مجلة الرسالة/العدد 668/الأدب في سير أعلامه:

مجلة الرسالة/العدد 668/الأدب في سير أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 04 - 1946



ملتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .)

للأستاذ محمود الخفيف

أشعاره في هورتون:

وكانت قصيدة ملتن الثالثة في هورتون هي الغنائية المسرحية أركادس، وهي في الواقع نبذة من غنائية مسرحية فهي لا تعدو مائتي سطر، ويمكن أن نعدها قصيدة مدح لولا هذه الصورة المسرحية التي وضعها فيها الشاعر.

نظم ملتن هذه الغنائية الصغيرة سنة 1633 تكريما لسيدة عظيمة علت بها السن هي كونتس سلسبري؛ وقد مثلها بين يديها أحفادها وهم أبناء إيرل بردجووتر وابنته؛ ووضع ألحانها رجل من أشهر ملحني العصر جميعا هو لو وكان صديقا حميما لملتن، ما ذهب ملتن إلى لندن مرة إلا قضى عنده ساعات يستمتع بموسيقاه، وكان ملتن يقدره حق قدره ويعجب بألحانه إعجابه هو بشعر صديقه الشاعر. وتبدأ المسرحية بأغنية صغيرة مدح للكونتس يتقدم بها منشدين بين يديها أحفادها بين بنين وبنات في ملابس ريفية، ويبلغ ملتن في هذه الأغنية أعلى درجات الإجادة والإمتاع؛ فثمة ألفاظ حلوة ولحن بديع ومعان جليلة تكافئ مقام السيدة التي يمتدحها. وبينما يتقدم المنشدون والمنشدات بين يدي السيدة يظهر جني الغابة فيتجه نحوهم ويوجه إليهم الحديث ممتدحا السيدة في شعر من النسق العالي بالغ الروعة والسحر؛ ويختتم الجني حديثه بأغنيتين إحداهما موجهة إليهم، والأخرى موجهة للقرويين والرعاة جميعا، وفيها يثني الجني على السيدة ويتغنى بمجدها وأنعمها.

وفي سنة 1634 نظم ملتن قصيدته الرابعة في هورتون فقد طلب لو إلى صديقه الشاعر نظم غنائية مسرحية أخرى لتكريم إيرل بردجووتر بمناسبة ولايته المنصب الرفيع الذي كان قد رقي إليه منذ ثلاث سنوات وهو منصب الرئيس اللورد لمجلس مقاطعة ويلز وذهابه ليقيم في قلعة لادلو. ولقد أقيمت الحفلات للورد في جهات كثيرة وبالغ عشيرت وأصدقاؤه في تكريمه، ومن هؤلاء لو الملحن النابغة، وكان لو أستاذ الموسيقى لابني اللورد وابنته، ولم يقتصر على تلحين الأغاني في هذه الغنائية المسرحية، بل أشترك كذلك في تمثيلها. . .

وكانت أليس ابنة اللورد وهي فتاة ناهد في نحو الخامسة عشرة من عمرها، وأخواها وهما دونها في العمر أهم الشخصيات في تمثيل هذه الغنائية.

تخيل الشاعر سيدة تاهت في مسالك الغابة وأحراشها وهي في طريقها وأخويها إلى قلعة أبيها، وظلت تبحث عبثا عن أخويها وظلا يبحثان عنها في غير جدوى، وتمثل لها كومسي الجني الشهواني الساحر في زي أحد القرويين، وتظاهر أنه يهديها السبيل، ثم إذا هو غوى مبين أخذ يحتال عليها ويراودها عن نفسها فاستعصمت، ولكنه دأب في غوايته حتى حضر أخواها فتغلبا على كومسي وقبيله إلا أنهما ألفيا أختهما لا تستطيع التحرك بما صنع بها سحر كومسي فأخذتهما الحيرة، ولم يخرجهما من ورطتها إلا سابرينا إحدى العذارى الخرافية التي أبطلت سحر كومسي وهي من خلق ملتن؛ وتنطلق الفتاة وأخواها بعد ذلك إلى القلعة، وكان يحمي الفتاة ويعصمها من الزلل من البداية حتى النهاية من عالم الأرواح روح ساهر عليها يتنكر في زي أحد الرعاة، وكان لهذا الروح فضل عظيم في القضاء على كومسي، وبعد انتصاره انطلق إلى عالمه الذي هبط منه.

هذا هو موضوع الغنائية، ولقد تأثر ملتن في بناء هذا الموضوع على هذه الصورة بما قر في خاطره من قراءاته المتنوعة الواسعة، فالشبه عظيم بين غنائيته في بنائها وبين (قصة الزوجات العجائز) لبيل، وملخص هذه القصة أن سيدة حملت من تسالي إلى برتين بسحر ساحر لعين يسمى ساكربنت تعلم من أمه ميرو وهي ساحرة شهيرة كيف يغير صور الناس، وتبقى السيدة في برتين مسحورة عن نفسها تنسى ذاتها كما تنسى أصدقاؤها، ويبحث عنها اخوتها فيرد عليهم صدى يتبعونه حتى يقعوا في يد ساكر بنت فيسحرهم ويسخرهم في أداء أعمال حقيرة. وينجي السيدة حبيبها بعد ذلك وقد اطلع على سر ساكر بنت على يد عفريت رجل فقير كان قد صاحبه. ويموت الساحر ولكن تبقى السيدة مسحورة ولن يفك السحر عنها حتى يحطم وعاء زجاجي له بيد أنثى لا هي عذراء ولا زوجة ولا أرملة، وينطفئ بتحطيمه ضوء كان يلقيه، وبعد لأي توجد الأنثى المطلوبة فيحطم الوعاء وينطفئ الضوء، وتنطلق السيدة المسحورة وغيرها من فرائس الساحر. . .

وثمة شبه كذلك بين غنائية ملتن ومسرحية جون فلتشر (الراعية الوفية) وهي مسرحية ريفية كتبها صاحبها سنة 1610 وأعاد نشرها سنة 1634 وهي السنة التي كتب فيها ملتن غنائيته. ومن هذه المسرحية أخذ ملتن فكرة انتصار العفة في النهاية كما أخذ فكرة الروح الحارس الذي يحمي العذراء. ففي المسرحية سيدة كانت عفتها في خطر لولا هذا الروح الحامي. وفي مسرحية فلتشر يبزر إله النهر فينجي العذراء كما تنجى سابرينا عذراء غنائية ملتن. ويستعمل في كومسي نبات لشفاء الجروح كما يستعمل نبات غيره في الراعية الوفية، وفوق ذلك تنطوي غنائية ملتن على فقرات لها أشباه في المعنى والفكرة في مسرحية فلتشر.

أما شخصية كومسي الذي سميت باسمه الغنائية، فهي من ابتكار ملتن فقد جعل لكومسي أبوين من المثولوجيا، فأما أبوه فهو باخوس إله الخمر، وأما أمه فهي سيرس الساحرة التي كانت تحيل من يشرب سائلا لها إلى حيوان، وعلى ذلك فقد جمع كومسي بين المرح والعربدة ورثهما عن أبيه، وبين السحر ورثه عن أمه، وامتاز كومسي عن أمه بأنه لا يحيل أشكال الناس إلى حيوانات فحسب، ولكنه يغير عقولهم حسبما يشاء فيوحي إليهم ما في نفسه من شهوة وفسوق.

وتعج غنائية ملتن بتلميحات مأخوذة كلها من ميثولوجيا الإغريق والرومان، كما أن فيها ألفاظا وعبارات وصفات تشبه نظائرها في شعر من سبقه من شعراء قومه، وعلى الأخص سبنسر وشكسبير.

أما فلسفة ملتن في الغنائية، فمشتقة من فلسفة أفلاطون وآرائه في الفضيلة. وقد تعمق ملتن دراسة هذه الفلسفة وأحبها حبا شديدا، إذ صادفت هوى في نفسه، وقد كانت نفسه حريصة على العفة كوسيلة إلى السمو الروحي والبياني.

ولكن على الرغم من هذا كله نجد الغنائية في جملتها وعليها طابع ملتن، فهي ملتنية الروح واللفظ والأسلوب والموسيقى والفلسفة، وفيها سمات عبقريته وشواهد قوته، بحيث لا يمكن ردها إلا إليه كما ترد آثار فحول الشعراء إليهم بمجرد سماعها، ولو لم يذكر أول الأمر أنها لهم، ففي إماراتها وخصائصها وروحها ما يشير إليهم إشارة تغني عن ذكر الاسم، وتلك ميزة هي مقياس فحولته، إذ لولاها لكان كغيره من سائر الناس، ومن هؤلاء الفحول الأفذاذ (ملتن) صاحب هذه الغنائية يومئذ وصاحب الآية الكبرى يوم يملي الفردوس المفقود. . .

مثلت أليس ابنة اللورد السيدة التي ضلت في الغابة، ومثل أخواها دور الأخوين، أما الملحن (لو) فقد أخذ دور الروح الحارس، ومثل أحد الشبان دور كومسي، كما مثلت إحدى الفتيات دور سابرينا، وهؤلاء هم أشخاص الغنائية جميعا، فهي كما ترى نوع من المسرحيات القليلة الحوادث والأشخاص تعني بالموسيقى والشعر وتقوم فيها الأرواح والأشباح إلى جانب الناس.

تبدأ الغنائية بمنظر يمثل غابة وحشية، ثم يظهر على المسرح أو يهبط عليه الروح الحارس، فيتكلم في شعر رقيق بليغ عن موطنه ورهطه في عالم السماوات، ويشير إلى دنيا الناس وما فيها من آثام بقوله: (هذه البقعة المظلمة التي يسميها الناس الأرض) وينعى على الناس حياتهم المضطربة وغفلتهم عما تهيئه لهم الفضيلة بعد ارتحالهم من عالم الفناء، ولكنه يغتبط بأن بين الناس قلة يطمحون إلى وضع أيديهم على ذلك المفتاح الذهبي الذي يفتح لهم قصر الخلود؛ ولهذه القلة مهبطه ومن أجلها رسالته، ثم يشير إلى اللورد بأنه من أنصاف الآلهة الذين يحكمون في الجزر مستمدين سلطانهم من نبتيون إله الماء، ويمتدح خصاله ويتحدث عن أبنيه وبنته وعن مسيرهم في الغابة، وأنه أرسل من قبل جوف كبير الآلهة ليحميهم في ظلمات الغابة، ومم يحميهم؟ هكذا يتساءل ليسترعي الأسماع، ثم يقول: إنه سوف يقص ما لم يرد مثله في شعر ولا في قصص، في كوخ كان ذلك أو في قصر. ثم يذكر في إثر ذلك كومسي ومولده وما ورثه عن أبيه وعن أمه، وما هو في مقدوره من السحر، فيصور للأذهان صورة عجيبة حقا، ويشوقها إلى ما عسى أن يقع على يد كومسي، ولكن جوف يكف شره عمن يرعاهم من الناس، ولذلك أرسل هذا الروح في مثل لمحة النجم ليحمي هؤلاء المدلجين، فليتنكر في زي شخص يعرفونه، وليكن هذا الشخص هو أستاذ الموسيقى، وهنا يثني الروح أعظم الثناء على فنه ووفائه؛ ثم يرهف سمعه ويقول: إنه يسمع خطوات بغيضة تقترب، فعليه أن يختفي؛ وبهذه الوسيلة يعبر ملتن عما يريد أن يقول عن اللورد وعن صديقه الموسيقي على لسان ذلك الروح في فيض من الشعر المرسل الرصين الرائع الذي يملك الأنفس عذوبة جرس وحلاوة معنى، والخيال الساحر البارع الذي يذهل السامعين عن أنفسهم وعن عالمهم برهة.

ويظهر كومسي في المنظر الثاني وفي إحدى يديه عصاه السحرية وفي الأخرى زجاجته، وفي إثره يمشي قبيلة تمثل رؤوسهم أنماطا من الوحوش، ولكن أجسامهم آدمية، ومنهم الذكور ومنهم الإناث، ويلبسون جميعا ملابس براقة، ويقبلون في زياط وجلبة يتواثبون ويتراقصون وفي أيديهم المشاعل، وتسكن ضوضاؤهم بعد برهة، ويتكلم كومسي وقد سكتوا، فيصف مولد الليل، ويجري الشاعر على لسانه وصفا رائعا لمغرب الشمس في شعر مقفى جميل اللحن، فالنجم الذي يوحي إلى الرعاة موعد العودة بقطعانهم يتخذ سمته في السماء، ومحفة النهار الذهبية تبرد في ماء الأطلنطي، والشمس على الأفق الغربي تطلق آخر شعاع لها صوب القبة قد تغشاها الطفل، ثم تهبط متخذة طريقها إلى غرفتها الشرقية في الجهة الأخرى. . .

ويدعو كومسي قبيلة بعد هذا الوصف إلى اللعب واللهو تحت أستار الظلام، ويصف ما عسى أن يجري في الليل من صور المرح، ويشير إلى الناس وكيف يغطون في نومهم ومعهم مواعظهم ونظراتهم وحكمهم فهم من الطين؛ ولكن كومسي وقبيلة من النار فهم لذلك أكثر خفة وانطلاقا، والليل كفيل أن يغطي لهوهم ولعبهم، وما دام الصبح الذي يكشف نوره العيوب لا يزال بعيدا، فهلم إلى اللهو والزياط والمجون؛ ويدعو كومسي أتباعه أن يمسك كل منهم بيد صاحبه ثم ليضربوا الأرض بأقدامهم راقصين. . . ويأخذ هؤلاء في رقصهم لاهين عابثين، ولكن كومسي لا يلبث أن يدعوهم إلى السكون ثم الاختفاء فانه يسمع أقداما قريبة وينبئه سحره أنها عذراء ضلت في متاهات الغابة، ويتحدث فرحا عما يعده لها من السحر ويصف كيف يحتال عليها وكيف يتنكر لها في زي فلاح تأخر به سعيه من أجل عيشه عن العودة إلى كنه حتى هذه الساعة، ثم يعلن إلى قبيلة أنه سوف يسمع ماذا تقول العذراء.

وتتقدم السيدة فتظهر على المسرح، وتحدث نفسها قائلة إنها سمعت لتوها جلبة وأصوات مرح وغناء ومزمارا كمزامير الرعاة والفلاحين، وتقول إنها توجس خيفة من عبث هؤلاء وتوقحهم، ولكن ماذا عساها تصنع، وإلى أي طريق في متاهات الغابة تلوي وجهها عما تحذر؛ وتذكر أخويها قائلة بأنهما تركاها لتستريح وقد بلغ بها الجهد وذهبا ليحضرا لها شيئا يمسك صلبها من ثمار الغابة وما تظن أنهما قد ضلا، وقد سرقهما الظلام منها. ثم تلتفت حولها وتقول إنها تظن أن هذا هو المكان الذي كان ينبعث منه الغناء والمرح، ولكنها لا تجد إلا الظلام وحده، وتهجس في نفسها المخاوف فكأنها تسمع أصوات رجال ينادونها وترى أشباحا تهتف بها وتتخيل ألسنة هوائية تنطلق بأسماء رجال، وهذه أشياء كفيلة بأن تلقى الخوف في النفوس ولكنها لا تزعزع عقلا يستمسك بالفضيلة ويمشي أينما اتجه في حمى حارس قوي هو الضمير، وتلوذ السيدة بالأيمان ذي العين البريئة وبالأمل ذي اليد البيضاء، وبالعفة الملك ذي الجناحين الذهبيين الذي لا يقهر، وتعوذ بهؤلاء أن يدرءوا الأذى عن حياتها وعن شرفها.

ثم تغني العذراء أنشودة جميلة توجهها إلى اكو تسألها عن أخويها قائلة (إيه يا اكو الحلوة يا أجمل عذراء، أنت يا من تعيشين خافية في قوقعتك الهوائية. يا من يطيب لك أغنية البلبل الحزينة يرفعها إليك متواجدا في لياليه على ضفة ميندر الخضراء وفي واديه الموشي بالبنفسج؛ أيتها العذراء ألا تدليني على اثنين جميلين أشبه ما يكونان بفتاك نرجس؟ أو إذا كنت أخفيتهما في كهف من كهوف الزهر فدليني عليهما يا ملكة الرجع ويا ابنة قبة السماء، ولئن فعلت لأدعون لك أن تبلغي السماوات فتكوني هناك الصدى الجميل الرشيق لكل ألحان الجنة).

(يتبع)

الحفيف