مجلة الرسالة/العدد 68/إلى الفردوسي

مجلة الرسالة/العدد 68/إلى الفردوسي

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 10 - 1934



أتينا محتفلين

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

(ذهب شاعر الفراتين ممثلاً للأدب العراقي في الاحتفال الألفي بالفردوسي، فألقى على قبر الشاعر الخالد هذه القصيدة الخالدة)

1

أنت في شعرٍ كان فتحاً مبينا ... واحدٌ من أولئك الخالدينا

بعد ألفٍ من السنين أتينا ... بك يا فردوسيّ محتفلينا

وإلى قبرك الذي فيه تغفو ... نحمل الورد الغضّ والياسمينا

ولو أن الإحداث ألفى مساغا ... جعل القوم حجّ قبرك دينا

لك في تأريخ الملوك كتابٌ ... يحمل الوحي والهدى واليقينا

قمت في نظمه ثلاثين عاما ... ثم لم تسأم طول تلك السنينا

حزت حينا تجلّةً واحتراما ... وتألمتَ للمصائب حينا

2

شاعرٌ أنت جامعٌ للمزايا ... خالدٌ لا تدنو إليك المنايا

أنت في دولة البيان بحقٍ ... ملكٌ ذو عرشٍ ونحن الرعايا

جاء ما قد نظمته من كتاب ... تحفةً فارسيةً للبرايا

ولقد أهديت الكتاب إلى مَن ... لم يكن ذا علم بقدر الهدايا

وألمّت بك الرزايا ولكن ... أنت ما كنت عابئاً بالرزايا

يا إمام القريض بعدك فينا ... نفد الشعر الجزل إلا بقايا

قد طلبنا التحرير للشعر حتى ... كثرت في الطلاب منا الضحايا

3

إن ما قد قصصته من حروب ... سوف يبقى تأثيره في القلوب

أنت شمسٌ لها البيان شعاعٌ ... لم تمل في طريقها للغروب ما لإلياذةَ التي حبّرتها ... يد هومير مثلُ ذا الأسلوب

تلك ليلٌ جهمٌ وهذا صباحٌ ... مسفرٌ ما بوجهه من شحوب

كنت تمشي إلى الأمام حثيثا ... بخطىً لم تخلق لغير الوثوب

يهتف اليوم الوافدون من الأقطار أفواجاً باسمك المحبوب

جلّ ما قد نظمته في مزايا ... الفارسيين عن جميع العيوب

4

أنت في شعرك البليغ إمام ... فسلام عليك ثم سلام

حبذا ما نظمتَه من كتاب ... أكبرته الشعوب والأقوام

أنت للشرق شاعرٌ عبقريٌّ ... تتغذى بقوله الأفهام

(لست أدري وليتني كنت أدري) ... أهو السحر أم هو الإلهام

كنت للناس كوكباً ذا بهاء ... أينما ألقى النورَ زال الظلام

في رياض الآداب غرسك يحكى ... شجراً من أثماره الآلام

حُلُماً كان ما أملتَ ولكن ... بعد ألفٍ قد صحّت الأحلام

5

أنت يا من بهرتَ بالشعر عيني ... شاعرُ المشرقين والمغربين

أنت لو تمسك الثريا بأيدٍ ... شعراءٌ، أمسكتَها باليدين

أنت مما تشعّه من ضياء ... يملأ العين، ثالث القمرين

ما كتاب الملوك إلا بلاغ ... من أبي قاسمٍ إلى المَلَوَين

كلما جئت منه أقرأ فصلا ... أسبلت عيني فوقه دمعتين

تحفةٌ من بلاغة وشعورٍ ... قد جَلَتْ ما بخاطري من رَيْن

جمعت بعد أن مضى ألف عامٍ ... بينه لُحمةُ القريض وبيني

6

إن ما ناله الردى من حياتك ... لم ينله للعجز من كلماتك

أنت في شعرك البليغ نبيّ ... وكتاب الملوك من معجزاتك لك فيه بلاغة أدهشتنا ... أي روحٍ نفختَ في أبياتك

كُلُ ما كنا قد نظمناه قبلاً ... نظرةٌ في الحياة من نظراتك

كل ما عندنا من النظم والنث ... ر قبسناه من سنا آياتك

كل ما قلناه في هذه الذك ... رى ثناءً عليك بعضُ صفاتك

قيل لي أنت في حفيرٍ ولكن ... لم أجد في الحفير غيرَ رفاتك

7

قصّرت في تقديرك الآباء ... فتلافت ما فاتها الأبناء

بعد ألفٍ من السنين أقامت ... لك نيروزاً أمةٌ شمّاء

لك يا حجة البلاغة شعرٌ ... عجزت عن تقليده الشعراء

بمصابيح شعرك ازدانت الأر ... ض كما ازدانت بالنجوم السماء

نمّقته يراعةٌ ذات حَوْلٍ ... وبه لوّحت يدٌ بيضاء

وإذا ضِيم الشاعر الحر يوماً ... في بلاد جلاه عنها الإباء

بعد آمالٍ كنّ فيك خيالاً ... فاجأتك الحقيقة السوداء

8

يا كتاب الملوك أنت كتابُ ... فيه للناس حكمةٌ وصواب

خلق الفردوسيّ منك خِضمّاً ... فاض يرغو كما يفيض العُباب

بك للشرق ما اهتدى الشرق فخرٌ ... بك للغرب ما ارتقى إعجاب

بك في أمةٍ قد ازدادت الأخ ... لاق طيبا وازدانت الآداب

معجزاتٌ وراءها معجزاتٌ ... آمنت إعجابا بها الألباب

إنما في الشعر الحقيقة أصلٌ ... والخيالات كلها أثواب

وإذا أنكر النبوغ على الشر ... ق فريقٌ فأنت أنت الجواب

9

الذي لم يقم به الغَزْنَويّ ... قام مستوفيا به البهلويّ

ملكٌ من أرقى الملوك عظيم ... لاسمه في سمع الزمان دويّ ملكٌ بالسياستين خبير ... وله فيهما الطريق السويّ

أخضع الأمة العظيمة بالحسنى فلله عطفه الأبويّ

وإذا قوة الإرادة جلّت ... جلّ فيهم تأثيرها المعنويّ

والذي لا يرى الحقيقة أعمى ... والذي ينكر الرشاد غويّ

إنما اليوم ليس يصلح للمُلْ ... ك على وجه الأرض إلا القويّ

10

إنك السيف في يد الأيام ... قد نضته للحرب أو للسلام

حاقناً للدماء بالمثل منها ... في صدام الأقوام بالأقوام

في يديك القويتين إذا الأمر ... دعا حقّ النقض والإبرام

وإذا ما بدأت يوما بأصلا ... حٍ جديد فالبدء للإتمام

حبذا إيرانٌ وعمرانُ إيرا ... نَ وما في بلادها من نظام

ولقد سرّني كما سرّ غيري ... ما بها من نزاهة الأحكام

زرتُ بالأمس الروضَ أمتِع عيني ... وإذا الورد فيه ذو أكمام

11

أهلُ إيرانَ والحديث شجون ... أمةٌ ما بها يليق السكون

شأنها في التاريخ أكبر شأنٍ ... حبذا في التاريخ تلك الشؤون

وعلى عين الشرق رانَ رقادٌ ... دونه في غير الرجاء المنون

ثم أنحى ينبّه الشرق منه ... مَلِكٌ حدُّ سيفه مسنون

إنه لما قام للمجد يدعو ... شخصت عن بعدٍ إليه العيون

طار بالشعب كله للثريا ... صاعداً لو يكون ما لا يكون

سيعود المجد القديم لإيرا ... نَ فتفضي إلى اليقين الظنون

12

أيها الشعر إنك ابن شعوري ... تغتذي من كآبتي وسروري

حاملاً ضحكة الذي عيشه كا ... ن رغيداً أو دمعةَ الموتور سالماً من ضعفٍ يريبك منه ... خالياً من زوائد وقشور

ليس شعراً ما ليس في شعورٌ ... لا يهيج الشعورَ غيرُ الشعور

وإذا الشعر لم تهزّك منه ... روعةٌ فهو جامدٌ كالقبور

إنما الشاعر الموفق يمشي ... من خلودٍ على رقاب الدهور

معجَبٌ بالهزار كل بني الأر ... ض وإن لم يكن سوى عصفور

جميل صدقي الزهاوي