مجلة الرسالة/العدد 676/من مخلفات الحرب هذا الطبلاوي أفندي
مجلة الرسالة/العدد 676/من مخلفات الحرب هذا الطبلاوي أفندي
تخلص الإنجليز والأمريكيون من أوزار الحرب التي انقطع منها النفع، فباعوا كل ما تركت من شيء حتى القنابل المحشوة! وأقصوا كل ما خلفت من شخص حتى تشرشل الجبار! ونحن في مصر لا نزال نعاني من مخلفات الحرب وجرائرها ما يرمض الجوانح ويقض المضاجع.
لا أريد بمخلفات الحرب هؤلاء الجنود الغرباء الذين يملئون الدور
ويزحمون الشوارع، ولا هذه الضرائب الاستثنائية التي تقصم الظهور
وتقوض المصانع، إنما أريد بها أثرياء الحرب الذين يُفحِشون أسعار
الخبز واللحم والفاكهة على الفقراء في العواصم، ويرفعون أجور
القصور و (العشش) و (الكابينات) على الأغنياء في المصايف،
ويخفضون مستوى الخير والحق والجمال والذوق والفضيلة في جميع
الأماكن؟ أكثر هؤلاء طغام رُبوا في أحجار الفاقة، ودرجوا في أكواخ
البؤس، وأعوزتهم التربية الدينية التي تجمل الفقر بالزهد، والثقافة
المدنية التي تلطف الشقاء بالأمل، فشبوا على غرائزهم الأصلية،
يحتالون عند العجز احتيال الذئاب، ويفترسون عند القدرة افتراس
الأسود، وهم بين أحوال العجز والقدرة يكابدون آلام الشوق الملح
المحرق إلى المال في يد الغني وفي بيوت التجار، وإلى اللحم في جسد
المرأة وفي حانوت الجزار، ويحاولون ما استطاعوا أن يطفئوا هذا
السُّعار القاتل بالسرقة والقمار والتدليس والاحتيال والغش، فلم يزدهم
هذا الري إلا ظمأ، ولا هذه المتعة إلا حسرة!
فلما أوقد المستعمرون نيران الحرب لا خيرة في بقاع الدنيا فأكلت شباب الأمم، وأهلكت ثمار الأرض، ونقصت نتاج الناس، قُيدت المعاملات، وحددت الأرزاق، فوجد هؤلاء الشرهون الجياع أن الانطلاق من هذه القيود إلى الحرام المشتهى والثراء المرجو، أسهل على نفوسهم من تكلف العفاف وإضاعة الفرصة، فاحتكروا السلع، واغلوا الأسعار، وطففوا الكيل، واخسروا الميزان، وأقاموا في ظلمات الطرق وفي كهوف الأرض سوقاً سوداء يستغلون فيها عُرى الفقير وجوعه ليسلبوه ما تجمع في يديه من ثمن عرقه ودمعه. وظلت الحرب بضروراتها وشواذها تركم على أجسادهم اللحم والشحم، وتكدس في خزائنهم الأوراق والأرزاق، حتى أصبحوا في المجتمع المصري طبقة متميزة لها طابعها الخاص، وسمته الفرد، وهندامها العجيب، وحياتها التي أصبحت للتصوير الهازل والصحافة الفكاهة مدداً لا ينقطع ومنبعاً لا ينضب!
أسخطني على هذه الطبقة الجديدة قصة سمعتها عن أحد أعيانها البارزين سأقصها عليك. وليست هذه القصة أول القصص ولا آخرها، فإن أغنياء الحرب ينفجرون كل يوم من فرط السمن والانتفاخ، فيكون هم من الشظايا والضحايا ما لهذه القنابل التي لا نزال نسمع انفجارها في الطرق أو في الملاهي!
أستزارني يوم الأحد الماضي صديقي الأستاذ (ج) في دارته الجميلة بالدقي، فزرته في وقت الشاي، وكانت الشرفة التي اختارها لجلوسنا تنظر إلى دارةٍ تقابل دارته، إلا أنها أوسع وأرفع وأفخم، ولكن أنماط الناس الذين يدخلونها أو يخرجون منها أو يحفون بها لا تأتلف مع جمالها ولا ترتفع إلى مستواها. دع هذا الصياح الذي يتفجر فيها، والزياط الذي ينبعث منه، فربما كان أصحاب الدارة غائبين والخدم ينفسون عن حريتهم المكظومة بهذا الهرج. فسألت صديقي من باب الكلام الذي يقصد به تحريك اللسان قطعا للصمت أو فتحا للحديث:
لمن هذه الدارة الفخمة؟
فابتسم صديقي وقال وهو يشير إلى امرأة تجلس وحدها على مقعد من مقاعد حديقته:
لهذه المرأة!
ونظرت إلى المرأة التي أشار إليها فوجدت جسما كالخيال دقيق الشبح معروق العظم تستره ملاءة لف من الطراز الذي كانت تلبسه الخادمات قبل أن يصبحن (أرتستات) حرب! فقلت لصديقي وأنا أبتسم كما يبتسم: ماذا تعني؟ فقال: إنما عنيت ما قلت، وهو أن تلك الدارة لهذه المرأة، وهي مع ذلك لا تجد اللباس ولا تملك القوت، ولا يمر أسبوع دون أن تزورني مرة أو مرتين لألتمس لها من جانب هذا الثراء الضخم فضلة من الرزق تمسك الرمق وتديم العفة، ولكن!!
فقلت له والتعجب يترقرق في عيني ووجهي: لم أفهم ما تريد فماذا تعني؟
قال بلهجة الجد: أعني أن هذه المرأة زوجة صاحب الدارة، وهو فلان الغني الذي يسميه الناس (الطبلاوي أفندي) لأن بطنه المنتفخ المتسع المستدير يجعله أشبه بضارب الطبل العظيم حين يحمله على صدره. كان هذا الرجل فقيرا غير شريف، ووضيعا غير متواضع، تزوج وهو في تلك الحال من هذه المسكينة فولدت له خمس بنات وثلاثة بنين أكبرهم كما تقول لا يبلغ الرابعة عشرة، وكانت تعيش معه هي وأولادها على الكفاف، تساعده في حدود ما تستطيع بالعمل والتدبير والتقتير والقناعة، وتحتمل سرفه ونزقه بالصبر والإغضاء والنصيحة، حتى أدركته (نعمة) الحرب في سنتها الثالثة، فوصلت حباله بحبال المتعهدين لجيوش الحلفاء بالمواد الغذائية فشاركهم في الجمع والتوريد، وانفرد عنهم بالمصانعة والمهاواة، حتى استطاع بجرأته بعد قليل أن يدخل على رؤساء العمل الإنجليز من الباب الخلفي، فعاملهم بالغش وشاركهم في الربح، واستعان بهم على إخراج المحظور من السكر والرز، وإدخال الممنوع من الحشيش والأفيون؛ فتساقطت على رأسه وقفاه رزم البنك نوت تساقط البرد الغليظ، حتى اجتمع له في نهاية الحرب ربع مليون جنيه!
ومنذ رحل جيوش الحلفاء خلع الطبلاوي رداء العمل، وحشر نفسه في صفوف المترفين والعلية، فألفف جسمه بالحرير، وختم أصابعه بالماس، وعدد الألوان الفاقعة في بذلته وحذائه؛ ثم خلا جسمه المنهوم يضخم ويسترخي وينبعج جانباه، وترك شاربه الخشن يغلظ وينتفش ويطول سبالاه؛ ثم اقتنى الضياع والعقار، واشترى الرلزرايز والباكار. وكان يطلب الأغلى من كل صنف، والأعلى من كل شئ. ولا شك في انه هو الذي تحدث الظرفاء عنه بأنه استشار الطبيب فأشار عليه بفيتامين بيه فقال له: ولم لا تشير بفيتامين باشا؟ وانه طلب إلى رسام أن يرسمه فسأله: أتريد الصورة بالزيت؟ فقال له: كلا، بل أريدها بالسمن. وأن طبيب الأسنان أراد أن يصنع لأحد أضراسه المنخورة غلافا من الذهب، فطلب إليه أن يصنعه من الماس! ثم سكن هذه الدارة وألقى زمامه في يد الغاوين من رواد اللهو وسماسرة الفجور، فجعلوا له في كل غرفة ماخوراً، ومن كل ردهة مرقصاً، ومن كل بهو حانة.
وأعجب ما في الأمر كله أن صورة بيته القديم كصورة ماضيه العظيم قد انمحت من ذاكرته، فلم يعد يذكر عنوان بيته ولا سكانه ولا جيرانه، كأنه لم يستقبل الحياة ولم يبصر الدنيا الأسنة 1945! وها هي ذي امرأته على الحال التي ترى، تأتي كلما دفعتها الحاجة لتتوسل بي وبغيري إلى هذا الوغد ليرمي إليها من وراء السور من فضلات الغواني وفتات الموائد ما يمسك الحياة عليها وعلى أولادها، وإن لم ينقص فلن يزيد.
فهل كنت تظن قبل هذا الحديث أن في خلق الله أمثال هذا الرجل؟ فقلت له: والله يا صديقي لو كان المحدث غيرك لاتهمته بالتزويق والتزوير، ولما صدقت أن يكون في بني الإنسان هذا الخنزير!
أحمد حسن الزيات