مجلة الرسالة/العدد 676/الأدب في سبر أعلامه:

مجلة الرسالة/العدد 676/الأدب في سبر أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 06 - 1946



مِلْتُن

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .)

للكاتب محمود الخفيف

- 16 -

بعد أوبته من إيطاليا:

آب ملتن إلى وطنه بعد أن غاب عنه سنة وثلاثة أشهر! وكانت الحرب بين إنجلترا واسكتلندة في أولى مراحلها؛ وكانت السياسة الداخلية دائبة في عصفها لا تكاد تجنح إلى السكون حتى تهب ريحها عاتية من كل جانب.

وكان يتوقع منه بادي الرأي وقد آثر العودة إلى بلاده على المضي في رحلته حياء منه، كما ذكر، أن يستمتع بالرحيل والأحرار في وطنه يعانون ضروب البلاء، أن يلقي بنفسه في غمار السياسة أنفة منه وحفاظا ودفاعا عن الحرية التي يعشقها والتي ركب في فطرته الميل إلى نصرتها؛ ولكنه ركن إلى الدرس ولاذ بالعزلة كما كان يفعل قبل رحيله.

وقد ملأ الحزن جوانب نفسه على صديقه ديوداتي، وآلمه ألا يجد مكانه من يستطيع أن يفضي إليه بأنباء رحلته، ويظهره على ما لقي أثنائها من حفاوة وما اكتسب من حسن السمعة وذهاب الصيت.

والتمس العزاء لنفسه في مرثية كتبها فأدى بها حق الوفاء لصديقه. وقد اختار لها اللغة اللاتينية كما اختار لها الجو القروي وصور الرعاة وحياتهم، والذين يعرفون اللاتينية ممن كتبوا حياة ملتن على اتفاق أنها من حيث الفن في ذاته لا تنزل عن مستوى مرثيته ليسيداس؛ وإنها من حيث العاطفة أعمق وأصدق من أختها لأن صلة ديوداتي بملتن كانت أوثق من صلة كينج به، فقد كانا ديودتي قرينه منذ صغره وقرب خلانه إلى قلبه وأشدهم محبة له؛ واخذ ملتن يذكر له في مرثيته ما كان يحب لولا أن طواه الموت أن يلقيه على سمعه؛ وجعل ملتن من نفسه ومن صاحبه راعيين كما فعل في ليسيداس، وأثنى على خ صاحبه ولا سيما وفاءه وذكاءه ومرحه وتألم أن كان بعيداً عن وطنه في غير ضرورة ملجئة فلم ير نهاية صديقه. وأشار ملتن في هذه المدينة إلى أنه سوف يجد العزاء في الشعر فيكتب إلياذة عن تاريخ قومه وأساطيرهم جاعلا الملك أرثر وفرسانه أبطال ملحمته متخذاً اللغة الإنجليزية أداته؛ ولكن هذه الملحمة التي وعد بها ظلت مجرد وعد فقد صرفته عنها شواغل السياسة والدين كما صرفته عن الشعر جميعاً اللهم إلا بضع مقطوعات قصيرة زهاء عشرين عاماً. . .

وكما أطلق ملتن على إدوارد كنج اسم ليسيداس أطلق هنا على ديوداتي اسم دامون؛ وكان دامون من مشاهير الفلاسفة ورجال الموسيقى بأثينا، وكان صديقاً وأستاذاً ابركليس؛ وقيل إنه كان كذلك أستاذاً لسقراط، وكان مضرب المثل في الوفاء، فقد اقترف أحد أصحابه جريمة كان قصاصها القتل، وعول ملك سيراكوز على قتله فاستأذنه أن ينصرف ليقوم على بعض شؤون أسرته ثم يعود لينفذ فيه القصاص. وتقدم دامون فرضي أن يكون رهينة عند الملك ليقتله بدل صاحبه إن لم يعد في موعده؛ وحل الموعد وهم الملك بقتل دامون فجاء صاحبه معجلا فأنقذه؛ وأثر وفاء الرجلين في نفس الملك فعدل عن قصاصه وطاب إليهما أن يكون ثالثهما في هذه الصحبة الوثيقة.

ونجد في اختيار ملتن هذه الاسم لصاحبه شاهداً من شواهد فنه، فهو يلمح كما ذكرنا من قبل إلى المعنى الواسع بالكلمة الواحدة. . .

واختتم ملتن مرثيته بإشارته إلى موت صاحبه ولم يتزوج، فذكر الحب وقال إن من حق الشباب أن يحب، وأن الذي يذوق طعم الحب وقد تقدمت به السن يذوق طعم الحسرة مضاعفا؛ ثم يبشر صاحبه بأنه سيلقى في الجنة خير العوض عما فاته في الدنيا فسيستمتع بزواج خالد في عرس بهيج من أعراس الفردوس.

ويجد بعض الكتاب في ذكره الحب وأنه من حق الشباب وفي تألمه على موت صاحبه ولم يتزوج تلميحا منه إلى حالته هو، وإن خفي هذا التلميح، ويقولون إن ملتن كان يفكر يومئذ في الزواج وإنه قد مل أن يعيش أعزب.

على أنه يعود إلى القراءة في إقبال لا يقل عن سالف إقباله عليها أثناء مقامه في هورتون؛ وقد اتخذ له بعد أوبته من إيطاليا مسكنا في لندن فلم يعد إلى القرية. ورضى أبوه الشيخ أن يمدد بما يطلب من المال وإن كان لا يزال يعجب ويتألم ألا يتخذ ابنه عملا إلا ما لا يبرح يردده من تثقيف نفسه أيكون أهلا لما يستشرف له في دنيا الأدب؛ وراض الرجل نفسه على سماع هذا وعلى الجود بما يطلب ابنه من المال. والحق أن ابنه لم يطلب منه كثيراً وحسبه من المال ما يشتري به قوته وما يلزم له من الكتب وما يدفع منه أحر مسكنه. . .

وضاق المسكن الجديد بكتبه ما اقتناه منها في هورتون وما اشتراه من إيطاليا، فاتخذ له مسكنا أوسع منه في أطراف المدينة. وهناك عكف على القراءة والدرس تاركا الشؤون العامة إلى (عناية الله أولا ثم إلى من وكل إليهم الناس القيام على هذه الشؤون).

وأشرف ملتن في مسكنه الجديد على تعليم ابني أخته وقد قبلها ليقيما عنده بعد موت أبيها وزواج أمها من غيره، وما لبث أن ضم إليها عددا من أبناء أصحابه الأقربين. وأقبل على تعليمهم جميعا في حماسة ولذة لا تقل عن شغفه بالقراءة والدرس ولقد عجب دكتور جونسون من عمله هذا وسخر منه فأشار إليه بقوله: (إنه ينظر بشيء من الفكاهة إلى ذلك الرجل الذي يبادر بالعودة إلى وطنه لأن قومه يكافحون في سبيل الحرية، ولكنه لا يلبث وقد ميدان العمل أن يدع وطنيته تتبخر في مدرسة يفتحها في بيته).

وأقبل ملتن على تعليم هؤلاء الصبية وعلى قراءة فلا يدع فيها ساعة من نهاره إلا ملأها بعمل حتى أيام الآحاد فلم يدع فيها كتبه وأوراقه إلا ريثما يؤدي واجب الدين. ونتبين مما كتبه أحد ابني أخته فيما بعد عن حياته وأخيه في بيت خالهما أنه كان يأخذهما بالجد في غير هوادة ومن كان معهما من أبناء أصحابه، ولكنا لا نتبين فيما كتب أن ملتن قد اهتدى إلى طريقة خاصة في التعليم أو أنه جرى على أسلوب اقتنع بسلامه وفائدته، فكل ما ذكر ابن أخيه لم يعد الكم؛ فهو يباهي بأنهم قرءوا كثيرا وتعلموا كثيرا. . .

بهذا الدأب وبهذه العزيمة أقبل ملتن على العمل بعد عودته من إيطاليا. على أن ابن أخته يذكر من أنباء تلك الأيام أن خاله كان ينصرف عن العمل كل ثلاثة أسابيع أو كل شهر مرة فيقضي يوما بين نفر من صحابته يستمتعون بالمرح واللهو البريء.

وماذا كان يقرأ ملتن بعد أوبته من إيطاليا؟ إنه اليوم شديد الولوع بالتاريخ وعلى الأخص تاريخ قومه، وإن الملحمة التي داعبت خياله في إيطاليا عن تاريخ قومه أو الآرتريادة ليعاوده حلمها اليوم ويلح عليه. ولقد أشار إليها كما ذكرنا في مرثيته عن صديقه ديوداتي؛ كما أنه أثبت كثيرا مما يتصل بها في كشكوله الذي اتخذه منذ إقامته في هورتون ليكتب فيه كل ما يعن له من الآراء والملاحظات. . .

وأثبت ملتن في تلك الكراسة من الإشارات ما يدل على دراسة شؤون السياسة، كالمعضلة المالية والضرائب والملكية والجمهورية وحرية الرأي وحرية النشر والقوانين والاستبداد، وغيرهما مما يتصل بأحوال عصره.

ولن يزال يقرأ ويتدبر، ولن يزال يعتقد أنه لم يفرغ بعد من أهبته لما يجب أن ينهض له من عمل في دنيا الشعر، تجد دليلا على ذلك في قوله إنه يساير (ذلك التلقين الباطني الذي يزداد يوما بعد يوم فيوحي إلى أنه بالجد والدراسة المقصودة وهو ما أعده حظي في هذه الحياة مضافا إلى ذلك ميل فطري قوي، قد يتأتى لي أن أترك أثرا كتبته لمن يأتي بعدي من الأجيال فلا يدعونه إلى النسيان).

وما عسى أن يكون ذلك الأثر ومتى ينهض له؟ لعل الشاعر لم يكن أكثر بينة من أمره فيما يتصل بموضوع ذلك الأثر الخالد منه فيما يتصل بتاريخ البدء فيه، فأن كراسته تنطوي على نحو مائه موضوع غير الآرثريادة وكثرتها تتصل بالدين ومسائله من عهد آدم وحواء والخروج من الجنة وما إلى ذلك مما يدل بكثرته وتنوعه على حيرة الشاعر بين ما يأخذ وما يدع. . كذلك حار ملتن بين الصور التي يختار واحدة منها لموضوعه، أتخذله الملحمة على نحو ما فعل هوميروس ودانتي، أم يتخذ له الدراما؛ أم يترك هذه وتلك إلى سلسلة من الأناشيد مثل أناشيد بندار، فلكل من هذه الصور مميزاته ومحاسنه، ولعل مرد حيرته في اختيار الصورة إلى أنه لم يحدد الموضوع، إذ أن الموضوع في الواقع هو الذي يعين الصورة التي يؤدي فيها.

ومهما يكن من أمر هذه الحيرة فقد على الشاعر أن يدع قيثارته جانبا نحو عشرين سنه لم يكن له فيها أداة إلا النثر اللهم إلا مقطوعات قليلة نفس بها عن صدره في بعض المناسبات.

اجتمع البرلمان الطويل في نوفمبر سنه 1640، وقد إليه مقترح الأصل والفرع، ذلك المقترح الذي شمر له البيوريتانز، وأرادوا به القضاء على النظام الأسقفي ومن المشفقين من التطرف في الدين والسياسة الذين آثروا الوقوف إلى جانب الملك ودب الخلاف على هذا النحو بين أعضاء البرلمان.

وانتقل الخلاف إلى خارج البرلمان فانقسم الناس فريقين: أنصار النيوريتانز، وأشياع الملك وكبير الأساقفة

وظهر الجانب السياسي من تفكير البيوريتانز يومئذ في وضوح، وأخذوا يشيعون آراءهم في الناس؛ فالناس جميعا أمام الله سواء، ولا يكون الخوف إلا من الله وحده، والعدالة الاجتماعية وإقرار الحق في كل أمر هما دعامتا المجتمع الأساسيتان إلى غير ذلك من الآراء الحرة التي تناهض الاستبداد والطغيان.

وأما في الدين، فلم يبرح البيوريتانز يعلنون مقتهم لكنيسة روما وللنظام الأسقفي وازدراءهم لهما، وما يرجوا كذلك ينسبون إلى القساوسة أنهم هم الذين يوحون إلى الملك طغيانه وعلى الأخص كبيرهم وليم لود، وراحوا يذيعون أن لا حاجة بالناس إلى أخذ الدين عن القساوسة، فلكل امرئ الحرية أن يتفقه في دينه مستعيناً بكلام الله، وإذا فلم لا يستغني الناس عن الأساقفة ولم يعد لهم ما سلف من خطر؟

وتمسك لود وحزبه بوجوب طاعة الملك، وأعلنوا أن لا غنى للدولة عن النظام الأسقفي، وأن الكنيسة هي دعامة الملك والمجتمع، فإذا قضى عليها شاعت الفوضى في كل شيء. وكان يعمل لود على العودة شيئاً فشيئاً إلى كنيسة روما في روحها ونظامها ومظهرها، وكان يحارب مبدأ كلفن في القدر المحتوم، ويعضد المبدأ القائل بالاختيار، ويضطهد من يدعوا إلى الاعتماد على الإنجيل وحده بغير رجوع إلى القس، وأمعن لود في الكيد للنيوريتانز، واستعان بسلطة الدولة فأذاقهم سوء العذاب!

على أن فريقاً من المعتدلين وقفوا بين هؤلاء وهؤلاء وان كانوا قلة. ويرى هؤلاء المعتدلون أن المرء حر فيما يفكر فيه، أو فيما يأتي من عمل ما دام يطيع الملك والقس. وكان ملتن أقرب إلى هؤلاء المعتدلين منه إلى متطرفي البيوريتانز؛ فقد كان يجب التسامح ويدعو إليه. وخالف البيوريتانز في تزمتهم ومبالغتهم في الزهد والتقشف. وعنده أن المرء إذا وفي واجب الدين حقه، واستمسك بالفضيلة فلا تحرم عليه زينة الله التي أخرج لعباده. وللناس أن يستمتعوا أيام الآحاد بما يشيع البهجة والمرح في نفوسهم بدل أن يحشروا حشرا إلى الكنائس ويحملوا على البقاء فيها طويلا. . .

ولكن ملتن أنكر بكل ما في نفسه من حب للحرية على القساوسة تعصبهم واستبدادهم، وألقى بقيثارته من يده على رغمه وخرج من عزلته ليبدأ ضد القساوسة كفاحا ثائرا عنيفا تجلى فيه كل ما في طبعه من إنكار ومقت للتعصب، وكل ما في روحه من تمرد على الاستبداد وميل إلى نصرة الحرية.

(يتبع)

الخفيف