مجلة الرسالة/العدد 67/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 67/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 10 - 1934


4 - بحث في أصل الإنسان

بقلم نعيم علي راغب دبلوم عال في الجغرافية

بدراسة الجمجمة التي وجدت في جزيرة جاوة، إحدى جزائر الهند الشرقية، وجد أنها تشبه جمجمة نوع من القردة، وهو المسمى جيبون وهذا القرد معروف أن نسبة مقاس جمجمته تتناسب تناسبا إطرادياً مع ارتفاعه وحجم جسمه. بمعنى أن مقاس كذا هو لقرد ارتفاعه كذا. . الخ.

فإذا نحن طبقنا هذه القاعدة على تلك الجمجمة التي وجدت خرجنا منها بنتيجة، هي إن ذلك المخلوق الذي تخلفت عنه هذه الجمجمة لابد وأن يكون في ارتفاع قامة الإنسان، على عكس قردة ذلك النوع المشار إليه فإنها لا تتعدى في القامة قامة ابن خمس سنوات من الأطفال.

وإذا لاحظنا أن سطح الجمجمة وعظام محاجر العين وشكلها تعين عدم وجدود جبهة لصاحب تلك الجمجمة، نجد لزاما علينا من ذلك ومن نتائج أبحاث العلماء أن نقول إن هذا الذي يمثل إنسان البليوسين كان عبارة عن قرد كبير، وتبين لنا بعد ذلك من قياس تلك الجمجمة أننا لم نكشف عن الإنسان القرد فحسب، بل كشفنا عن أحط درجة من درجات التطور الإنساني، وإذا كان للإنسان صفات تميزه ويختص بها عن سائر أنواع الحيوان، فإنما هي ذكاؤه وقابليته للتعلم، ثم حدة الشعور، وهذه كلها تأتي من المخ مصدر الشعور والوجدان.

وإن قصة تدرج الإنسان ما هي إلا تاريخ لتطور قواه العقلية. فعند ما كشف الأمر عن جمجمة إنسان النياندرتال عام 1875، قال بعض من العلماء إنها بجمجمة أشبه منها بجمجمة الإنسان. لماذا؟. لأنه لوحظ بها البروز الكبير الظاهر في محاجر العين، وهو ما تمتاز به أنواع الغوريلا، كذلك لاحظ أن غطاء الجمجمة الأعلى واطئ منخفض ومفرطح. لكن الكشف الذي تلا ذلك دلنا على المقدرة والقوة الفكرية عند هذا النوع من الإنسان، وهو إنسان النياتدرتال. وأنها قد تفوق كثيرا من الأجناس البشرية في القدرة والمهارة والدقة والجمال في صناعة الأدوات الصخرية النارية.

ولم يجد الدكتور أي أثر في طبقة الأرض التي وجد بين ثناياها الإنسان القرد، وليس هناك ما قد يلقي لنا ضوءا على مقدار ذكاء هذا النوع وقدرته، إلا أنه يمكننا أن نتكهن بشيء من ذلك من حجم فراغ جمجمته التي استطاع الدكتور دبوا أن يصورها لنا.

فأما من جهة حجم المخ فإن الإنسان القرد أو إنسان جاوة (كما سنسميه) يقع تحت أسفل درجة من درجات المخ الإنساني. فالابورجونيز سكان استراليا يتراوح حجم مخ القرد فيهم من 1300 إلى 1400 سم مكعب، ولو أن هذه النسبة تقل في نسائهم فتصل إلى 1000 سم مكعب أو إلى 930 سم (كما يبالغ السير وليام تيرنر) ولكي نقول إن الرجل أو المرأة يفكر أو يستطيع التفكير يلزمه مخ لا يقل عن 950 سم مكعبا، ولكن أبحاث الدكتور ديبوا دلت على أن حجم مخ إنسان جاوة لم يتجاوز مقدار 900 سم مكعب. برغم أن الأستاذ ج. هـ. ماك جريجوري يرتفع به إلى 940 سم مكعبا. وهكذا نرى أن الإنسان المذكور لم يكن ليستطيع التفكير الصحيح كما نراه أو كما نعقله، إلا أنه قد اقترب وسار على عتبة باب الإنسان الحق بتفكيره وقوته العقلية.

وإذا قارنا إنسان جاوة بالغوريلا وجدنا أن حجم مخ الذكر من هذه القردة يبلغ في المتوسط 520 سم مكعبا، ولو أنه قد يرتفع إلى 650 سم مكعبا أو ينخفض إلى 470 سم مكعبا بينما نجده يرتفع إلى ستة أمثاله عن حجم مخ هذه القردة برغم التشابه العظيم بين شكل سقف جمجمة إنسان جاوة وقرد الجيبون.

إلا أن هذا النوع الإنساني وهو إنسان جاوة إذا قورن بالإنسان الأوروبي الحديث وجد بينهما فرق كبير جدا. إذ أن الأخير يزيد في حجم المخ على الأول بما لا يقل عن 560 سم مكعبا إذا ما قدرنا للأخير متوسطا قدره 1500 سم مكعب.

أما عن حجم مخ إنسان البليوسين فإنه يرتفع كثيرا عن مستوى أكبر أنواع القردة المعروفة، ويصل إلى أسفل درجات الإنسانية، ونصل إلى نفس النتيجة إذا ما قارنا ببين مخ إنسان جاوة والغوريلا، أو مخ امرأة الأبوجيز الأسترالية. وبفحص مخ قرد من القردة لوحظ أن الطبقة الظاهرية منه وهي التي تتصل بالقدرة على السمع والإبصار والحس كاملة التكوين، وأن الطبقة الظاهرية التي تليها وهي التي تتصل بالقدرة على الفهم والتذكر تكاد تكون معدومة التكوين، بينما نجد أنها في إنسان جاوة برغم تناسب أجزائها وأتساعها لا تصل إلى تلك التي تعيش على سطح الأرض في عصرنا هذا. ولذلك أمكننا بفضل اكتشاف الدكتور العلامة ديبوا أن نعرف الماهية التفكيرية والمقدرة العقلية التي كان يتمتع بها الجنس الذي عاش في عصر البليوسين.

ونحن لا يمكننا مع ذلك كله أن نقرر ما إذا كانت عندهم القدرة على التخاطب والكلام. إلا أنه قد أمكننا أن نعرف من تلافيف المخ عند الإنسان المعروف بإنسان جاوة مقدار ما كان له من استعداد لذلك، وما قد وجد عنده من عوامل تساعده عليه، ومن المحتمل أنه قد تكلم وتفاهم، ثم عبر عما يجول بخاطره بعبارات صوتية غير منتظمة تعبر عن رغبة أو شعور، ولكنها لم تكن لتعبر عن فهم. ويمكننا أن نقارن بين قدرتهم على الكلام وقدرتهم على صناعة الأدوات والمرافق بما نسمعه من لغات اليوم وما نراه بين أيدينا من مرافق وأدوات كادت أن تبلغ حد الكمال.

ونحن إذا اعتبرنا أن إنسان جاوة بالقوى العقلية التي سبق الكلام عنها وشرحناها في الفقرات السابقة، هو الحد الذي وصل إليه الإنسان في أواخر عصر البليوسين، وأن إنسان البلتدون هو مثل لما قد وصل إليه الإنسان في أوائل عصر البلستوسيين، لوجب علينا أن نعترف أن هناك فترة تقع بين العهدين يمكن أن نطلق عليها فترة التطور العقلي للإنسان القديم. لأننا نعرف أن حجم مخ إنسان البلتدون الذي وصل إلى 1400 سم مكعب يتناسب مع حجم مخ الإنسان الحديث، ويقترب به إلى الإنسانية الحق. بينما نجد أن إنسان جاوة بمخه الذي يمكننا أن نقدر حجمه بمقدار 940 سم مكعبا ينزل إلى أسفل الدرجات، ولا يصل إلى أحط نوع من الأنواع البشرية المعروفة، وأن تلافيف المخ في إنسان البلتدون، ولو أنها لا تصل إلى ما نراه من تلافيف مخ الأنواع المنحطة من الأنواع الحديثة، إلا أنها تفوق وترتفع كثيرا عن مستواها عند إنسان جاوة.

وإذا كنا قد أوضحنا في مقالاتنا السابقة مدى أهمية فحص العلماء لمخ الإنسان وما كشفه لهم حجمه من حيث تاريخ تطوره، فيجب إلا ننسى أهمية فحصهم لأسنانه وما كشفت عنه الحفريات. فإنه قد لوحظ أن أسنان القرد كانت أسنانا إنسانية لا تختلف في شيء عن أسنان الإنسان الحاضر إلا من حيث كبر الحجم. ولا بد لنا أن نذكر مما قد سبق ذكره، أن إنسان البلتدون قد تمتاز بأنياب حادة مدببة، لا تختلف في شيء عن أنياب القردة، بينما نجد أنها تصغر عند إنسان جاوة، وتتناسب مع باقي أسنان الفم كما هو الحال في إنسان هيدلبرج وجميع الأنواع الإنسانية الأخرى. فهل يمكننا القول أن أسنان الإنسان بعد أن تعدل شكلها في عصر البليوسين قد رجعت فزادت حجما في عصر البلستوسين، كي ننكمش بعد ذلك وتناسب باقي نظام أسنان الفم في النهاية؟. . وهذا ستجد له شرحا وافيا في مقال قادم. وفي الوقت نفسه لا يمكننا شرح كل هذه الغرائب إلا إذا اعتبرنا أن الإنسان القرد وإنسان الهوموهيدلبورجينز يمثل كل منها فرعا من أصل الشجرة التي نشأ وتطور منها الإنسان، والتي لم تكتشف من فروعها إلا أغصان قليلة محطمة. . .

يتبع

نعيم علي راغب

دبلوم المعلمين العليا قسم الجغرافيا