مجلة الرسالة/العدد 669/القصص
مجلة الرسالة/العدد 669/القصص
الغلاف ذو الأختام الحمر
للكاتب الفرنسي موريس ليبلاق
بقلم الدكتور محمد غلاب
في مساء اليوم الخامس والعشرين بعد وفاة (جاكيلين) أنس زوجها (جيوم) من نفسه الشجاعة على دخول غرفة تلك التي أحبها حبا شديد العمق خصب السعادة.
وكان يريد أن يتنسم على الأخص عطر الماضي بقراءة تلك الرسائل التي كتبها هو إليها في الأوقات التي كانت الحياة فيها ترغمهما على مفارقات قاسية. وكانت (جاكيلين) تحفظ كل رسائلها في علبة من الأبنوس المطعم بالصدف لا يفارقها مفتاحها أبدا. فلما فتح هذه العلبة ألفى بها عدة حزم من الرسائل مربوطة بأشرطة مختلفة الألوان، ووجد على كل جزمه علامة تميزها من غيرها وتعين عصرها، فعلى إحداها مثلا كتبت (جيوم في الجزائر) وعلى الثانية (جيوم في الجيش) وهكذا، وكانت تحت هذه الحزم كراسة معروفة تماما لجيوم، وهي نوع من اليوميات التي كانت (جاكيلين) تقيد فيها إحساسهما المشترك، ومسراتهما وأحزانهما.
غير أن جيوم حين أخرج هذه الكراسة زحزح قطعة من القطيفة كانت تغطي قاع العلبة، فلما رفع هذه القطعة دهش كل الدهش إذ ألفى تحتها غلافا أصفر مختوما بخمسة أختام حمر وكأنه يحتوي على كمية من الأوراق.
فلما نظر إلى هذا الغلاف عرف خط زوجته وقرأ عليه هذه الجملة: (يسلم بعد موتي إلى صديقتي هانرييت ديسيز).
لم يتردد جيوم ثانية في فتحه، فمع أنه حميد الأخلاق إلى حد بعيد، وبرغم أنه طول حياة جاكيلين لم يفتح قط رسالة موجهة إليها فإنه بحركة فجائية وبدون تردد، وبدافع غريزة تغلبت فيه على كل شي قد فض الأختام ومزق الغلاف.
إنها رسائل، ورسائل رجل.
تناول إحداها بيد مرتعشة.
إنها تبتدئ بهذه الكلمة: (عزيزتي المعبودة. . .).
أدار الصفحة ونظر إلى الإمضاء فألفاه (رفائيل).
وفي الحال فهم كل شيء فقد كان (رفائيل دور ميفال) أثناء الشهور الأخيرة التي سبقت مرض (جاكيلين) يتردد على منزلهم، بل طالما دخل جيوم فألفى هذا الرجل جالسا بالقرب من زوجته، فالآن قد أدرك معنا صمتهما الذي كان يسببه لهما حضوره المضايق.
وفي هذه اللحظة كانت الساعة تدق الحادية عشر مساء، فنهض وغادر الحجرة وتناول قبعته ومعطفه وخرج إلى الطريق، فاستقل سيارة أجرة إلى نادي شارع كابوسين فصعد إليه فألفى هناك عدة مناضد مشغولة بلاعبي الورق، وفي نهاية إحدى القاعات الكبيرة كان عدد من الأشخاص يلعبون (البوكر) فوقع نظره بينهم على رفائيل دور ميفال، فاقترب جيوم من المنضدة ألقى عليها بضع قطع من الذهب ليشترك في اللعب. وبعد دقائق رأى الحاضرون بدهشة فائقة أنه بدون مبرر، أو بمبرر تافه قد أخذ يسب دور ميفال بأفضع الأساليب وفي النهاية تبادلا البطاقات واتفقا على تعيين شهود المبارزة.
وبعد ذلك عاد جيوم إلى منزله فتناول صورتي جاكيلين الفوتوغرافيتين التين كانتا تزينان موقد غرفته وألقى بهما في النار. ثم دخل حجرة الاستقبال فخلع صورتها الزيتية ومزقها وألقى بها في النار وكذلك قطعة إثر قطعة، وعلى أثر هذا نام نوما هادئا بعض الشيْ وحينما استيقظ في اليوم التالي ألفى نفسه ساكنا لأنه يخيل إليه أنه قتل تلك الميتة مرة ثانية مادام قد قتلها في نفسه نهائيا وإلى الأبد، وأن ذكريات الخيانة المرعبة لن تتسلط عليه أبدا، وأن كائنا واحدا يمكن أن يذكره بهذه الخيانة وهو رفائيل دور ميفال، وهذا الكائن سيموت ولن يبقى بعد ذلك شيْ من الماضي.
وفي الساعة العاشرة اجتمع الشهود، وفي الرابعة حدثت المبارزة، وعندما ألفى جيوم نفسه تجاه خصمه أحس كأن الغيظ منه والحقد عليه يقفزان به، وإذ ذاك فقط تألم وعرف بحق وبهيئة عميقة أن الحياة لن تكون ممكنة بالنسبة إليه مادام هذا الرجل يحيا.
هاجمه مرتين بعنف بالغ أشده حتى اضطر الشهود إلى التفريق بينهما، وفي المهاجمة الثالثة ألقى بنفسه عليه واخترق جسمه بضربة من سيفه فهوى وأسلم الروح لساعته.
وبعد أن فارق جيوم شاهديه أخذ يتنزه في الغابة ساعة، ولم تكن أية فكرة تهيجه إذ ذاك، غاية ما في الأمر أنه كان يحس بأن عقله كثيف مظلم مختلط لا تستطيع الفكرة أن تصدر عنه، بل لم يعد يعرف هل لا يزال يتألم؟ وهل شفى غليل حقده من خصمه؟ وفي ساعة العشاء ألفى نفسه من جديد في منزله، وعلى أثر ذلك أنبأه خادمه بأن سيدة تنتظره في حجرة الاستقبال منذ ساعة على الأقل، فاتجه إليها فألفاها (هانرييت ديسيز) تلك الصديقة المخلصة وكاتمة السر التي أوصت (جاكيلين) بتسليم رسائلها الغرامية إليها والتي لم يكن جيوم قد رآها منذ وفاة زوجته لأنها كانت قد سافرت في اليوم التالي، فتبادلا معاً بضع كلمات أعلنت إليه هانرييت فيها أنها تصل الساعة مباشرة من الجنوب، وأنها نالت الحكم بالطلاق ضد زوجها، وأنها معتزمة الزواج على أثر مضي العدة. فقال بغير اكتراث: - آه.
وفي الحال سألته في نبرة مرتبكة قائلة:
ألم تجد بين أوراق جاكيلين حزمة لي. . . غلافا مختوما؟
فنظر جيوم إلى تلك الشابة نظرة شزراء وكاد يوبخها على تآمرها مع زوجته الراحلة، ولكن ما الفائدة في ذلك؟
أجابها على سؤالها بقوله:
- نعم وجدت غلافاً باسمك
- وإذاً، فأين هو؟
- قد أحرقته.
فظهرت الكاَبة على وجهها وقالت:
- كيف! أحرقته! كيف! لكن لم يكن ذلك من حقك
- لم يكن ذلك من حقي!
- لا، فهذه الرسائل كانت ملكي، وجاكيلين كانت تحفظها، لتؤدي لي بذلك خدمة، ولكن كان من المفهوم أن أستعيدها في يوم أو في آخر. . . ولما رأت أن جيوم لا يظهر عليه أنه فاهم استمرت تقول في دهشة:
- آه! ألم تقل لك جاكيلين؟ مسكينة جاكيلين! أنا لم أطلب منها كتمان السر إلى هذا الحد ولا سيما ما يتعلق بك
فقال في رعدة وفزع: - ماذا؟ ماذا؟ نعم لما كنت منتظرة الطلاق فقد كنت أخشى أن تكتشف هذه الرسائل عندي، وكنت أحتفظ بها إلى حد يمنعني من إبادتها! وقد كانت جاكيلين وحدها هي التي تستطيع أن تحفظها لي ما دامت تعرف سر حياتي.
- أي سر؟. تمتم جيوم بهذا السؤال فأجابته قائلة:
- آه! أنت لا تعرف، فأنا أحب أحد الناس. . . هو أحد أصدقاؤك، وكان يتردد كثيرا على منزلك. . .
فتمالك جيوم قواه وسألها قائلا:
- أهو رفائيل دور ميفال؟.
فأجابته الشابة وفي قلبها ذلك الاسترواح الذي يشعر به المحب حينما يذكر اسم محبوبه قائلة:
- نعم، نعم هو رفائيل. يجب أن نتزوج، وسأراه بعد قليل.
نطقت بهذه الكلمات وهي واقفة تستعد للخروج، وكان وجهها جميلا سعيدا يتلألأ بكل ما لديها من سرور وكانت عيناها تبتسمان، وكانتا مبللتين قليلاً كأن الهناء قد ألانهما.
- ففأفأ وتمتم قائلا: - أنت ذاهبة. . . أنت ذاهبة. . .
- نعم أنا ذاهبة إلى منزله. . . إنه لا يتوقع مجيئي إلا غدا.
- أية مفاجأة! لهذا كنت أسر لو حصلت على رسائله لأننا كنا نعتزم أن نقرأها معاً على أثر نيلنا حريتنا.
- اسمعي. . . اسمعي. . .
كان جيوم إذ ذاك يشعر أنه صار مجنونا، إذ فهم أن شيئا هائلاً وفظيعا قد وقع، شيئا سيترك له ذكرى أكثر إرعابا وتعذيبا من موت زوجته نفسها، وكان يود أن يهيْ هذه السيدة لوقع ذلك النبأ المؤلم، ولكنه لم يكن يعرف ماذا يقول فقد رفضت شفتاه النطق بتلك الكلمات المروعة، وجعل ينظر إليها مضطربا كما ينظر الإنسان إلى أولئك الذين أصيبوا بكوارث تتجاوز القوى البشرية. وبدون أن ينبس بكلمة، وبدون أية إشارة، وفي رعشة الخوف والغم والقلق تركها تخرج.
محمد غلاب