مجلة الرسالة/العدد 669/أيام العروبة تبدأ في سورية!

مجلة الرسالة/العدد 669/أيام العروبة تبدأ في سورية!

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 04 - 1946



للدكتور عبد الوهاب بك عزام

سورية الكريمة العزيزة، سورية الجميلة الجليلة، سورية العربية الأبية، سورية الشجاعة الجريئة المجاهدة الصابرة تغسل اليوم عنها العار، وتستقبل الكرامة، وتبسم للحرية بعد أن طال عبوسها للعبودية، وتطوي صحيفة لعدوها سوداء لتنشر صحيفة لنفسها بيضاء، وتختم جهاد المعتدين لتبدأ جهاداً في الحياة السعيدة المجيدة، وتستأنف سيرتها العظيمة لتصل حاضرها الكريم، وماضيها الخالد بمستقبلها الو ضاء.

دمشق العتيقة الحديثة، دمشق الماضية الحاضرة التي ثبتت للخطوب ثبات قاسيون، وابتسمت للمحن ابتسام مروجها وجنانها

دمشق مجتمع الأحداث قد زخرت ... فيها كما اندفقت في البحر أنهار

دمشق قد استدار لها الزمان، ورد عليها الدهر مجدها المنشود، فهي اليوم ظافرة فرحة تأسو جراحها، وتعد للمستقبل عدتها. قد انجلت عنها الغمرات كما ينجلي النقع عن البطل المرزأ يعصب جراحه ولواء النصر في يده.

مرزأ بتلقي الخطب منصلت ... تنشق عنه من الأهوال أجفان

ليت شعري كيف الغوطة والربوة ودمّر والهامة اليوم؟

أترى أشجارها تتمايل طرباً، وأوراقها تصفق فرحاً! وكيف قاسيون ذو القمة الجرداء والسفح الأخضر.

نسر يرى اللّوح منه هامةّ عطّلاً ... لكنه ذنب الطاووس جرار

كيف قاسيون اليوم؟ أتراه شمخ برأسه عزة، بعد أن رمى عنه آثار المذلة. وحلق على الرياض فرحاً في هذا النهار، بعد أن وقع كئيباً في ذلك الليل؟

وكيف بردى ذو الفروع السبعة؟ أهو اليوم جذلان مطرد يصفق مائه بنسيم الحرية، وتمحو جريته الظلال البغيضة التي تراءت على صفحته سني الاستعباد؟

وليتني أرى الآن جامع بني أمية هل نطقت جوانبه تسبيحاً وتهليلا، وهل تهم قبة النسر بالتحليق كما يحلق الطائر الوحشي قطع الشرك أو أنفتح عنه المحبس!؟

وكيف أبطال تاريخنا في المدينة وحولها! كيف معاوية والوليد؟ وكيف نور الدين وصلاح الدين؟ وكيف الظاهر والعادل؟ وكيف أبطال الجلاد في عصرنا الذين نازلوا الباطل المدجج عزلا فزلزلوه حتى هدموه؟

وليت شعري هل انبعث الأذان من قبر بلال في مقبرة الباب الصغير أذانا بالفجر من هذا العهد المبارك؟

وحلب الشهباء، مدينة سيف الدولة والمتنبي، حلب التي أمدت الثغور بأبنائها قروناً، ودفعت الروم عن الشام عصوراً، كيف جذلها اليوم، وأين متنبيها ينشد قصائد المجد ليرويها الدهر؟

وكيف قلعة حلب اليوم وقد لفظت المذلة، واعتزت بما فيها من آثار المجاهدين الأولين. لقد دخلتها أول مرة قبل خمسة عشر عاماً ورأيت جنود السنغال فيها يخطرون، وينهون ويأمرون فأنشدت وفي النفس ما فيها من حسرات:

سادت كل أناس من نفوسهمّ ... وسادت المسلمين الأعبد القزّم

فقد رفع اليوم عليها لواء الحرية، ورحض عنها عار العبودية، فحالت بناء جديداً، ومرأى حميداً، وكأن كل شيء فيها قد استحال! ليت شعري هل نطقت فيها الآثار الصامتة، وضحك على بابها الأسد الباكي.

وليتني اليوم في حمص أقف في روضتها كما وقفت من قبل، أستمد من ضريح خالد بن الوليد كل معنى جليل! ليتني اليوم على قبر خالد أبشره أن الزمان قد استدار، واستقلت الشام بأبنائها الأحرار، فليصفق نهر العاصي طرباً، وليزهر الديماس فرحاً فقد أقبل الربيع بربيع الحرية الناظر، وعهدها الزاهر.

يا دار هذا أوان السعد فاغتبطي ... لا عادك النحس بعد السعد يا دار

وحماة المجاهدة، هل تبدّل أنين نعيرها غناء، واستحالت دموعها في البساتين ماء؟ ما أجمل غناء النواعير في حماة اليوم! قد مضى عهد البكاء، فليدم اللهم هذا الغناء.

وكيف أبو الفداء في قبره اليوم؟ يا أبى الفداء لقد طال الهجود، فقم وأضف إلى تاريخك هذا الفصل الجديد.

يا سوريتنا الجميلة الحبيبة! حيا الله فيك كل مدينة وقرية، ونظر كل دارة وبقعة، وحباك السعد مطّرداً مع الزمان، دائراً مع السنين.

ورحم الله كل مجاهد أمدك بحياته، وسقى ترابك بدمه، وثوى في الأرض كلمة باقية في سطور تاريخك الخالد.

ونظر الله وجوه المجاهدين الأحياء، الذين صبروا وصابروا، وبسموا للخطوب السود في الظلام المكفهر حتى تبلج الصباح.

(فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا)

وحيا الله هذا الرئيس الأمين، الطاهر القلب، المبارك الناصية (شكري) شكر الله مساعيه، وحيّا أصحابه الكرام، وحيّا كل من شارك في تحرير سورية بيده أو لسانه.

وبعد فيا سوريتنا العزيزة، قد رفع الزمان الأعباء عن كواهل الأعداء فوضعها على كواهل الأبناء، فليحملوا أعباء الواجب وليؤدوا تكاليف المجد، وليبنوا مستقبلهم بأيديهم لأبنائهم، وليعلموا أن حاضر العرب يؤمّل فيهم، وماضي العرب ينظر إليهم، ومستقبل العرب ينتظرهم، فليجمعوا القلوب والأيدي، وليحسنوا البناء.

إلا أنه قد فتحت لهم صحائف في التاريخ جديدة، فليجيدوا الكتابة في هذه الصحائف التي تخلّد كل شيْ.

إنهم يبنون أجيالا، ويكتبون تاريخاً، فلينظروا كيف بناء الأجيال وكتابة التاريخ.

يا سورية الجميلة! إن أبنائك اليوم قد رجعوا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.

عبد الوهاب عزام