مجلة الرسالة/العدد 668/نظرات فلسفية:

مجلة الرسالة/العدد 668/نظرات فلسفية:

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 04 - 1946



(الذات). . .!

للأستاذ زكريا إبراهيم

أجل (الذات)! صاحبة الجلالة (الذات)! حولها تدور كل موضوعات الفلسفة، ونحوها يتجه كل بحث إنساني. هي المركز في دائرة الوجود، وهي المحور في كرة الإنسان! غفل عنها الفلاسفة حينا، ثم اهتدوا إليها، فاهتدوا إلى نفوسهم، ومنذ ذلك الحين أصبحت هي نقطة البدء ونقطة الانتهاء.

أي موضوع لم يتطرق إليه شك المفكرين، وأية حقيقة لم ترق إليها شبهات الفلاسفة؟ لقد امتدوا بشكهم إلى كل موضوع، ونشروا شبهاتهم حول كل حقيقة؛ أما (الذات) فقد بقيت دون متناول الشك، وفوق كل شبهة! أستغفر الله، بل (ذاتي) هي وحدها التي لا سبيل لي إلى أن أشك فيها، لأن بيني وبينك هوة لا يمكن عبورها! فكل منا عالم مغلق على ذاته، وذاتك نفسها هي بالنسبة إلى (موضوع) كسائر الموضوعات الخارجية! أما الوجود فلا علم لي به إلا عن طريق شعوري الخاص؛ وهذا الشعور هو الحقيقة الوحيدة المباشرة التي يمكن أن تدركها (الذات). فالذات هي كل شيء بالنسبة إلى صاحبها، وكل حقيقة لا بد أن تكون موسومة بطابعها.

إننا لا نتلقى الحقائق التي نؤمن بها من الخارج، بل نصنعها في الأعماق الباطنة من نفوسنا. وكل حقيقة لا تنبثق من ثنايا النفس، لا بد أن تكون زائفة مموهة. فالحقيقة من شأنها دائما أن تكون (ذاتية)؛ وحتى إذا لم تنبع الحقيقة من أبعد أغوار النفس، فإنها لا بد أن تمر على (الرقيب) الذي يطبعها بالطابع الذاتي الخاص! ولعل هذا هو المعنى الذي قصد إليه جيته حين قال: (إن ما ورثته عن آبائك وأجدادك، لا بد لك أن تحصله بنفسك حتى يصبح ملكا لك). فالإنسان لا يفهم تماما إلا ما فكر فيه بنفسه، وهو لا يؤمن إيمانا قويا إلا بما هداه إليه عقله. أما ما قاله الآخرون، أو ما روي عن السابقين، فهذا ما لا يمكن أن يفهمه المرء جيدا، إلا إذا دلته عليه نفسه، وأثبته له عقله. فكل حقيقة مهما كان من انتشارها وسيادتها، لا بد أن تهبط إلى الأغوار السحيقة التي تصنع فيها الحقائق، حتى تتلقى من (الذات) اعترافا بصحتها، وإقرارا بصدقها. ولهذا فإن كل إيمان لا بد أن يكو (فرديا) حتى يكون إيمانا حقيقيا. . .

ولكن، هل جاءت قيمة (الذات) من أنها صانعة (الحقيقة) فحسب؟ كلا، بل هي أيضا خالقة (الشخصية). ففي أبعد أغوار الذات، تكمن قوى الفرد التي تحدد شخصيته وتعين سلوكه في الحياة. وهذه القوى الكامنة التي لا تظهر بوضوح في (الطبقة السطحية) من الذات، بل تنتشر في المسارب الخفية منها، مكونة وجودها الفردي الخاص بمعناه الحقيقي.

وكثيراً ما تكون هذه القوى الكامنة التي تكون جوهر الذات مجهولة لدينا، فتجيء أفعالنا مفاجئة للآخرين. وقد نزعم أن إمكانياتنا قد استوعبت واستهلكت، فإذا بنا نجد أن من الممكن أن ينبثق من أعماق نفوسنا شيء جديد. ولهذا فإن من الخطأ البالغ أن نحكم على نفوسنا بأنها ليست أهلا لهذا العمل أو ذاك، لأن التجربة كثيرا ما تظهرنا على أن في استطاعتنا أن نعمل ما كنا نعتقد أن ليس لنا عليه يدان!

وليست الحياة الفردية سوى تحقيق مستمر لكل القيم المتضمنة على شكل قوى أو إمكانيات في ثنايا الذات. وتحويل القوة إلى فعل هو جوهر الحياة الإنسانية ومعناها الأوحد. وهذا التوتر الذي يوجد بين ما حقق، وما لا بد أن يحقق، هو القوة المحركة الأولى في الحياة الإنسانية. فإذا حقق إنسان كل ما لديه من قوى مدخرة، وإمكانيات كامنة في أعماق نفسه بحيث لم تعد لديه قوة جديدة يمكن أن يحققها، فلا بد أن تصل حياته إلى نهايتها؛ لأن ذاته أقفرت، وإقفار الذات معناه الموت.

ولكن ما دام المرء حيا، فلن يكون في وسع أحد أن يقول عنه، ولن يكون في وسعه هو أن يقول عن نفسه، إن شيئا جديدا لا يمكن أن ينتظر منه! فطالما كانت الذات حية خصبة، كان لا بد لها أن تزهر! وقد تعرض للذات أحداث بسيطة، فتكون مدعاة لظهور أمور جديدة، أو إيقاظ أفكار كامنة، أو تولد معان لم تكن منتظرة!

أجل! إنها الذات؛ والذات عالم يعج بالأفكار والمعاني؛ ومن أعماق هذا العالم الصاخب تنبثق الأفكار العظيمة، والمعاني الجليلة؛ فهل من حرج على الفلاسفة إذا لخصوا رسالتهم في عبارة موجزة، فقالوا على لسان شيخهم سقراط: (أيها الإنسان: اعرف نفسك)!؟

إن (الذات) هي الحقيقة الأولى والأخيرة، فليس بدعا أن تؤكد الذات نفسها بكل قوة على لسان شوبنهور قائلة: (إن العالم من تصوري) وهل يقوم للعالم الخارجي وجود بدون الذات المفكرة، التي تخلع عليه معنى من عندها؟ إنها الذات وكفى!

(مصر الجديدة)

زكريا إبراهيم

مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية