مجلة الرسالة/العدد 679/شكسبير العاشق
مجلة الرسالة/العدد 679/شكسبير العاشق
للأستاذ يوسف روشا
كان جون شكسبير، والد الشاعر، فلاحا. ويقول بعض الرواة أنه كان جزاراً. وليس ببعيد أن يكون الرجل قد اتخذ هاتين الحرفتين في آن واحد، فقد كان جم النشاط سريع الانسجام لا يحجم عن المغامرة فيما يعرض له من الشئون، فتحسنت حاله بسرعة إذ نراه في سنة 1556 - ولم يمض على وفادته على (ستراد فورد) سوى خمس سنوات - قد ابتاع دارين أنيقتين وانتخب نائبا عن هذه البلدة، ثم قام بعد هذا بقليل بأكبر صفقة في حياته وذلك بزواجه من (ماري أردن) ابنة المزارع الغني، فاستقامت حاله وارتفع في مدة وجيزة من مزارع بسيط إلى مصاف أعيان البلدة.
ولد وليم شكسبير في سنة 1564 ولا يزال اليوم الذي ولد فيه موضوع أخذ ورد، فمنهم من يقول أنه 22أبريل، ومنهم من يزعم أنه 23أبريل، فليس في هذا ما يهم، إنما الذي يعنينا أنه ولد في 1564 وكان الصبي الأول والطفل الثالث لجون وماري شكسبير.
لم يرسل جون ابنه وليم إلى المدرسة إلا عند بلوغه السابعة من عمره. وليس من شك في أن وليم، وما عرف عنه من توقد في الذهن ونفاذ في البصيرة، كان قد التهم بسهولة ويسر كل ما تلقاه في مدرسته، وليس هذا الذي تلقاه مما يغني، ذلك أنه لم يكن يتعدى النحو وشيئاً قليلا جدا من اليونانية واللاتينية اللتين لم يتقدم فيهما تقدما ملموساً، حتى أن (بن جونسن) وقد كان معاصراً للشاعر، قال عنه مرة إن معرفة شكسبير باللاتينية قليلة وًقل منها معرفته باليونانية.
على أن حالة الأب المالية أخذت في التدهور حتى اضطر آخر الأمر إلى إخراج كافة أبنائه من المدرسة.
لا نعرف شيئاً عما كان يفعله الشاعر من الثالثة عشرة إلى الثامنة عشرة من عمره، وأغلب الظن أنه كان يساعد أباه في مهنته كجزار، إلا أن سوء الحظ لازم جون شكسبير، فأخذ ينحدر رويداً رويداً إلى هاوية الإفلاس والفقر المدقع، فساءت أخلاق وليم وانضم إلى جماعة من الأشرار يسرقون الغزلان من حدائق الأغنياء.!
ولكن اقتحام الحدائق واختطاف الغزلان لا يعدان شيئا بجانب ما كان يقوم به وليم من غزواته الغرامية، فقد وجه سهامه، وهو لا يزال في الثامنة عشرة من عمره إلى فؤاد (آن هاتوي) ابنة فلاح، فصادها!
كان وليم مشبوب العاطفة، زير نساء، كما تدل عليه أشعاره وخاصة قصيدته (فينوس وأدونيس). ومن المؤكد أنه لم يقصد من مغازلة (آن) سوى العبث وإشباع الشهوة، ذلك أنه لم يكن يحبها، كما تبين فيما بعد، ولكن المسألة تطورت وأرغم آخر الأمر على أن يتزوجها.
كانت (آن) تكبره بثماني سنوات، وبعد ستة اشهر من زواجها وضعت له صبية اسماها (سوزان) ولا ريب أن هذا هو السبب الذي من أجله أرغم وليم على الزواج.
على أن هذا الزواج كان نكبة على الشاعر ونعمة على الأدب الإنكليزي خاصة والأدب العالمي عامة.
ذلك أنه لو لم يتزوج (آن) هذه لما نزح إلى لندن ولما عرف تلك الفتاة ذات الشعر الناعم والحاجبين الأسودين التي جرعته الصاب والعلقم، والتي من أجلها أخذ يخرج تلك الروائع الخالدات، ينفث فيها سمه، وينفس بها عن كربه.
لقد كان وليم، كما أسلفنا، زير نساء، لا يكف عن رمي شباكه هنا وهناك لاصطياد الكواعب، وكانت (آن) زوجته شديدة الغيرة، شكسة الطبع، فكان الخلاف بينهما يتسع والحالة تزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
إن غلمته العارمة ورعونته الهوجاء هما اللتان ورطتاه وقيدتاه بهذه الأنشوطة فلا مناص له الآن إلا أن يقطع الحبل. لقد كان عليه أن يختار أحد أمرين، إما أن يكون مخلصاً لطبيعته وفنه، وإما أن يذعن لعرف المجتمع وواجبه؛ فاختار الأول وفر إلى لندن، ولقد عاد هذا الاختيار على العالم بأكبر فائدة.
ولقد حاول الشاعر أن يعتذر عن هذه الزلة بهذا البيت:
(الحب طفل غرير ليس يدري ما الضمير)
لا نريد أن نقف طويلا لنتبع خطوات شكسبير في لندن مخافة أن يطول بنا الكلام فيلهينا عما نحن بصدده. يقول الرواة إن أول عمل قام به الشاعر عند هبوطه على لندن هو إمساك الجياد عند أبواب المسرح مقابل جعل، ثم تدرج قليلا قليلا إلى أن اصبح ممثلا ومؤلفاً للمسرح.
يذهب (فرانك هارس)، الناقد الإنكليزي الشهير إلى أن حياة شكسبير في لندن حتى سنة 1597 - السنة التي تعرف فيها إلى (ماري فتون) - كانت سعيدة إلى حد ما على الرغم من هذه السحابة القاتمة المتغلغلة في نفسه. لقد كان، وهو في الثالثة والثلاثين من عمره أعظم شاعر ومؤلف للمسرح أنجبه التاريخ، وكانت أواصر الصداقة تربطه مع (الايرل أوف ساوثمتن) واللورد هربرت (بمبروك)، وهما شابان أرستقراطيان عريقان في المجد، وهذان قرباه إلى القصر.
ومن طريف ما يذكر إن الملكة (اليزابيث) شاهدت مرة رواية (الملك هنري الرابع) فأعجبت (بفلستاف)، تلك الشخصية الجذابة المرحة، فأوعزت إلى شكسبير رغبتها في أن ترى (فولستاف) عاشقاً قد تيمه الحب. فنزولا على رغبتها أخرج شكسبير في مدة لا تتجاوز الأسبوع مسرحيته (زوجات وندسور المرحات) فكان نصيبها الفشل، ذلك لأن الفن العالي لا يخضع للمؤثرات الخارجية ولا يصدر إلا من منبع واحد هو وحي الفنان!
والآن من هذه السيدة (ماري فتون) التي سيطرت على فؤاد الشاعر وأضرمت فيه نار الحب؟ أنها وصيفة الملكة (اليزابيث)، في التاسعة عشرة من عمرها ومن عائلة عريقة في المجد. لقد وصفها شكسبير بأنها امرأة لا كالنساء، فارعة القوام، شاحبة اللون، عيناها وحاجباها سوداوان، غجرية الطبع، متغطرسة، متمردة خليعة، من أرومة عريقة في المجد وصاحبة مركز رفيع.
هذه هي المرأة التي جن بها الشاعر، فما هي صفات شكسبير ومؤهلاته حين ذاك؟
لقد كان في الرابعة والثلاثين من عمره، ضعيف البنية، محطم الأعصاب، خجولا، فقيراً، شاعراً. ولكن أغلبية الشعب في ذلك العصر، عصر البطولة الجسمية، لم تكن تحفل بالشعر والشعراء، وكانت تفضل مصارعة الديكة على أية تحفة في الفن والأدب.
لذلك لم يجد شكسبير من نفسه الشجاعة لبث هواه اللاعج لحبيبته بنفسه، فرجا صديقه (اللورد هربرت) أن يقوم عنه بهذه المهمة فقبل، ولكن (ماري فتون) تشبثت باللورد الشاب الوسيم وبادلها هو أيضاً الحب وخلفا الشاعر يندب الصداقة والوفاء.
على أن شكسبير لم تخمد جذوته بل زاد وجده ضراما على مر الأيام.، فما انفك يصب جام غضبه على العاشقين في مسرحياته وقصائده، يصرح حيناً ويلمح أحياناً. ففي مسرحيته جعجعة ولا طحن يذكر الحادثة بصورة جلية على لسان (كلوديو) ناصحا للعشاق ومحذرا لهم من الوقوع فيما وقع هو فيه إذ يقول: (حقاً إن الأمير يبثها غرامه ويستهويها لنفسه. إن دعائم الصداقة تكون ثابتة متينة في كل شيء ما عدا أمور الحب؛ فنصيحتي للمحبين ألا يتخذوا وسيطاً بينهم وبين من يحبون، بل ليبثوا غرامهم بأنفسهم، ذلك لأن الجمال نوع من السحر لا تلبث الأمانة أن تزول أمامه وتتلاشى).
ولقد تشتد بالشاعر الأزمة ويضيق (بماري) ذرعه ويرعد ويزيد مهددا إياها بأنه سيهجوها أقذع الهجاء وأقساه؛ ولكن فاته أن امرأة (كماري فتون)، التي كانت تلد نغلا بعد نغل دون ما حياء أو خجل، لا يهمها ما يكتب عنها بعد ما ذاع أمرها بين الملأ، وأغلب الظن أنها كانت تقابل التهديد بشيء غير قليل من السخرية والاستخفاف.
إذا أردت أن تعرف رأي شكسبير في (ماري فتون) هذه فما عليك إلا أن تقرا مسرحيته (أنطونيو وكليوباترة) فما (أنطونيو) سوى شكسبير وما (كليوباترة) سوى (ماري فتون) وإليك البيان.
(أنطونيو): إن مكرها لا يكاد أن يتصوره عقل إنسان.
(أنوبربس): مهلا سيدي لا تقل هذا. إن عواطفها لمن أنبل العواطف وان حبها لصاف نقي لا تشوبه أية شائبة
(أنطونيو): لكم وددت إني لم أراها قط.
(أنوبربس): ولكن تكون في تلك الحالة يا سيدي قد فاتتك قطعة من الفن مدهشة؛ وتصبح رحلتك بدونها جافة عقيمة بهذه الأسطر الوجيزة عبر لنا شكسبير عن رأيه في (ماري فتون). أنها شر لا بد منه
ثم يصيح على لسان (أنطونيو) والحسرة تكاد تمزق أحشاؤه (إلى أين قادتني مصر؟)
إلى الهاوية ولا ريب.
كان ذلك في 1608 وكان قد مضى على تعرفه (بماري فتون) إحدى عشرة سنة، ذاق في أثناءها الأمرين، فانطوى على نفسه، وأخذ يخرج تلك المآسي الرائعة، حتى وهن جسمه، وانهدت أعصابه، ونال منه الإعياء فانسحب إلى (ستراتفورد)، مسقط رأسه، ليقضي ما تبقى من حياته القصيرة تحت عناية ابنته ورعايتها.
(بغداد)
يوسف روشا