مجلة الرسالة/العدد 678/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 678/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 07 - 1946



سقطت في الانتخابات. . .

تأليف الأستاذ حنفي محمود جمعه

بقلم الأستاذ صديق شيبوب

لا أدري، أأواسي الأستاذ حنفي محمود جمعه لفشله في الانتخابات أم أهنئه لأجله. أما المؤاساة فللجهد الذي بذله ولم يثمر، وللمال الذي أنفقه ولم يفد، وللآمال التي عقدها حينا فتبددت. وأما التهنئة فلأنه خرج من المعركة الانتخابية التي خاض غمارها في أواخر سنة 1944 بكتابه الناجح (سقطت في الانتخابات) ولولا فشله في تلك الانتخابات لما كتبه، فلعله كان يتحرج من كشف النقاب عن دخائلها، وعما يجري فيها من أمور مخالفة للقانون، وعن الوسائل التي يتذرع بها المرشحون للفوز، وعن الوسطاء من المرتزقة الذين ينتهزون الفرصة ليبتزوا المرشح. وعن الناخبين من الجهال الذين يتقاضون ثمن أصواتهم، وعن رؤساء النقابات ومشايخ الحارات الذين يقدمون عددا معينا من الناخبين. . إلى غير ذلك مما تجده مفصلا في الكتاب.

وقد عرف الأستاذ حنفي محمود جمعه كيف ينسق الحوادث وكيف يرويها حينا في سذاجة مقصودة، وكيف يحللها أحيانا في تفكير صحيح مستقيم، وكيف يستخلص طورا العظات البالغة من تقلباتها، وكيف يترك طورا للقارئ أن يتولى بنفسه استخلاص تلك العظات.

والحق أن الكتاب ملئ بالدروس القيمة التي يجب أن نتدبرها لأنه يعالج ناحية هامة من حياتنا القومية، ويقدم صورة ملموسة للانتخابات التي تجري بين ظهرانينا، ويصف العوامل المحلية التي تؤثر فيها. ولا شك أن العوامل التي تؤثر في الانتخابات متعددة الوجوه متبدلة الأنواع، تختلف باختلاف البيئات والبلدان والشعوب.

ويكفي أن نعرف أنها عند جميع الأمم تكلف مبالغ باهظة من المال لنقدر تلك العوامل الكثيرة، فالإعلانات والحفلات والرحلات وما إليها من أنواع الدعايات التي تستدعي نفقات طائلة لا يستطيع أن يتكبدها جميع الناس أو جميع الأحزاب.

فإذا تجاوزنا هذه العوامل المادية إلى العوامل الأدبية والاجتماعية اضطرنا الحديث إلى التنويه بصفات المرشح التي تجعله محبوبا من ناخبيه مرغوبا فيه، والى الإشارة إلى نفوذه في الدائرة التي يتقدم فيها وعصبيته وجاهه. . كل هذا يحملنا على التقدير بأن الانتخابات التي تبدو حرة لأول وهلة أي أنها حرة من تداخل السلطات الحاكمة وفرض نظرياتها وأغراضها على الناخبين تظل خاضعة لمؤثرات خارجية واسعة النطاق، ولعوامل مختلفة يصعب تحديدها ويجعلنا نعنى في بعض الأحيان بالتفاوت بين النائب وبين المهمة القومية التي يضطلع بها.

فإذا عدنا إلى العوامل المحلية، وجدنا أن بمصر قلما يقبل العقلاء على الانتخاب لسبب ذكره المؤلف، ولا شك أن الوعي القومي يزداد انتباها بنسبة زيادة المتعلمين وأخذهم أنفسهم بالواجب الذي يمليه عليهم هذا الوعي بأن يتقدموا لصناديق الانتخاب، وأن يفهموا أن ذلك فرض قومي لا مناص لمواطن حري بهذا الاسم من تأديته.

ولا أريد أن أطيل الحديث في هذا الباب مما يوحيه كتاب الأستاذ حنفي محمود جمعه، ولكني أردت أن أشير إلى العيوب التهجين تعترض الانتخابات لتداركها وإصلاحها.

فإذا عدنا إلى في الكتاب وجدنا أن الصورة التي يجلوها للحوادث كاملة في مجموعها طيبة التناسق بين أجزائها حتى ليصح أن نقول إن كتاب (سقطت في الانتخابات) قصة من أجمل القصص لا تنقصها قوة البناء وجودة الربط بين الأجزاء ومتانة التأليف. وهو أيضاً قصة من قصص المغامرات فيها الأخذ والرد والكر والفر، والصراحة والحيلة. وفيها تحليل لشخصيات عديدة ممن لقيهم المؤلف، وممن عرضوا عليه خدماتهم، وممن قصد إليهم، وكل هؤلاء من طبقة الشعب، القليل منهم من أنصاف المتعلمين وأغلبهم من الجهال، وفيهم المخلص والماكر والمحتاج، وفيهم ثرى الحرب الجاهل، وفيهم النفعي المتقلب، وفيهم الزعيم الذي يحتاج لممالأة السلطات المحلية لتدعيم نفوذه، وفيهم (الفتوة) الذي ينبغي الشغب، ويدع شجاعته وباسه في خدمة من يدفع ثمنها.

وفي الكتاب صور شتى للتفكير الشعبي الساذج وهو أحيانا تفكير سليم. فهذا أستاذ بمدرسة أهلية يعلم تلاميذه الهتاف بحياة المرشح الذي يؤيده، لأن من عادة الصغار أن يرددوا في منازلهم الأناشيد والهتافات التي تعلموها بالمدرسة، وهكذا يؤثرون على آبائهم وذوي قرابتهم. وكذلك يطوف صبية يوم الانتخابات هاتفين لأحد المرشحين ليؤثروا في الناخبين الأميين الذاهبين إلى الانتخاب فيؤدوا صوتهم للاسم الذي تردد بآذانهم وعلق بأذهانهم في آخر لحظة، وتسير حوادث القصة في لين وهوادة، فمن تفكير في الترشيح، إلى دفع تأمينه، إلى خوض المعركة الانتخابية، وهي معركة كلامية في الخطب التي تلقى، وفكرية في تدبير وسائل الدعاية، ومادية من حيث إنفاق المال وبذله عن سعة، وواقعية من حيث تحدي المزاحمين وإثارة الشغب عليهم وعلى أنصارهم. . إلى غير ذلك مما كان يثور الأستاذ حنفي عليه في دخيلة نفسه، لأنه محام ومن رجال القانون الذي يأبون إلا ما يسيغه، ولكنه كان يضطر مرغما إلى الخروج عليه تحت تأثير أنصاره وردا لحملات منافسيه. ولعله كان يكثر من إلقاء الخطب لأنه قدير عليها بحكم مهنته، وقد شاء أن يتحدى مزاحميه في هذا المضمار، فنشر في الصحف يدعوهم إلى النزال فيه (تعالوا اخطبوا إذا قدرتم واعرضوا معي صحائفكم وما أنتم بقادرين) ولكنه ظهر بعد ذلك أن الأصفر الرنان في تعبير القدماء، وأوراق النقد المتداولة بلغة هذا الزمان، أبلغ حجة وأجلى بيانا من بلاغة المنطق وفصاحة اللسان.

وفي كتاب (سقطت في الانتخابات) غير هذا وذاك من صور سكندرية شعبية بحتة استطاع المؤلف أن يبرزها في الإطار الخليق بها.

هذه العناصر التي عددناها تجعل من كتاب (سقطت في الانتخابات) قصة كاملة كما قلنا، قصة مغامرات واقعية لأنها مستمدة من صميم الحياة، وقد عاش المؤلف حوادثها، وعاش أمثالها غيره من زملائه الذي أنفسهم في الانتخابات. وفي واقع الحياة من المغامرات ما لا يصل إليه خيال القاص البارع.

كان يتراوح في ذهني وأنا أطالع هذا الكتاب ذكرى الجهاد الأدبي الذي حمل رايته بالإسكندرية نفر من الشباب في أوائل عهد (جماعة نشر الثقافة) أي منذ أكثر من اثنتي عشر سنة أو يزيد. وقد تخلف البعض بعد ذلك منصرفين إلى أعمالهم واستمر البعض الآخر بحكم المهنة، وعرف غير هذين الفريقين كيف يوفق بين عمله وبين الاشتغال بالأدب. وكان ولا يزال من هذا الفريق الأخير الأستاذ حنفي محمود جمعه، فهو المحامي الذي تقدر مواهبه دائر القضاء وتظهر مهارته في جلسات المحاكم وهو كذلك الأديب المتمكن الذي كانت له جولات موفقة في الأقصوصة، والذي كانت له مكانته بين زملائه من أعضاء تلك الجماعة. ويعرف أخصاؤه لأنه ظل مخلصا للأدب، وفيا لأصدقائه الأدباء، ولا أدل على ذلك من كتابه: (سقطت في الانتخابات)، الذي تجلى فيه روح الأديب، وإحساسه، ودقة ملاحظته، وصدق حكمه على الناس، والحوادث. وإذا كان من السهل على الإنسان أن يلاحظ الحوادث في دقة وانتباه إذا شاهدها عن كثب مشاهدة الرائي المستقل عنها فانه من أصعب الصعاب أن يحسن الملاحظة، وأن يخلص في الحكم على الحوادث إذا خاض غمارها بنفسه، وكان من أشخاصها أو أبطالها كما يقولون. وفي هذه الحال قلما يستقيم صدق الإحساس ودقة الملاحظة إلا للأديب الذي تعود ذلك أي الذي تعود أن يتجرد من نفسه، ويتخلص من شعوره وأنانيته.

وهذا ما فعله الأستاذ حنفي محمود جمعة في كتابه (سقطت في الانتخابات) فهو يروي ما له وما عليه، ويتندر من نفسه ومن غيره وهو نوع من الفكاهة المستملحة متنقلا في كثير من اللباقة، بين السذاجة والطرافة والبراعة، وبعد: ألم أكن صادقا في حيرتي بين مواساة الصديق الأستاذ حنفي محمود جمعة لفشله في الانتخابات وبين تهنئته لهذا الفشل وقد أفاد الأدب بكتابه الطريف، ونبه إلى نقص في الحياة الاجتماعية والقومية.

أما مواهبه الأدبية، وبراعته الفنية، واطراد أسلوبه وسلاسته، فإنها مزايا ظاهرة يتبينها كل مطالع كتاب (سقطت في الانتخابات) وهو كتاب قيم جدير بالتقدير والثناء.

صديق شيبوب