مجلة الرسالة/العدد 667/مستقبل الجامعة الأزهرية

مجلة الرسالة/العدد 667/مستقبل الجامعة الأزهرية

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1946


للأستاذ عباس محمود العقاد

الجامعة الأزهرية معهد يراد به البقاء، ما في ذلك ريب عند أحد من المصريين، لأنها مرجع العلوم الدينية والثقافة العربية، وهي عدا هذا أقد جامعة في العالم بأسره، فالأمة التي تملكها كفيلة أن تحافظ عليها وتستديم بقائها وازدهارها. ومن أول أسباب الاستدامة أن يتجدد التوفيق بينها وبين مطالب الزمن بغير انقطاع، وأن تكون مطلوبة لما حضر ولما سيأتي، ولا يقتصر طلبها على ما مضى وكفى.

ومع هذه الرغبة الوثيقة، لا نرى في الأمر مشكلة تعترض الراغبين في دوامها ودوام ازدهارها إلا من ناحيتين لا يصعب تذيل العواقب فيهما: أولاهما الثنائية في نظم التعليم بمدارس الأمة الواحدة، والثانية أن تكون نتيجة التعليم في الجامعة الأزهرية تخريج (طائفة معاشيه) يربط بعضها ببعض تحصيل المعاش أو حاجتها هي إلى المعاش، وإنما الواجب أن يكون بقاؤها منوطا بحاجة الأمة إليها لا بحاجتها هي إلى الأمة، ولاسيما حاجتها من الوجهة المعاشية دون غيرها.

وقد أحسنتم التوصيف والتعليل حين أشرتم في عدد الرسالة الماضي إلى (بدء الوحدة الثقافية بين أبناء الأمة).

فإننا لا نعرف في البلاد الإسلامية داعيا إلى انفصال طائفة من الطوائف بمنهج من المناهج العلم أو مسلك من مسالك المعيشة، لأن رجال الدين من المسلمين لا يعتزلون الحياة ولا ينفصلون عنها ولا يلوذون بالصوامع ولا يترهبون، ويستطيع الرجل منهم أن يسلك في معاشه مسلك المهندس والطبيب والصانع والفيلسوف، وكل ذي عمل من الأعمال الدنيوية التي يزاولها سائر الناس. فإذا أستعد للدراسة كما يستعد المهندسون والأطباء والصناع والفلاسفة؛ فليس في ذلك ما يخل بوظيفته المقبلة أو ينقص من عدته التي يستعد بها لغده. بل هي عزلة التعليم التي تضيره وتقطع ما بينه وبين أبناء العصر من صلات المعيشة وأسباب التفاهم وتبادل الشعور، فلا تزال الفجوة بينه وبين عصره بابا للاختلاف والأشكال.

فمن الواجب قبل كلشيء أن نبطل الثنائية في نظم التعليم بالمدارس الابتدائية والثانوية، وأن يتدرب الأزهري للتخصيص في جميع العلوم العالية كما يتدرب كل مصري للتخصص في جميع العلوم العالية مادام في دور التأهب والتحضير. فيتعلم الأزهري اللغة الأجنبية ويتعلم المبادئ الضرورية من معارف العصر الحديث، ويبدأ في التعلم وفي إمكانه بعد أن يتبين حقيقة ملكاته وميول عقله ونفسه أن يصبح من الأطباء أو علماء الفلك والرياضة كما يصبح من فقهاء الدين أو فقهاء اللغة العربية.

وقد أرتم في مقالكم القيم بالعدد الماضي من الرسالة (أن يقتصر في التعليم الجامعي في الأزهر على كليتين اثنتين: كلية الدين وتدمج فيها كلية الشريعة وكلية أصول الدين، وكلية اللغة وتندمج فيها كلية اللغة العربية ودار العلوم، وقسم اللغة العربية من كلية الآداب بجامعتي فؤاد وفاروق، وتشترك الكليتان في الدراسة العميقة للغتين العربية والأوروبية، وتنفرد كلية اللغة بتاريخ الآداب العربية والأجنبية، كما تنفرد كلية الدين بتاريخ الأديان السماوية والأرضية، وذلك بالطبع فوق ما تختص به كلتا الكليتين من علوم الدين أو من فنون اللغة، وما يتصل بهذه أو بتلك من العلوم الحديثة. . .)

وعندنا أن هذا الرأي في إجماله مقبول لا يكثر عليه الخلاف ولا أرى من جانبي ما أخالفكم فيه قبل الدخول في التفصيلات.

أما التفصيلات، فهي مما يعرض لنا عنه البحث في تقسيم الكليات، وفي مدى التعليم التي يحتاج إليها الطالب الجامعي في كل منها.

فنحن نعتقد أن المجال يتسع في الجامعة الأزهرية لثلاث كليات على الأقل: إحداهما للدين الإسلامي، والثانية للدراسات الدينية والفلسفية، والثالثة لدراسة اللغات والآداب، ويجد الطالب في كل واحدة منها ما يشغله سنوات قبل الوصول إلى دور التخصص والاستيعاب.

سمعت في حياة الشيخ المراغي أنه رحمه الله كان يفكر في تدريس (مقارنة الأديان) بالجامعة الأزهرية، فاستكبرت الأقدام على ذلك قبل تمكين المقدمات التي يتطلبها هذا المبحث الجسام، فأن علم المقارنة بين الأديان أخطر العلوم على من يهجم عليه بغير أهبة وتمهيد، وأنفع العلوم لمن يشارف بعد تأهب صالح وتمهيد طويل.

وهذا العلم وحده - وما يتصل به من المسائل الإلهية - يستغرق السنوات للاحاطه به والإيغال في شعابه ودروبه، وهو يدرس ببعض الإسهاب تارة وببعض التلخيص تارة أخرى في الجامعات العلمية والجامعات الدينية، ويلتقي بعلوم أخرى لامحيص عن الإلمام منه بالقدر المفيد، كعلم الإنسان وعلم الأجناس البشرية. وعلم اشتقاق اللغات، ودلالات الكلمات التي تدل فيها على أسماء الأرباب وشعائر العبادات.

فدراسة هذه المباحث لازمة للطلاب الأزهريين وهم أحق بها من سائر الطلاب، ولا يتأتى لهم أن يدرسوها مع التخصص لغيرها أو التوسع في أبواب التخصص الأخرى، وإنما يتوسعون هنا ويأخذون بأطراف من علم يحتاج إليه رجل الدين.

على أن (المقارنة بين الأديان) حظ مشترك بين المسلمين وغير المسلمين، ويجوز أن يدرسه المسيحي والإسرائيلي والبوذي ومن لا دين له، كما يجوز أن يدرسه الطلاب الأزهريين.

لكن الموضوع الذي تتعين دراسته في الجامع الأزهر ولا يعقل أن يستوفيه طلاب جامعة من جامعات الدنيا غير الجامعات الأزهرية هو موضوع المدارس الفكرية الإسلامية التي إنشاءها المتكلمون والمعتزلة وأئمة التصوف والحكمة في المشرق والمغرب من الصدر الأول إلى أواخر الدولة الفاطمية، فإن هذا المحصول الهائل من التفكير الإنساني أمانة لابد لها من حفيظ بين الأمم والحضارة الإنسانية. فمن عساه أن يكون أولى بحفظ هذه الأمانة من معاهد الأزهر وعلمائه؟ ومن أين لهذه المذاهب وهذه الدراسات من يفهما، ويصبر على تمحيصها واستخلاص زبدتها في غير مصر والبلاد العربية؟

إن المستشرقين لا يفهمونها ولا يؤتمنون عليها، ولا اعرف فيما اطلعت من كتبهم كتابا يدل على حسن فهم وحسن إنصاف مجتمعين، فإن وجد من يفهم على الندرة، فهم متهمون في الإنصاف، وإن وجد من ينصف فليس هو من الصابرين على التعمق والتفرغ للتحصيل. وليس من المروءة أن نكل إلى غيرنا على ما نحن أحق به من واجباتنا وأعمالنا، وليس في غير المعاهد الأزهرية مكان لاستيفاء هذه الواجبات والأعمال.

ومن الإجحاف أن نستخف بمحصول هذه المدارس الفكرية لأنها في الواقع تشمل على الكثير من النفيس القيم، كما تشتمل على الكثير من البخس الزهيد. ولا أخال أن المسالة من مسائل الفلسفة التي تصدى لها حكماء أوربا في قديم العصور وحديثها لم تدخل في نطاق هذه الدراسات على وجه من الوجوه، وقد وصل بعض المفكرين الإسلاميين في مسائل منها إلى مقطع القول الذي وقف عنده بعدهم خلفائهم في مباحث المنطق والحكمة الإلهية من الأوربيين وغير الأوربيين، ولعل البخس الزهيد الذي أشرنا أليه يفيد في دلالته التاريخية أو دلالته النفسية ما يكافئ العناء في تحصيله ويعوض الباحثين عن غثاثته وقلة غنائه، فلا يضيع فيه الوقت بغير جزاء.

هذه المادة الزاخرة وما يقترن بها من مواد المقارنة بين الأديان السماوية والأرضية أعظم من أن تضاف كما تضاف العلاوة على حمل التخصص في الدراسات الأخرى. لأن أبواب البحث في الدين الإسلامي وحدة تستغرق السنواتبعد السنوات إذا لوحظ فيها أن تحيط بجوانب الفقه والتشريع والتاريخ والتطبيق على المذاهب الاجتماعية التي تتمخض عنها أطوار الأمم جيل بعد جيل، ومن القصور أن يفوت العالم المسلم تحصيل المعلومات من تلك المذاهب الاجتماعية، وهي تتطلب منه رأيا وردا وإقناعا لمن يحسبونها مغنية عن إصلاح الدين أو مناقضة لقواعد الدين في الإصلاح. فهل يتأتى للعالم المسلم في أربع سنوات أو ست سنوات أن يتوسع هذا التوسعفي علم دينه، ثم يتوسع في الوقت نفسه توسعا مثله في علوم الدينات ومذاهب للمسلمين وغير المسلمين؟

والذي يصدق على كلية الدين يصدق على كلية اللغة العربية لأن تعلم النحو والصرف والبلاغة لا يجدي بغير تعلم الأدب وفروعه؛ وتعلم الأدب وفروعه في لغة واحدة لا يتمم ثقافة الأديب المتخصص لهذه الثقافة مع هذا الأتساع في أفاق الكتابة وهذا التنوع في قواعد النقد ومناهج التعبير، وهذا التعدد في شواهد كل قاعدة من قديم اللغات وحديثها. فلابد مع اللغة من أدب، ولابد مع الأدب العربي من آداب أمم أجنبية، ولابد مع هذا جميعه من مشاركة في بحوث اللغة الإنسانية نفسها، وهي التي تسمى عندهم (بالفيلولوجية). لأنها دراسة لابد لها من مكان تدرس فيه، ولا مكان لدرسها غير الجامعات الكبرى ولا سيما الجامعات التي تزود الطالب بكل ما يحتاج إليه في ثقافته الأدبية واللغوية، وليست ست سنوات أو ثماني سنوات بالوقت الكثير على هذه المطالب اللازمة التي تنفق فيها الأعمار الطوال.

وأيا كان الرأي في عدد الكليات أو عدد السنوات؛ فالمهم في الأمر أن ننتهي بالتقسيم إلى نظام واحد في التعليم، فلا يبقى للثنائية أثر بين كليات الجامعة الأزهرية وغيرها من الجامعات، ولا يحسب الفرق بينها جميعاً إلا كما يحسب الفرق ألان بين كلية الطب والزراعة أو كلية الآداب.

ويومئذ يجد العالم الأزهري مكانه من وظائف الحكومة كما يجد الطبيب والمهندس والضابط أمكنتهم في كل ديوان يحتاج إليهم، ومن لم تتسع لهم الدواوين فشأنهم في ذلك شأن المتعلمين العاملين في الحياة الخارجية، لأنها تتسع لهم وتزداد سعة كلما شاعت المعرفة وتشعبت منادح التثقيف والاطلاع. ويحق للعالم الذي تفتقر مباحثه إلى التشجيع الحكومي، ولا تقوم على إقبال الشعب وحده أن يعتمد على المرتبات والمكافئات التي رصدت في الأوقاف للعلماء الأزهريين من قبل النظام الحديث.

ويبدو لنا أن الجامعة الأزهرية لم تلقى في طريقها عقبة تزعج أبناءها إذا زالت الثنائية من التعليم، وقام التعليم فيها على إخراج أناس تحتاج الأمة إليهم، ولا يكون قصارهم من السعي أن يحتاجوا إلى الأمة في تدبير سبل المعاش.

عباس محمود العقاد