مجلة الرسالة/العدد 677/سعيد. . . .!

مجلة الرسالة/العدد 677/سعيد. . . .!

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 06 - 1946



للأستاذ صلاح الدين المنجد

(أيها الأغنياء المجرمون. . أن هذا الفقير السعيد، لا شرف منكم جميعاً. . .!)

كان الضباب ينحدر ببط من حدود الجبال نحو القرية الهاجعة في أحضان الظلام، وكان الهواء يعصف ويزأر، ويهب من حقول الذرة تارة يحمل الزوابع والتوابع، ويهبط من الجبال الملأ بالزعرور، يحمل الجن والعفاريت، كأنه يريد أن ينقض على هذه القرية فينسفها نسفاً.

وكانت الطرقات قفراً، لا تلمح علة ظهورها أحداً، فقد دفع الهواء العاصف آهل القرية أن يختبئوا في دورهم تاركين المصاطب التي تحلقوا فوقها، يستمعون إلى أحاديث الحصاد، ويتحدثون عما لديهم من الآمال والأشغال.

وساد الظلام في كل مكان. . وعبث الهواء بمصباح القرية المعلق أمام الجامع فأطفأه وألقى به في الأرض. وانتشر فوق القرية رعب وكآبة، ونام القرويون. . حتى الحارس (أبو شنب) فقد ترك عصاه الغليظة أمام باب الجامع، وأغفى وراء الباب.

وفجأة ظهر في طرف القرية، من إحدى العلالي، نور ضعيف ثم اخذ يشتد ويقوي حتى أنارت العلية. . وظهر رجل يقترب من نافذتها.

ولو أن الحارس كان مستيقظاً لأسرع إلى العلية يستطلع أمر هذا النور، ويسأل صاحبها إطفاءه، لئلا يستدل العدو على القرية فيهاجمها بجنده، ويصب عليها نار مدافعه.

ووقف الرجل في النافذة، فنظر حوله، ثم اخذ يخطو في العلية خطوات غير متزنة، ثم عاد إلى النافذة ينظر. . . كأنه يترقب أمراً، أو يستطلع سراً، ثم أتفتل إلى المصباح، فاضعف نوره، وعاد إلى النافذة يتمتم بصوت ضعيف كأنه يخشى أن يسمعه أحد:

- (لقد سخر مني، عيرني بالفقر والعجز، لم يخجل من شيبي وضعفي. . . لقد تخطيت الستين. . اكتب عليّ أن أكون عبداً له، اتعب ليستريح، وأجوع ليشبع، وألبٍ المزق ليرفل بالحرير، وها أنذا لا املك شيئاً، وأولادي الصغار قضوا ثلاث ليال لا يأكلون، بل لا يجدون اللقمة الواحدة.

أمهم تعللهم بي، وأنا مختبئ أمام الدار، اسمع أصواتهم ويرن في آذني بكاؤهم، فيتفطر قلبي، وينهمل دمعي. انهم قطع مني كيف اتركهم يجوعون. . . انهم أولادي، فكيف ادعهم يبكون. . . ليقولوا أني سارق وأني مجنون. . وليسوقوني إلى السجن، فهم كفرة لا يرحمون، ولا طعم أولادي. فلعلهم يشبعون. أن الدراهم عندي، ولن أرجعها، ولكن، ما ادري! ما الذي يعيث في صدري، وبين أضلعي؟ انه يضنيني ويقلقني. . . ما اشد هذه الليلة عليّ. . .! أنها لأقل من هذه الجبال واقل من السماء. ماذا افعل يارب؟ أن عفريتاً يحطم منى. كأن في يده معولاً فهو يضربني. أني لأسمع همساته في كل دقيقة، بل في كل طرفة تزن في آذني وتطنّ (هات الدراهم، هات الدراهم) لكن لا ليس في العلية أحد، أجني يكلمني؟ ماذا أصابني؟)

ورفع الشيخ يده إلى جبينه يسمح العرق عنه، ثم حول بصره إلى الغرفة فنفضها، عله يجد فيها الذي يقلقه. ولكنه لم يجد أحداً. فخطر على باله أن ينام. لقد حاول النوم من قبل ففر منه النوم. أما الان، فلعل النوم يشفق عليه، وينقذه من هذا العفريت الذي يطن في آذنيه. فاضطجع على كيس من القش اتخذه فراشاً. فقرأ وتعوذ، ودمدم وهمهم، وسرد ما حفظه عن شيخ القريةيوم الجمعة، مما يذهب الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس. وتقلب في فراشه ذات اليمين وذات الشمال. وحاول أن ينسى الدراهم، بل تمنى لو كان اصم، فلا يسمع هذا الهمس الناعم، ولكن صورة الدراهم كانت تملأ عينيه، وهمس العفريت كان يرن في آذنيه.

وجفا فراشه، وقد تحطم جسمه. واخذ يطوف حول العلية، مطرق الرأس، حاني الظهر. كيف الخلاص مما يسمع؟ أن هذا الهمس: (هات الدراهم) يكاد يقتله، وماذا فعل؟ لأنه سرق؟ وقلبه ماذا أصابه؟ أنه يكاد يتمزق في صره. ونادى: (ألا دعني أيها العفريت. . أحرج من صدري، ابتعد عني. آه لو كنت شاباً. . . دعني فأنا شيخ محطم أكاد أموت.

دعني، فما أخذت الدراهم لنفسي، ولا لزوجتي، ولكن لأولادي.

انظرهم كيف يبسوا من الهزال، وسقموا من الجوع! أيبقون بلا رغيف ثلاثة أيام وفي صناديق جاري الدنانير؟ أيموت صغاري من الجوع، ولي عند (البيك - إلا لعنة الله على (البيك) - أجرة ثلاثة شهر؟ لقد طردوني، أيها العفريت، ولم ينقدني أجرها. فطفقت أشكو، فلم يصغ أحد ألي. لقد قالوا أني كاذب، لأني فقير ضعيف. وانه صادق لأنه سيد القرية الغني فدعني. فلم اعد أطيق. واذهب اليه، فهو مجرم كبير. اذهب أليه، وارقب غشه ودسه. . فأني فقير. اخرج أنت يا قلبي معه لاستريح. لقد طلبت بنيتي قرشاً فقلت لها غداً، وسألني بنيّ ثوباً، فقلت له غداً. وبت اخجل أن أراهما. أفلا أسرق يا رب، ويا عفريت، ويا قلب لأطعمهم وأفرحهم، وأدخل على قلوبهم السرور؟).

ولكن العفريت، كان أصم، فها هو ذا قلبه يخفق ويضرب ضربات كأنها القنابل مسكين لم يصغ إليه أحد، لا العفريت ولا قلبه. .

وضاق الشيخ بنفسه ذرعاً. أيقتل نفسه؟ لقد فكر في ذلك، ولكنه انصرف عن هذه الفكرة سريعاً، وفضل أن يفر من القرية. ثم رأى انه لا يطيق فراق أولاده، وقد رزقهم وهو شيخ قد بلغ الخمسين.

وفجأة التمعت عيناه. لقد فكر في الله. لم لا يصلي ركعتين، ويخلص لله النية، ثم يدعوه بدعاء تعلمه؟ لقد سمع هذا الدعاء من شيخ القرية، وحفظه عنه، ورسخ في ذهنه أن هذا الدعاء، وفيه توسل بالأولياء والصالحين، سريع الإجابة، عظيم التأثير. أذن فليدع الله. وسرعان ما قفز الشيخ فشمر عن ساعديه، فليتوضأ، وها هو ذا قد توضأ، وتوجه إلى القبلة، يصلي، فلما فرغ من صلاته رفع يديه، والدنيا سكون واخذ يدعو. وفرغ من دعائه، وانتظر قليلاً ولكن المعول ما يزال يهدمبين ضلوعه، والعفريت ما يزال يهمس في أذنه، والانقباض يغمر نفسه، والكآبة تشع حوله.

وجهد أن ينام مرة ثالثة، وأغفى إغفاءة قصيرة، وما لبث أن هب من فراشه، وقد عزم على أمر.

لقد ارتدى معطفه الممزق، ودلف برفق، بخطوات وئيدة نحو الصندوق الخشبي الصغير، لئلا تستيقظ زوجته وأولاده. ودس يده الراجفة في جيبه، فأخرج مفتاحاً صغيراً، فتح به الصندوق بهدوء.

لبث الشيخ لحظة مشدوهاً، وعيناه عالقتان بالصندوق تلمعان. ثم غاص بيده فيه، فاخذ صرة صغيرة بيد راعشة، وقلب راجف، وانتفض كالهر فهرول نحو الباب، تاركاً الحوائج مبعثرة، والصندوق مفتوحاً.

شار الشيخ مثقل الرأس، يحمل همه على كتفيه. يسرع الخطو تارة، يبطيء أخرى. وكان الهواء الثائر قد هدأ عصفه وخف زئيره، فلا تسمع سوى أنات النسيم الرقيقة يبثها فوق ورق الزعرور. . . وكانت السماء موشاة بغيوم متناثرات هنا وهناك. وقد ظهر القمر شاحباً يترنح بين الغيوم، كأنه ثمل أو سكران. . وكانت القرية مغمورة بكآبة نشرها عليها ضوء القمر الشاحب. وكان الشيح يمشي هو ساهم يترنح. ولم ينس أن يبتعد عن مخفر الحارس لئلا يقبض عليه. لقد تمثل في خاطره كيف ساقوه إلى الحاكم لأنه سرق دراهم جاره الغني، وكيف اقسم انه لم يسرق، لئلا يفتضح وقد شاب رأسه. وذكر ما أصابه منذ انفتل راجعاً إلى داره يحمل لأولاده لقيمات. وكان يخيل اليه، وهو يمشي، أن تلك الأنات التي ترسلها النسمات معناها (الدراهم) أما تلك الأشجار المنتصبة في الفضاء فهي أشباح، أو أناس يترصدونه لقبضوا عليه جزاء يمينه الغموس التي حلفها اليوم. وخامره خوف شديد لا عهد له به من قبل.

فكان يقشعر بدنه كلما ظهرت أمامه شجرة من وراء المنعرج، أو من يمين الطريق، كأنها الشبح. فإذا ما تبينها تنفس الصعداء وأحس كأن ماء حاراً صب فوقه، فيرفض جسمه عرقاً. ثم يعاود سيره بجد، ويلتفت من حين إلى حين يمنة ويسرة، ينظر أيتبعه احد، ثم يحدق أمامه ليطمئن إلى طريقه الطويلة. وينظر إلى الأحجار المبعثرة على جنبات الطريق، التي تبدو كأنها جماجم الموتى، تلمع، وهي صلعاء، تحت ضوء القمر.

وخرج الشيخ من القرية وابتعد عنها، وبلغ داراً كبيرة منعزلة قامت على رابية، وطرق سمعه أصوات عربدة تصدر من الدار فتقدم من نافذة الدار. فرأى النور يتدفق منها، فساءل نفسه، لم ينهره الحارس إذا رأى النور في عليته، ويسمح للحاكم أن ينير غرفته؟ ثم حدق في ثقب من النافذة، فرأى مائدة حفلت باللحوم والأطعمة والأشربة. ورأى الحاكم، وقائد الجند يكرعون الشراب كرعاً، ويلتهمون اللحم التهاماً، فأرتد بصره، وذرف دمعة، وصعد حسرة.

وتعالت أصوات المعربدين، لقد حار في أمره، انه ننا قائد الجند الفظ الغليظ، ذو العصا الضخمة. . . ولئن طرق الباب، فانه ليخاف عصاه، وهو يخشى أن ينهره الحاكم، أو يسلمه للجند. انه الحاكم، لا يخيفه أحد، ولا يحفل بإنسان.

وهجمت على رأسه فكر سود كالخفافيش، فذهل. ونبهه همس ناعم. وخفق قلبه. وهم أن يعود. فارتجف، واصطكت ركبتاه خوفاً من العفريت الذي يرافقه، والذي سيلقاه في غرفته، والذي سيؤنبه على السرقة، ويلحف عليه برد الدراهم، ففضل أن يضربه القائد آلف ضربة، وان ينهره الحاكم آلف مرة، على وخزات العفريت، ولسعات الضمير.

وتقدم من الباب، ومد يده المرتجفة، فدقه دقات ضعيفة، وقلبه يخفق.

لم يسمع الشيخ جواباً، فلقد كانت عربدات السامرين تحول دون سماع دقات الباب، فأعاد طرق الباب مثنى وثلاث، وفجأة هدأت الأصوات، وسمع صوت ينادي فيشق سكون الليل:

مين؟

فتلعثم الشيخ. . وعاد الصوت يسأل:

مين. .؟

فنادى الشيخ:

أنا. . أنا.

من أنت؟. .

واقترب الصوت. .

إنها جريمة، لابد. . أوف! في النهار شغل، وفي الليل شغل. . . وفتح الباب، وظهر الحاكم، ومن رائه القائد.

واخذ الحاكم يحدق في الشيخ، ولقد حسبه خادمه احمد:

احمد. . شو، في جناية. . مين مقتول. . مين. . وقال القائد وهو يتلعثم:

قبضتم على القاتل. . هو في السجن طبعاً. . مرحى. . أهرب؟. . لا. . لا. .

وارتبك الشيخ وقال:

لا. . آنا الشيخ جاسم:

وحدق فيه الحاكم وقال:

جاسم؟

نعم، جاسم، الذي اخذ الدراهم. .

ومسح الحاكم عينيه بكفيه وقال:

معك دراهم المقتول؟ كيف أخذتها. . اقبضوا عليه. . .

وردد القائد:

هيا. . اقبضوا عليه. .

واضطربالشيخ. والتفت حوله. . ولكن لم يتقدم أحد لقبض عليه. .

وعاد الشيخ يقول:

أنا الذي أقسمت اليوم يمنياً، إنها يمين كاذبة. أنا الذي سرقت الدراهم. . لقد جئتك بها، والعفريت يتبعني، يضرب في قلبي. خذها. . يا سيدي. . افضل أن اجوع، ولا أتعذب خذها. . لا أريدها!

ورمى الشيخ بالصرة، وانفتل يهرول. .

وقهقه القائد، وهو يقول:

رزق جديد. . هو لا يأخذها؟ هه. . . نحن نأخذها. . هات، هات. .

وابتعد الشيخ عن الدار. فنظر إلى الارض، والسماء، ونظر أمامه وخلفه، وعن يمنيه وعن شماله. انه لا يسمع ألان شيئاً. قلبه لا يخفق كذا قبل، وكأن جبالاً رفعت عن كتفيه وأحس بالنسيم اللطيف يدغدغ رئتيه. . . ورأى القمر كألطف ما يكون. لقد تغير كل شيء، وها هو ذا يبتسم، رغماً منه لقد أحس بالفرح، فانطلق يسرع في مشيه وهو يتمتم:

آه. . لقد استرحت. . الآن أنا سعيد!

(دمشق)

صلاح الدين المنجد