مجلة الرسالة/العدد 671/من الدعوة الهندية

مجلة الرسالة/العدد 671/من الدعوة الهندية

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 05 - 1946


للأستاذ عباس محمود العقاد

أتلقى منذ كتبت بالرسالة مقالي عن الإسلام والنظام العالمي الجديد كتبا ورسائل مطبوعة وغير مطبوعة، يتكلم المطبوع منها عن القادياني والجماعات التي تناصره أو تنفصل عنه، وتفسر الرسائل الأخرى بعض ما يؤخذ على الدعوة القاديانية أو تنحى على هذه الدعوة باللائمة وتحاسبها على التفرقة بين المسلمين وإحداث البدع في عقائد الإسلام.

ومن أعجب هذه الرسائل رسالة مؤيدة للقادياني من زاوية الحصني بدمشق طبعت في أعلاها الشهادتان والبسملة، وأن الدين عند الله الإسلام، ثم هذه العبارة: (نحمده ونصلي على رسوله الكريم وعلى عبده المسيح الموعود، وقال كاتبها: (إن أحمد عليه السلام ادعى النبوة حقا، وليس في ادعاء النبوة مخالفة للإسلام أو لدين من الأديان كما تقولون، وإن المسيحية تنكر مجيء أحد بعد المسيح عليه السلام سوى رجوعه إليها بالرغم من وجود ذكر النبي بعد المسيح في أول إصحاح من إنجيل يوحنا. وأما القرآن المجيد فآياته بينات واضحات في بقاء الوحي وبقاء النبوة غير التشريعية، ولا يوجد غير آية واحدة تخالف حسب تفسير الشيوخ الآيات الكثيرة المفسرة بعضها لبعض وهي قوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين). ولم يتفق المفسرون على معنى لفظ خاتم النبيين بمعنى أخرهم زمانا، وهم لو اتفقوا لنجم عن اتفاقهم تكذيب للقول بمجيء المسيح عليه السلام. فإن لفظ خاتم النبيين لا يفيد انقطاع النبوة بل على العكس يفيد ضرورة عرض كل دعوى من دعاوى النبوة على خاتم النبيين أجمعين محمد ليختم ويصدق على صحتها سواء أكانت تلك الدعوى قبله أم بعده. . .) إلى آخر ما قال في هذا المعنى.

على أن البريد قد حمل إلينا رسائل أخرى تنفي عن القادياني أنه ادعى النبوة بمعنى من معانيها المعروفة في الأديان الكتابية، ومن تلك الرسائل رسالة مطبوعة في لاهور أذاعتها (الجماعة الأحمدية لإشاعة الإسلام) وذكرت في صدر البيان عن هذه الجماعة أن مقاصدها هي خدمة الإسلام وتوحيد المسلمين والدفاع عن الدين ونشر الدعوة إليه، وأن أعمالها لخدمة هذه المقاصد هي تأليف بعوث للتبشير في أنحاء العالم وتدريب المبشرين على هذ العمل، وترجمة القرآن الكريم إلى لغات مختلفة، واستخدام الإذاعة في تعميم الآداب الإسلامية. ثم شفعت ذلك بتلخيص عقائدها وهي:

1 - إننا نعتقد باختتام النبوءات بمحمد، كما قال مؤسس الجماعة: إنه لا نبي من الأولين أو الآخرين يعقب نبينا المعظم، وإن الذي ينكر ختام النبوءات يعتبر خارجا عن حظيرة الإسلام وليست له عقيدة فيه.

2 - وإننا نؤمن بأن القرآن الكريم كتاب الله الكامل والآخر، وإنه باق لم ينسخ منه جزء إلى آخر الزمان.

3 - إننا نحسب من المسلمين كل من يشهد بأن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله كائنا ما كان المذهب الإسلامي الذي ينتمي إليه.

4 - وإننا نعد حضرة مرزا غلام أحمد القادياني مؤسس الحركة الأحمدية مجدد القرن الرابع عشر، ونثبت أنه ما ادعى النبوة قط كما قال بكلامه: إنني لا أدعي النبوة. . . وكل ما أدعيه أنني محدِّث، وأن معنى المحدث هو الذي يسمع كلام الله. . . كلا. ما أنا مدع للنبوة وما مدعي النبوة عندي إلا خارج على الدين، وإنما يكذب عليّ الذين يحسبونني من أولئك المدعين).

وأيا كان الصدق فيما يقال عن دعوى النبوة هذه من إثباتها أو إنكارها ومن قبولها أو رفضها فإن الصدق الذي لا نشك فيه هو أن أتباع القادياني يخسرون بادعاء النبوة له ولايكسبون، وأن حركة التجديد في الإسلام يقوم بها الداعون إليها دون حاجة منهم إلى أمثال هذه الدعاوى التي تفض الأنصار وتفرق المتفقين، ولا تستميل إليها أحداً من المؤمنين بالأديان في المشرق أو المغرب، إن لم تجمعهم كلهم على محاربتها وتكفير المبشرين بعقائدها.

ونعود فنقول إننا قرأنا شيئاً من الكتب التي ألفها المجددون المسلمون في الهند ممن لا يقولون بنبوة القادياني ولا يقولون بأنه هو المسيح الموعود أو مهدي آخر الزمان، فلم نر في أقوالهم ما يمس عقائد الإسلام وإن كانت لهم تفسيرات وتخريجات لا يقرها جميع الفقهاء، وشأنهم في التفسير والتخريج شأن الفرق الإسلامية التي تجتهد في الدين ولا تنقض أصلاً من أصوله، فهي في حظيرة الإسلام لا تضيق بها حرية البحث التي كفلتها للباحثين هذه الديانة السمحة في مختلف العصور والأقطار.

ومما تتميز به هذه الجماعات المجددة أمران:

(أحدهما) فرط النشاط في التبشير بالدعوة المحمدية وترجمة الكتب النافعة في هذا المسعى إلى اللغة الإنجليزية على الخصوص مع المثابرة على نشرها وترويجها في أمريكا وأوربة والجزر البريطانية، وإسناد هذا العمل إلى فئة من الشبان المثقفين المستعدين لدفع الاعتراض العقلي أو النقلي بالمعقولات التي يفهمها الغربيون، أو بالنصوص التي يتوسع أولئك الشبان في تفسيرها على نحو كفيل بالإصغاء والإقناع. وقد يتصرفون في تفسيراتهم كما قدمنا ولكنهم يقتربون بها من عقول المتعلمين والمتعلمات هناك فلا يعرضون عنهم كما يعرضون عن الجامدين المتحجرين في فهم الكلمات والحروف.

والأمر الآخر طرائفهم العجيبة في تطبيق النصوص القرآنية على الأحوال الزمانية، لأنهم يعلمون أن أحوال الزمان لا تخرج على مدلول تلك النصوص إذا اهتدى ذو البصيرة إلى فهمها وحسن تطبيقها، ومادام القرآن كتابا باقيا لا يختص به عصر دون عصر ولا قبيل دون قبيل، فهو يحتوي في مضامينه كل ما يشغل المؤمنين به في العصور الحديثة كما احتوى في مضامينه كل ما شغل المؤمنين به منذ نزوله في عصر النبي عليه السلام.

وهذا مثل من أمثلة كثيرة من طرائف هذه الطبيقات العصرية التي ينشرونها باللغة الإنجليزية، وهو رسالة عنوانها: (تسليم أوربا وأمريكا) أي تحويلهم إلى عقيدة الإسلام لمؤلفها السيد محمد علي مترجم القرآن إلى الإنجليزية ومؤلف الرسالة التي لخصناها عن نظام العالم الجديد.

فالسيد محمد يستشهد في صدر هذه الرسالة بكلمة للكاتب المشهور برنارد شوفي (الزواج) يتنبأ فيها بأن الإمبراطورية البريطانية كلها ستدين بديانة إسلامية منقحة قبل نهاية القرن العشرين).

ويقول السيد محمد علي إن هذه النبوة قديمة في القرآن والتوراة، ولكن الذين يقرأون الكتب السماوية لا يفطنون لمعانيها ولا يفسرونها على وفاق مدلولها. فإن ظهور المهدي أو المسيح بين المسلمين مقرون بظهور المسيح الدجال، وسيادة بعض الأمم التي سميت يأجوج ومأجوج! والقرآن الكريم يقول عن يأجوج ومأجوج إنهم سينطلقون في اليوم الموعود (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا) وأنهم كانوا محبوسين محجوزين (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون).

قال السيد محمد علي: وقد ذكرتهم التوراة في سفر حزقيال حيث جاء فيه: (يا ابن آدم اجعل وجهك على جوج أرض مأجوج رئيس روش ما شك وتنبأ عليه وقل: هكذا قال السيد الرب. ها أنذا عليك يأجوج رئيس روش ماشك وتوبال، وأرجعك وأضع شكائم في فيك وأخرجك أنت وكل جيشك خيلاً وفرساناً كلهم لابسين أفخر لباس، جماعة عظيمة مع أتراس ومجانّ كلهم ممسكين السيوف: فارس وكوش وفوط معهم كلهم بمجن وخوذة، وجومز وكل جيوشه وبيت توجرمه من أقاصي الشمال مع كل جيشه شعوبا كثيرين معك).

أو حيث جاء فيه: (ها أنذا عليك يأجوج رئيس روش ماشك، وتوبال، وأدرك وأقودك وأصعدك من أقاصي الشمال.

فهل يدري القارئ من هم يأجوج ومأجوج هؤلاء في رأي السيد محمد علي ورأي القادياني من قبله؟

إنهم الروس والإنجليز، أو السلاف والتيوتون في الشمال؛ ومصداق ذلك أن الماشك قريبة من الموسكو، وأن الروش قريبة من الروس، وأن ميشك وتوبال نهران في روسيا تنسب إليهما موسكو وتوبلسك العاصمتان المعروفتان الآن، وأن الروس والإنجليز معاً قد جمعوا شعوب الأرض للتغلب على ملك الدنيا، وسينقلب بعضهم على بعض ويموج بعضهم في بعض، قبل أن يجمعهم داعي السماء إلى كلمة الحق والسلام.

وهذا مثل من أمثلة التفسيرات والتطبيقات التي قلنا إنهم يترخصون فيها ويمتدون بها إلى حوادث الزمان الحاضر وما يليه، ويعتقدون أنها وما سيعقبها من الحوادث العالمية مكنونة في آيات الكتب السماوية تنتظر من يفتح الله عليه بفهمها وإدراك مغازيها فيتولى تبصير الأمم ما أنذرتهم به السماء وما ساقته إليهم من البشائر، وهم لا يفقهون.

أما الفتح أو الإلهام فقد جاء في كتاب من تأليف ميرزا أحمد القادياني نفسه عنوانه (تعاليم الإسلام) وموضوعه حل المشكلات الدينية من وجهة النظر الإسلامية. وفيه أن العقل والتعليم مصدران من مصدر المعرفة الإلهية ولكنهما في مرتبة دون مرتبة الإلهام، وأن الإلهام درجات تبدأ بالحدس الصادق وتنتهي (بعين اليقين) وهو أعلى مراتب الملهمين، وأنه من الخطأ أن نخلط بين الإلهام الفني والإلهام الديني، لأن الإلهام الفني قد يكون في الشر كما يكون في الخير. وقد يقال إن اللص وهو يحاول سرقة المكان سنحت له خاطرة ملهمة لتيسير السرقة، ثم تيسير الهرب من الحراس، وليس هذا من الإلهام الرباني في شيء، وإنما يكون إلهام الله في سبيل الحقائق العليا والكشف عن الأسرار الروحية والنفاذ إلى لباب الخلق وبواطن الحكمة الإلهية، وهذه منزلة يرتقي إليها طلاب الوصول إلى الله ومنهم ميرزا أحمد القادياني في رأيه وآراء مريديه.

وبعد فإن الأمر الجدير بالعناية من حركة هؤلاء الدعاة أنهم يذيعون محاسن الإسلام ويجتهدون في نشره وتفسير الاعتراضات الغربية التي تتجه إليه، وفي هذه الحركة نفع مشكور، وإن لم تبلغ مرماها المقصود من (تسليم الأوربيين والأمريكيين) لأنها تزيل الشبهات، وتدحض الأكاذيب، وتقرب بين الشعوب، وترفع المسلمين في أنظار الأمم التي كانت تظن بهم الظنون.

أما التفسيرات التي ذكرنا آنفا مثلاً من أمثلتها فلا ضير فيها مادامت تصون الإيمان ولا تفسد العقل بما يناقض التفكير المستقيم. ونعود فنقول إن الغيورين على الدعوات المجددة على اختلافها يخسرون بالغلو في تعظيم أئمتهم، ويكسبون لعقائدهم ولأولئك كلما وقفوا على حد الاعتدال.

عباس محمود العقاد