مجلة الرسالة/العدد 673/في مقالين: حل حاسم لمشكلة الأزهر، ومستقبل

مجلة الرسالة/العدد 673/في مقالين: حل حاسم لمشكلة الأزهر، ومستقبل

مجلة الرسالة - العدد 673
في مقالين: حل حاسم لمشكلة الأزهر، ومستقبل
ملاحظات: بتاريخ: 27 - 05 - 1946


3 - في مقالين: حل حاسم لمشكلة الأزهر، ومستقبل الجامعة الأزهرية

للأستاذ محمود أحمد الغمراوي

معذرة أيها الأستاذ الكريم، وعتباً!

لم أقصد - شهد الله - أن أهمز أو ألمز، أو أرمي بعبارة، أو أومئ بإشارة، إلى ناحية الرسالة، أو مكان رئيسها العزيز الكريم. وما كنت يوماً بذي وجهين، ولا أنا ممن يتكلمون بلسانين، وأرجو أن يكون الله يعلم ذلك مني ولم يكن للرسالة عندي، وليس لصاحبها الجليل في نفسي، إلا التقدير والاحترام؛ وإلا ما عنيت من أنه أبن الأزهر البار، البارع الفن، المعتدل الرأي، الذي يعده الأزهر فيمن يعدهم من مفاخره، ويعتز بهم جنوداً يدفع بهم عن كونه في مستقبله وحاضره!؟

إنما كان من سوء حظي وسوء حظ الأزهر أن جرى قلم الأستاذ الفاضل برأي لم يسبق للأزهر أن سمعه فيما سمع من دعاوى تقام عليه، وتهم توجه إليه، وسهام تصوب عليه. وآخر ما كان يجري على ألسنة أولئك الذين يرون الأزهر قذى في الأعين وشجى في الحلاقيم: أن الأزهر تنقصه الثقافة، وتعزه اللباقة والحصافة: وأنه لابد من توحيد تخريج المعلم، ليصقل خريج الأزهر بصقال العصر الحديث. هذا اشد ما كانت تلوكه ألسنة المتجنين على الأزهر أو ترمى به نبال الجانين عليه: سمعناه غير مرة فيما شهدناه من مجالس اجتمعت فيها لجان ألفت لبحث ما كان يسمى بمشكلة تخريج المعلم، على أننا لم نسمع من أحد ممن جلسنا معهم من أعضاء هذه اللجان وتحاورنا معهم: لم نسمع من أحد من هؤلاء، وهم من كبار رجال المعارف المسؤولين، وعظمائهم المعدودين، لم نسمع كلمة منهم تومئ إلى مثل ما جاء في الرسالة من أنه يجب تعديل نظام التعليم في الأزهر تعديلاً يقتطع ست سنين من مدة التعليم فيه لتحقق وحدة الثقافة التي تتوقف عليها وحدة الأمة.

فهل يلام الأزهر إذا جزع لسماع هذه الكلمة وإذا رآها مكتوبة في إحدى صفحات الرسالة بقلم مديرها المفضال؟

يا لهول الموقف! نظام الأزهر القائم يأبى وحدة الثقافة ولا يرضاها، ووحدة الثقافة تتوقف عليها وحدة الأمة! أليس معنى ذلك أن نظام الأزهر القائم خطر على وحدة الأمة لأنه يأبى ولا يرتضي الثقافة التي تتوقف عند وحدة الأمة؟ وهل هذا إلا إلقاء الأزهر في فوهة المدفع؟ ومن ذا يستطيع أن يكون حجر عثرة في سبيل وحدة الأمة؟

وهل الأزهر: أرضه، وسماؤه، وبناؤه، ورجاله، وأبناءه إلا فداة الوطن والعرش، وبناة وحدة الأمة: يفدون الوطن والعرش بحياتهم وأرواحهم، ويشيدون بناء وحدة الأمة بعقولهم وجسومهم، ودمائهم!

أجل، إنه كان من سوء حظي ومن سوء حظ الأزهر أن تسطر هذه الكلمة بقلم الأستاذ الزيات، وأن تقرأها أعين الناس على صفحات الرسالة. فإذا كان فيما كتبت ما رأى الأستاذ فيه تعريضاً، فإن ذلك موجه إلى الرأي وحده؛ وليس موجهاً إلى رائيه أو حاكيه، فإني لا أرتاب في حسن نيته، ثم أعود إلى الموضوع.

2 - إنشاء جيل قادر على الاجتهاد والتجديد:

إنشاء جيل من العلماء العاملين القادرين على الاجتهاد والكشف عن حكم الدين ويسره، وسماحة الشريعة فيما تضمنته من الأحكام هو أمنية كل مؤمن ونشدة كل مسلم يود أن تكون الأمة الإسلامية حيثما توجد جماعاتها عزيزة في أوطانها، سعيدة في حياتها، تستمد القوة والعزة من اعتصامها بالدين، وتجد طمأنينتها وسعادتها في ظل شريعته الوارف الظليل، وتدفع الظمأ بما تستنبطه من ينابيع هذه الشريعة العذبة الموارد الغزيرة الفيضان. ولقد كان الأزهر من أهم المدارس الدينية التي يرجى أن تسعف الأمة بحاجتها من أولئك العلماء المبرزين، وقد أخرج للأمة كثيراً من كبار رجال العلم في مختلف العصور ممن يشار إليهم بالبنان من الفقهاء وحفاظ الحديث، وعلماء اللغة، ورجال القضاء ممن أوفوا بطلبة الأمة إلى هذا العهد الأخير على قدر زمانهم.

أما الاجتهاد في الدين فليس من حق الناس في هذا الزمان أن يتطلعوا إليه، أو يتكلموا فيه وهم لا يعنون بشؤون دينهم، عنايتهم بنظافة أحذيتهم؛ وقد جعلوا من سفائن البحر مراكب ليقطعوا بها المهامه والفلوات، وأعدوا من النوق والأبعرة سفناً يشقون بها عباب بحر الظلمات. ثم هم لا يريدونه ديناً يرقى بالإنسانية إلى ذروتها العليا، ويسمو بآخذيه إلى أعلى المنازل العزة والقوة والمجد، فلا يرضى أن ينزلوا منها في المنازل الدنيا!. ولكنهم يريدون أن يتخذوا لهم ديناً على غرار ما كان يتخذ بعض العرب معبوديهم في أزمنة الجاهلية؟

يريدون أن يستخدموا لهم ديناً من الحلوى، إن طاب لهم أكلوه وإذا لم يوافق شهواتهم تركوه!

يريدونه ديناً يحطب في حبال رغباتهم؛ ويضرى ما شره من شهواتهم؛ ويطعمهم الخبيث من لذاتهم، فهم في غيهم يعمهون، وما الله بغافل عما يعملون.

ثم أعود إلى ما كنت فيه من الحديث عن الأزهر الذي قد وضع في مفترق الطرق. فإذا كانت مهمته وغايته هي - كما قال الأستاذ الزيات بحق - أن يفقه الناس في الدين وفيما تفرع من أصوله من شتى العلوم، وأن يعلم اللغة وما أتصل بآدابها من مختلف الفنون - فالأمر بين؛ والطريق غير مشتبه؟ فلتترك له الأنظمة وأقسامه الابتدائية والثانوية تعد الطلاب لدراساته العالية في الكليات الأزهرية مع تعديل قليل في وضع المواد التي تدرس في هذه الكليات وليحمل الطلاب على احترام النظام ودراسة المقررات. وبقاء الأقسام الابتدائية والثانوية على نظامها الحالي الذي يعد الطلاب للدراسة في الكليات الأزهرية هو الوسيلة الوحيدة التي تمكن الأزهر من أداء مهمته وتحقيق غايته، كما أن نظام الدراسة في المدارس الابتدائية والثانوية يعد طلاب هذه المدارس للدراسة في كليات الطب والهندسة والعلوم والزراعة وغيرها كما هو واضح من نظم الدراسة ومناهجها في هذه المدارس. محاولة جعل النظام الدراسي في معاهد الأزهر الابتدائية والثانوية في غرار نظام المدارس الابتدائية والثانوية التي لوزارة المعارف يجعل من الخرافة التاريخية التي تروى للأطفال في قصة الغراب والقطا قصة واقعية نرجو أن لا تمثل في الأزهر.

إن الأزهر لا تزال فيه بقية من الذماء، وصبابة في الإناء، هي هذه البقية الصالحة من الغراس النافع الذي امتدت بالإحسان به إلى الدين وإلى الوطن الإسلامي العام يد الملك العظيم المغفور له الملك فؤاد، طيب الله ثراه، وخلد بأعماله الصالحة الباقية ذكراه، وجعل الجنة مأواه.

فهذا الغرس الصالح الذي غرسته يد فؤاد المباركة، وهذه الصبابة النافعة الباقية من بركات يده وسيبه الجزل جديران بأن ينالا حظهما من عطف شبله العظيم، ورعاية نجله الملك الهمام جلالة الملك فاروق، أيد الله عرشه وأدام ملكه محروساً بعناية الله، ليؤتى هذا الغراس العزيز أكله، ويثمر هذا الزرع المبارك بفضل من عطف جلالته ثمره، فإن العهد بجلالة الفاروق (حفظه الله) الحفاظ بما تركت يد والده من غراس - وكل غراس له صالح، وتعهده بما يكفل له النماء والبقاء.

وهذا النظام الإصلاحي الباقي في الأزهر شبحه لم تكلأه عين ساهرة، بل شغلت الشواغل الخارجة عنه تلك الأيدي الماهرة. ثم أنه لم يوضع عفواً، ولم يجعل لهواً؛ ولكنه ألفت له اللجان، وتصافحت فيه المجان، ورفعت له البنود، وتزاهت فيه البرود. فمن الحيف عليه، والتخون لواضعيه أن يوأد وهو وليد، أو يشوه خلقه وهو غصن جديد.

والأمل معقود بعطف جلالة الملك المعظم في الإبقاء عليه حتى يشتد هذا الفطيم وينهض قائماً على ساقيه، ويعدو في ميدان الحياة سباقاً على قدميه. وهذا ما نرتقبه للأزهر بهمة شيخه الجديد حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق وفقه الله وأعانه وحقق على يديه الآمال.

وأختم كلمي كما بدأته بإسداء أكرم التحيات إلى الأستاذ الزيات مدير (الرسالة) ممجداً فيه حرية الرأي، ورحابة الصدر، وبراعة الفن، وبلاغة القلم. والسلام.

محمود أحمد الغمراوي

المفتش بالأزهر وشيخ معهد دسوق والزقازيق سابقاً