مجلة الرسالة/العدد 670/الأدب في سير أعلامه

مجلة الرسالة/العدد 670/الأدب في سير أعلامه

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 05 - 1946



ملتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 11 -

تتمة الكلام عن مسرحية كومس

ويهرب كومس وقبيله، ويحسب الأخوان أنهما غلباه على أمره، ولكن الروح الحارس يلقي إليهما أن أختهما لا تزال مقيدة بسحر كومس لا تستطيع حراكاً كأنها التمثال الحجري، فكان عليهما أن يختطفا عصاه، فإنه لا يبطل سحره إلا إذا قرأ ما على العصا قراءة عكسية تبتدئ من النهاية. على أن الروح يخبرهما بأن لديه حيلة فليس لهما أن يبتئسا، أما حيلته فهي أنه سيستنجد بسابرينيا عذراء نهر السفرن، ويصف لهما سابرينيا ومستقرها بين عذارى الماء، وكيف أتيح لها أن تكون من نبات الخلود، ويذكر ما في طاقتها من عون لطالبي العون حتى أن الرعاة لينشدون لها الأغاني ويلقون في النهر زهرات من كل لون تحية لها، وهي تحب أن تنجد العذارى مثلها إذا كن في مثل ما كانت فيه من ضيق وشدة، وأعظم ما ينهض بها إلى النجدة الغناء، ولذلك فإنه يستحثها بأغنية، ثم يهتف منشداً متوسلاً إلى سابرينيا بكل عزيز عندها من الآلهة والإلهات فلا يكاد يخلوا سطر من نشيده من اسم من أسماء هؤلاء.

وتظهر سابرينيا وحولها بعض عذارى الماء، فتغني أغنية قصيرة تصف فيها من أين أتت وكيف أقبلت سريعة خفيفة حتى إنها لتطأ الزهر فلا تنحني سوقه، وتعلن إلى الراعي أنها رهن طلبه، ويشير الراعي إلى الفتاة المسحورة ويؤكد عذرتها ويذكر ما عانت من السحر، وتجيب سابرينيا أنه ليس أحب إليها من أن تأخذ بيد العفة المضطهدة، وتتجه إلى الفتاة وتلقي على صدرها نقطاً من سائل معها وعلى شفتيها وطرف إصبعها فتبطل سحر كومس.

وما تكاد تنطلق حتى تنهض الفتاة كأن لم يكن بها شيء. ويبتهج الروح الحارس أو الراعي فيثني على سابرينيا ويدعو لها من قلبه بكل جميل، وينبئ الفتاة أنه سيصحبها إلى قصر أبيها حيث يلتقي المهنئون من الأصدقاء، ويطرب الرعاة والقرويون، وسيضاعف حضورها طربهم، ويزيد الحاضرين جميعاً فرحاً على فرح.

ويتغير المنظر على المسرح، فتمثل مدينة لادلو وقلعة الرئيس اللورد، ويتقدم على المسرح رهط من الراقصات القرويات وفي إثرهن الراعي ومعه الأخوان وأختهما، ويخاطب الراعي القرويات ويسألهن في أغنية قصيرة أن يذهبن، ويتمنى لهن عودة إلى سرور كهذا السرور، ثم يقدم الأخت وأخويها إلى أبيها في أغنية أخرى مثنياً على شباب الفتيين، وعلى عفة الفتاة، وانتصار الجميع على الحماقة والنزق.

ويختم الراعي المسرحية بأغنية طويلة، فيذكر إلى أين يذهب بعد أن أتم عمله، ويصف مواطن الحبور والجمال التي ينطلق إليها وصفاً يعيد إلى الذهن قصيدة الأليجرو، وما تفيض به من صور المرح وتلميحات الميثولوجيا.

ويعلن الراعي أن من يريد أن يلحق به من بني الفناء فسبيله الفضيلة، فالفضيلة وحدها هي التي تعلم النفس كيف تسمو وكيف تنطلق، ولئن مس الفضيلة الضعف فلها من السماء عون.

تلك هي خلاصة الغنائية المسرحية، وهي تتضمن كثيراً من آراء ملتن وفلسفته، فكل شخصية في الغنائية تعبر عما يريد ملتن من معان، وتصف في الواقع ناحية أو موقفاً من مواقف حياته، فالعذراء تستمسك بالعفة كما استمسك هو بها، وتواجه الإغراء الشديد وتقاومه كما واجه وقاوم، وأكبر الأخوين يمتدح الفضيلة ويدافع عنها ويؤمن بها كما يفعل ملتن وكما يحس، وكومس نفسه نراه في وصف الطبيعة وصلتها بالنفس عن طريق ما تحدثه مشاهدها ومسراتها من أثر في الحواس يعبر عن جانب من إحساس الشاعر الشاب، وأصغر الأخوين يفصح بكلامه عن وساوس الشك التي تطوف أحياناً بنفس ملتن على الرغم من استعفافه وزهده وعزلته والتي يتغلب عليها بالصبر وقوة العزيمة فيحس لذة النصر.

أما عن فلسفته في الغنائية، فأساسها الصراع بين العفة تمثلها العذراء، والشهوة يمثلها كومس، ومهما يكن من إغراء الشهوات وتحايلها فإن الغلبة للفضيلة؛ ولن تعدم الفضيلة عوناً من الله، ويتجلى هذا العون في الروح الحارس الذي دل الأخوين على طريق الخلاص.

ولملتن نظرة في الطبيعة وصلة النفس بها، فهو لا يحرم طيباتها وزينتها، ولكنه كذلك لا يذهب في الاستمتاع بها مذهب كومس، فيجعل الأمر فيها أمر لذة وفجور واغتنام ونهب في غير مبالاة كما تفعل البهيمة. وعنده أن تأخذ النفس من طيبات الحياة كما تقضي الحكمة، ومقومات الحكمة عنده الاعتدال والقناعة والعفة، وعلاقة المرء بالحياة والطبيعة على هذه الصورة طريق من طرق السمو الروحي بالنفس الإنسانية إلى معارج الكمال ومسالك الهداية

وينم كلام كومس في امتداح الطبيعة عن نزوع نفس ملتن إلى الطبيعة وجمالها وقوة إحساسه بمباهجها وزينتها؛ ويتضح هذا الميل القوي في ذلك المعنى البديع الذي نطق به كومس، ألا وهو قوله: إن الإنسان بزهده في جمال الحياة ومتعها لا يؤدي حق الشكر للمنعم ولا حق الثناء عليه. وما يخاف ملتن إلا شيئاً واحداً هو الفتنة، ولكن إذا اعتصمت النفس بالفضيلة تمتعت بأنعم الله ونجت من الزلل، فالطبيعة مما أنعم الله به علينا، وأنعم الله خير كلها، والغرائز والميول الطبيعة كذلك خير واتباعها تنفيذ لمشيئة الخالق، وهو لذلك يحب الطبيعة من ناحيتين: أولاهما: ما تظهره من جمالها الذي يبهج النفوس؛ وثانيهما: ما تخرجه من كنوز خيراتها وما تبثه في الكون من نماء وتجديد واتساع وكل أولئك من مقومات الحياة

وكذلك ينم كلام أكبر الأخوين عن الفضيلة كما ينم كلام العذراء عن العفة والعذرية، عن ميل كان في نفس ملتن أثناء مقامة في هورتن، فقد كان يميل إلى البقاء عزباً حتى يتفرغ لرسالته، وأراد أن يستعفف حتى لا يزل، فتولدت في نفسه فكرة، وهي أن الشهوة أصل الفسوق كله والفجور والرجس؛ وعلى ذلك فلا بد من تغليب العقل على العاطفة، أو الروح على الجسد، وهذا الصراع بين العفة أو الطهر وبين الشهوة يتضمن بالضرورة قيام وساوس الشهوة في نفسه، شأنه في ذلك شأن كل فتى مثله، ومرد الشهوة إلى العاطفة، ومرد الرغبة في قهرها إلى الحكمة، وما دام أنه يحس العاطفة في نفسه إحساساً قوياً، وأنها أمر طبيعي، فهي إذا لم تخرج في مظاهرها أو نتائجها عما تقضي به الحكمة كانت أمراً مشروعاً لا نكران له، ومن ذلك نشأت في رأسه فكرة سوف تظهر في كثير من آثاره، وهي العمل على وجود التوافق والانسجام بين القلب والعقل

وثمة شيء آخر نستخلصه من الغنائية، وهو صفة شائعة في بقية شعرة في هورتون، ونعنى بها روحه الإنسانية وتتضح في شدة إحساسه وصدق استجابته لمعاني الحياة، وشعوره بكل ما يشعر به القلب الإنساني من دواعي الفرح أو الحزن أو الراحة أو الألم، وكل ما يهجس في النفوس من رغبات وينهض بها من مطامح؛ وفي هذا كله أبلغ دليل على أن ملتن لم يكن الشاعر المتزمت كما عسى أن يفهم من تمسكه بالفضيلة، كما فيه خير مصداق لقول القائل: (إن ملتن كان خاتمة الأليزابيثيين)

ليسيداس:

كانت ليسيداس آخر قصيدة نظمها الشاعر في هورتون، وكانت في رثاء صديق له هو إدوارد كنج أحد زملائه في كمبردج وكان شاعراً له قدره، وقد غرق هذا الصديق سنه 1637 أثناء رحلته من شستر إلى أيرلندة، وأعد أصحابه في كمبردج عدداً من المراثي انتظمها كتاب صغير، وكان من بينها مرثية ملتن!

بدأ ملتن مرثيته بإشارة إلى بعض الأزهار التي يوحي ذكرها الشعر قائلاً إنه يعود ليقتطفها مبتسرة لم تتفتح، وهو يرمي بذلك إلى أنه يعود مرة ثانية إلى الشعر قبل أن يتم استعداده كما يجب، فإن حادثاً جللاً يعز عليه معه أن يظل صامتاً، وذلك هو موت ليسيداس، وكان ليسيداس اسماً اصطلاحياً على أي راع من الرعاة، وقد شبه ملتن صديقه بالراعي تلميحاً إلى الشعر الغنائي ونشأته على ألسنة الرعاة. . .

ويتساءل الشاعر: منذا الذي لا يغني لليسيداس وهو الذي عرف كيف يغني وكيف يطرب؟ فلا أقل إذ من أغنية دامعة على هذا الراحل العزيز!

ثم يستحث ملتن ربات الشعر اللائي يقمن في سفح الأولمب عند البئر المقدسة، حيث موطن (جوف) وسألهن العون، فقد كان ليسيداس قرينه، كانا راعيين معاً على تل واحد يطعمان غنماتهما ويسقيانها من نبع واحد ويأويان بها إلى ذل واحد ويغينان لها بزمارة واحدة. . . ويستطرد في وصف حياتهما معاً وما يحيط بهما من مظاهر الجمال والاستمتاع على صورة أشبه بما جاء في قصيدته الإليجرو، وهو إنما يقصد حياة الشعر وجمال دنياه!

وينتقل بعد ذلك انتقاله حزينة بذكر ما حدث من موت ليسيداس فيذكرنا بقصيدته البنسروزو؛ فسوف يقع نبأ فقده في أنفس الرعاة أو الشعراء كما تقع الحشرات والصقيع على الزهر والحشائش النضرة.

ثم يسأل الشاعر عذارى الماء أين كنا حينا أطبقت اللجة على ليسيداس الذي أحببن؟ ولكن ماذا يجدي هذا الحلم وما عسى أن يصنعن لو أنهن كنا حاضرات. . .

ويتساءل الشاعر بعد ذلك في فقرة حزينة تعد من أبلغ ما كتب عن جدوى الشعر ومعاناة قرضه إذا كان مصير الشاعر إلى مثل هذا الفناء المباغت؛ أليس أجدى على المرء أن يرتع ويلعب؟ إن الصيت والرغبة في المجد هما اللذان يحفزان الأنفس النبيلة فتحتقر اللعب وتقبل على المتاعب، ولكن القدر المباغت يذهب بهذا كله. وإنما يشير ملتن في هذه الفقرة إلى ما يخشى على نفسه كما يشير إلى ما حدث لصاحبه، ثم يستدرك قائلاً إن أبولو يرد عليه مذكراً إياه ان المرء يفنى ولكن المجد والصيت لا يلحق بهما الفناء، وكأنه بذلك يعزي نفسه. . .

ويعتذر الشاعر عن نبتيون إله البحر بفقرة جميلة رائعة الخيال ويبرئه من إغراق ليسيداس ويعود باللائمة على الحظ العاثر، ثم يلمح إلى جامعة كمبردج ويذكر مبلغ حزنها على ابنها الذي فقدته.

ويبتعد الشاعر عن جو المرثية الذي جعله كله ريفياً فيحشر في آله الإغريق التي يلمح إليه (لود) كبير الأساقفة يومئذ ويشتد في الحملة عليه وعلى شيعته ويرميهم بالجهل، ويأتي في حملته عليهم بجمله قوية فيصفهم بأنهم (تلك الأفواه العمياء) ويقصد بالأفواه الهم والجشع والإقبال على الدنيا، والابتعاد عن الحياة الروحية. وأمل العمى فهو عمى بصائرهم وموت أرواحهم. وتفسر هذه الحملة على لود في هذا المقام بأن صاحبه إدوارد كنج كان يكره كبير الأساقفة وشيعته كما كان يكرهه ملتن لجمودهم واستبدادهم، وطالما قرأ ملتن وصديقه كنج الفلسفة معاً وعلوم الدين فكأنما يكره الشاعر إذ يرثي صديقه أن يموت ذلك الصديق ويعيش لود وأتباعه.

ويعود ملتن إلى جوه القروي، جو الرعاة والشعر، فينادي الوديان والشطآن أن ترسل زهرها من كل لون وفي مآقيه دموع الندى ليوضع هذا الزهر حيث يوسد ليسيداس.

ويدعو الشاعر الرعاة أن يمسكوا عن البكاء فما مات ليسيداس وإن طواه اليم، فهو كالشمس كوكب النهار، تغرق في ماء المحيط، ثم ما هي إلا ساعات وترفع جبهتها الوضاءة من اليم فيكون ألا صباح، وسيرفع ليسيداس جبهته في عالم النعيم الدائم؛ حيث يتلقه القديسون والصالحون، وهو منذ اليوم جني الماء يتلمس الخير عنده كل من يرد الشط.

وتعد هذه المرثية من أجمل المراثي في اللغة الإنجليزية إن لم تكن أجملها وأعظمها جميعاً. وهي في غير تحفظ أجمل مرثية في صديق في تاريخ تلك اللغة. أما من حيث قوة الشعر فيها فقد بلغ ملتن هنا ما لم يبلغه في غيرها من السمو والقوة، حتى لتعد نموذجاً لشعره إذ يكتمل، وللشعر الإنجليزي في أرفع درجاته، ولروح الشعر على الإطلاق في أي لغة وفي أي مناسبة، إذ يكون له من السحر والروعة ما يكون للأثر الفني الخالد المعجز.

هذه القصائد الخمس هي كل ما نظم ملتن أثناء مقامه في هورتون، وهي كما أسلفنا القول كفيلة أن تحل ملتن بين الصفوة من شعراء الغناء، كما أنها كيله وحدها لو لم يكن له غيرها أن تجعل منه شاعراً فذاً مرموق المكانة، بيد أنها على الرغم من ذلك لم تخل كما قلنا من هفوات.

تزدحم قصيدتاه الأليجر والبنسروزو بتلميحاته الميثولوجية ازدحاماً يكاد يحس معه المرء أن شعر ملتن هنا غلبت فيه الصنعة على الفن، وأنه يميل إلى إظهار معرفته بالإغريقية واللاتينية أكثر مما يعنى بفنه. وكذلك تعد عليه في هاتين القصيدتين هفوات عند وصفه الطبيعة تدل على أنه أحياناً ينقل عما يقرأ أكثر مما ينقل عما يرى، فهو يشير مثلاً إلى زهرات في زمان غير زمانها يجعل لها لوناً غير لونها، كما أنه يصف أوراق شجرة من الأشجار بما هو بعيد عن طبيعتها. ويؤخذ عليه في قصيدة الأليجرو وأنه أغفل أمر الحب كصورة من صور المرح، وإغفال صورة كهذه تعد من أقوى صوره أمر معيب وبخاصة إذا كان مرده إلى مبالغة ملتن في الحرص على العفة، فلا يصح أن يتعمد شاعر إهمال هذه الناحية الإنسانية القوية تشيعاً منه لنزعة من نزعات الفكر، فإن ذلك لا يتفق مع صدق الفن وصراحته.

أما مسرحيته الغنائية كومس فإننا وإن صرفنا النظر عن ضعف بنائها كمسرحية غنائية نجدها لا تخلو من مآخذ، وأهمها هذه الطريقة الوعظية التي لجأ إليها ملتن، أو هذه النزعة التعليمية التي جعلته يطنب في إرسال آرائه على ألسنة المتحدثين في المسرحية بصورة كادت تبعث على الملل في كثير من المواقف. وحسبك أن يتناقش الإخوان في مائة وستين سطراً فيما إذا كانت الفضيلة تعصم أختهما من الخطر، وأن يطيل الروح الحارس حبل الكلام فيستنفد وحده مائة وسبعين سطراً قبل أن تتخذ أية خطوة لإنقاذها، مما يبعد المسرحة عن روح المسرح وما تتطلبه من حركة وفعل، ومما يجعل المرء يحس أن مواقفها متكلفة لمجرد التعبير عن أفكار الشاعر. ويأتي بعد ذلك عيب آخر وهو مبالغة أكبر الأخوين في ثقته بالفضيلة، الأمر الذي يضعف في النفس اللهفة على الفتاة وقد تاهت في ظلمات الغابة. ومثل ذلك العيب إغراء كومس الفتاة، فإن إغراءه لم يزد على كونه بعض الآراء الفلسفية الجامدة مع إشارة إلى سحر ذلك الشراب، ولو أنه كان حواراً قصيراً تعرض فيه جوانب الرأي لكان أوقع في النفس وأدنى إلى روح الدراما، وأبلغ في الإغراء وفي امتحان عفتها من ذلك الكلام الشبيه بلغة المدارس أو أسلوب المقالات. والحق أن الغنائية كلها مواقف وأشخاصاً إن هي إلا وسيلة أراد بها ملتن أن يعبر عن أفكاره، فلو أننا قارنا بينها وبين الدراما المسرحية لرأينا كأنما ظهر الملقن على المسرح في هذه الغنائية، وأخذ يلقن كل شخصية ما تقول. . .

أما من حيث فلسفته الغنائية، فقد خلط ملتن بين العفة وبين العذرة، والعفة إذا انتهت إلى الزواج أمكن الجمع بين مباهج الحياة وجمال الطبيعة والحكمة المطلوبة، ولكن أن تظل الفتاة عذراء أبداً أو يظل الفتى عزباً أبداً دون أن يقرب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ثم يحاول مع هذا الزهد الصارم أو هذا الحرمان أن يأخذ بقسط من جمال الحياة وثمرات الطبيعة فهذا ما يصعب تصوره. ومرد هذا الاضطراب إلى تذبذب الشاعر بين الطبيعة وفرط حبه إياها حباً تجلى فيما قاله على لسان كومس وبين حرصه على قواعد الخلق التي ألتزمها منذ صغره، والتي هي أقرب الأشياء إلى طبيعة البيوريتانية التي كان يميل إليها. ولعل تمسكه يومئذ بأن يظل عزباً ليتفرغ لرسالته مع شغف نفسه بالجمال وإحساسه بالحياة كان له أثره في هذا التناقض الذي أضعف فلسفته.

وكذلك يؤخذ على ملتن أنه لم يرنا كيف تكون العفة سبيلاً إلى قوة خفية سماوية، فهذه مسألة ظلت مبهمة، ولهذا ضعف وقعها في النفس.

ومما يلفت النظر في الغنائية أن كومس في محاولته إغراء الفتاة قد سخر من العفة في ذاتها وعدها كلمة جوفاء، كما أنه أغراها بالطبيعة ومفاتنها وطيباتها، فلما أرادت أن ترد كان ردها موجهاً إلى محاجته في الطبيعة، أما سخر به فلم ترد عليه إلا بامتداح العفة فحسب، كقولها إنها القوة المتشحة بأشعة الشمس، وكان أولى أن تبين أثر العفة في تطهير النفوس لتستبين قوتها، ولقد بدا ملتن هنا في أضعف مواقفه في الغنائي، حتى لكأنه لا يدري ماذا يقول.

هذه هي المآخذ التي توجه إلى شعر ملتن في هورتون، ومهما يُقل فيها، فهي أقل من أن تذهب بشيء من قيمة هذا الشعر الذي بلغ الذروة الفنية، والذي قل أن يقع المرء على نظيره في اللغة الإنجليزية كلها روعة أداء، وعذوبة موسيقى، وإشراق لفظ، وسمو معنى، مما يجعله مزيجاً فذاً من جمال العصر الأليزابيثي ومن ثقافة ملتن، مزيجاً طبعه بطابع الفحولة، حتى بات بين ما أنتجت الدنيا من شعر في قديمها وحديثها وله مقام معلوم.

(يتبع)

الخفيف