعاني ثُمالا ... تُبذل النعمى وترجى من يديك

قد حباك الحكَم والبأسَ الإله ... فأنزل خوفك عن هذا المريبْ

ويحَ سينوحيتَ قد طال أذاه ... فمحياة من الخوف كئيب فر من مصر بلا ذنب جناه ... وهو المولد فيها والرّبيبْ

خوفه بأسَك منها قد نفاه ... فانتفي والخوف يغري بالذنوبْ

فاردُد المجدَ إليه والحياة ... أنه فينا ومنا لقريب

وما انتهى الرقص والنشيد حتى قال جلالته الملك (يا سينوحيت لا تثريب عليك، فلن يصيبك ما تكره، ولن يحيق بك سوء وليهدأ قلبك، ويفرغ روعك، وأنك منذ الآن من رجال حاشيتي بل صفي من بين جميع النبلاء، فأنطلق إلى القصر الذي أختصصناك به، عد إلينا في البزة التي تليق بك).

وأمر الملك رجاله أن يذهبوا بي إلى خزانته لآخذ ما شاء من نفائسها، وخرجت مع الأميرات وأيديهن في يدي، حتى بلغنا الباب العظيم، ثم حللت قصرا من قصور الأمراء أهداه إلى الملك، وقد حملت إلى فيه خيرات كثيرة من القصر الملكي الأبيض، وجئتني نفائس من الحلل الملكية والعطور التي يصطفيها الملك.

وقد وجدت قصري فخما وأثاثه فاخرا، ورأيت له جنة ذات فواكه وأشجار، وفيه كثير من الاتباع والخدم الذين أعدوا لخدمتي، وما كدت أحل بقصري حتى انتزعوا ثيابي الحقيرة، وألبسوني حلة بيضاء فاخرة من الكتان، ورشوا على أجود عطور مصر وأطيبها، بعد أن أزالوا لحيتي وقصوا شعري ونسقوه ثم قذفوا بثيابي القديمة إلى عرض الصحراء.

ونمت هناك على فرش وثيرة، فتذكرت أيامي بالرمل وأهله وما آل إليه من نعمة في هذا القصر الفخم، بعد أن صرت في أعداد النبلاء، وعندئذ أحسست بالشباب يعود إلي بكل مزاياه.

أقمت بقصري منعما، وكان الطعام يحمل إلى ثلاث مرات أو أربعا من القصر كل يوم، وكانت الآسرة الملكية تغمرني بإتاواتها، وهب لي كل ما أمام قصري من الحقول والبساتين مما لا يهبه ألا يهبه ألا لرئيس ديوان.

ومع كل هذه النعم التي أضفاها الملك على لم يغفل عن أن يفي بوعده الخاص بمدفني، فقد أمر جلالته بأن يشاد هرم من الرخام الناصع، فوضع تصميمه كبير المهندسين في القصر، وشيده كبير البناءين فيه كإتقان واجمل ما شيد في حياته، وقد حفر قبري تحته في صخرة، وبعد أن تم الهرم قام رئيس النقاشين نفسه وزخرفته، وهكذا حظيت بما لا يطمع في الخطوة به من كان مثلي تفاهة ورقة حال؛ ولست أرجو ألا أن أتقضى ما بقي من عمري مستمتعا بجوار مولاي بما آنا فيه من فضله وبره، حتى أفارق الحياة، فانقل إلى مدفن.

محمد خليقة التونسي