مجلة الرسالة/العدد 68/القصص

مجلة الرسالة/العدد 68/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 10 - 1934



الأم الثانية

للأستاذ محمد سعيد العريان

كم كان نجيب أفندي وفياً لزوجه براً بأسرته؛ إنه لم يكن يسمح لنفسه أن يقضي خارج البيت قليلاً من الوقت لغير عمل؛ فأيان تلتمسه لا تجده إلا في الديوان أو في البيت، وفي فترات قليلة كان يجلس إلى أصحابه في النادي يستمع إليهم ويستمعون إليه، ولكنه كان حريصاً كل الحرص على الموعد الذي حدده لعودته إلى حيث يجد في الأنس بزوجه وولديه ما لا يجد جزءاً منه في مكان آخر. لقد كان من طراز غير طراز هؤلاء الكثرة من الرجال الذين لا يعرفون البيت إلا كما يعرفون الفندق أو المطعم، ولا يفهمون من واجبات الأسرة إلا كما يفهم المدين ألح عليه دائنه، ولا من حقوق الزوجة إلا ما تلهمه الغريزة، ولا من بر الوالد أكثر مما يفهم مدير ملجأ اليتامى. .!

ولم يكن يعجب لشيء أو يرثي لأحد عجبه ورثاءه لهؤلاء الذين لا ينفكون يصرحون بالشكوى والألم من متاعب الزوجية وقيود الزواج؛ بل لقد كان يسيء الظن بهؤلاء الشاكين ويرميهم بالحمق وسوء التدبير في سياسة بيوتهم أكثر مما يرثى لهم ويعجب.

ولكن هذه السعادة التي كانت تشرق عليه بالبشر والإيناس، وتعمر صدره بالبهجة وحب الحياة - لم تلبث أن زالت؛ وتبدل البيت من أنسه وحشة، وتحولت ضحكات الفرح والمسرة فيه إلى همسات حزينة باكية، وخيم الظلام الموحش الرهيب. . لقد ماتت زوجه. .!

مَن لهذين الصغيرين يرعاهما ببره، ويسبغ عليهما من عطفه وحنانه ما يعوض عليهما بعض ما فقداه من بر الأم وحنانها؛ مَن لهذه الصغيرة (كريمة) يرتب شعرها ويغني لها في الصباح تلك الأغنية الجميلة التي كانت تدللها بها أمها وهي توقظها في رفق لتذهب مبكرة إلى المدرسة الإلزامية القريبة. ومَن للصغير (صلاح) وما تزال الأرض تجاذبه فما يمشي خطوات إلا معتمداً على الحائط، ثم يتم سيره حبواً على الأربع؛ ومن ذا يقطف من ثغره الزهرة الناظرة حين يبتسم، ويطبع على خده القبلة الناعمة حين يبكي؛ بل من ذا يجيبه حين يحرك شفتيه بالكلمة العزيزة التي لا يعرف غيرها: (أمي!) وقد ماتت أمه. ومن ذ يعوض على نجيب زوجه التي فقد بفقدها نضارة عيشه، وبهجة حياته، وأنس أليفه، وأم ولديه. .؟ إنه ما يزال يذكر ذلك الحديث القصير بينه وبين كريمته غداة حملوا أمها إلى حيث لا تراها، فتسأله:

- أبي، أين أمي؟

- أمك عند أبيها يا كريمة.

- لقد كنت أظنها عند الطبيب، وأين أبوها؟ إنني لا أعرف بيته

- أبوها هناك. في مكان بعيد لا تعرفينه ولا أريد أن تعرفيه.

- ولماذا لم تأخذني معها، لقد غابت كثيراً فمتى تعود؟!

وأخفى الرجل دمعة تنحدر على خده، وأطبق فمه أن تفلت منه زفرة محبوسة؛ وقام يستحث الخادم على إعداد الطعام. . لقد ترك هذا الحديث في نفس نجيب أثراً عميقاً كان عسيراً عليه أن ينساه، وكان أليماً أن يذكره؛ وكلما أحس أن ابنته توشك أن تعود إلى مثله أسرع يقص عليها حكاية مسلية، أو يروي نادرة مضحكة ليصرفها عن الحديث. .

وأنس الصغيران إلى أبيهما، ومرت يد الزمن رفيقة على رأسيهما فمحت منهما تلك الذكريات عن صاحبة الوجه الجميل التي كانا يدعوانها أمهما إلى قريب. ولكن هذا الزمن لم يستطع بأيامه ولياليه أن يمحو هذه الذكريات وذكريات أخرى عزيزة كان يحتفظ بها نجيب أثراً من ماضيه السعيد.

وكلما مرت الأيام أحس نجيب بالوحشة والفراغ من حوله، وعاد يستذكر الماضي بما فيه، ويقلب حوله عيناً حزينة لا تقع على أثر من آثار ذلك إلا عادت ملأى بالدموع. ومضت خمس سنين وهو يعيش في هذا البيت عزباً يرعى ولديه، ويقوم بأمرهما قيام الأم والأب، تعاونه خادم صغيرة على إعداد الطعام وتنظيف البيت وقضاء حاجات الصغيرين. .

وأتمت كريمة دراستها الأولية والتحقت بمدرسة ابتدائية قريبة من الحي، وأخوها يتأهب لأن يفارق معلم (الكتّاب) وعصاه إلى المدرسة، ونجيب ما يزال على عهده يشعر بالضيق من وحدته، ويتمنى لو يستطيع أن يظفر بزوج تعمر هذه الدار الموحشة، وتعيد إليها بهجة فقدتها منذ عهد طويل، بل تشرق بابتسامتها في وجهه العابث، وتمهد بيدها الناعمة فراشه الخشن، ولكنه. . . ولكنه يحب ولديه ويريد أن يؤثرهما بهذا الحب، وهو يرى أنه ليس في الوجود إلا أم واحدة لكل مخلوق وأب واحد وقد ماتت أمهما! وأنه ليخشى أن يفقدا في سبيل البحث لهما عن أم ثانية - أباهما الواحد؛ يخشى أن تستأثر به زوجه فلا يكون لهما أب ولا أم!

وتعرّف إلى صديق جديد، هو زميله في الديوان، وتوثقت عُرى الودّ بينهما فاطمأن كل منهما إلى صاحبه، وتعاهدا على الوفاء فكانا روحاً في جسدين، واتحدا عاطفة وإحساساً فصارا - كالشخص وخياله - يبتسمان ويقطبان في مرآة.

وعرف (إبراهيم) من حال صاحبه ما نعرف فنصح له أن يتزوج، وعرض عليه أخته زوجاً له وأماً لولديه. . . ومضى شهران زفّت بعدهما (زينب) إلى نجيب، فرأى من أدبها وإشراق طلعتها وحسن معاملتها لولديه - ما أعاد إليه بهجة الشباب. وكأنما تناول القدر مقصاً قطع به ذلك الجزء الباقي من صور الماضي القريب ليصل عهدين كلاهما له من السرور رونق ورواء.

وعاد إليه أنسه، واطمأنت نفسه، واستروح نسيم السعادة وتفيأ ظل الاستقرار، ومضت أشهر.

وقالت له زوجه: (البيت مدرسة الفتاة، فهلا احتجزنا كريمة عن مدرستها تعرف من شئون البيت ما عرفت من فنون العلم، وتجيد في الطهي ورفو الثياب ما تجيد من القراءة ومداعبة القلم؟)

وتريث نجيب قليلاً ثم سمع لكلام زوجه، وبقيت كريمة من اليوم التالي في البيت تستمع إلى دروس جديدة من فن تدبير المنزل، وعرفت كيف تدير الملعقة في القدر، وكيف تقشر البصل وكيف تغسل الأطباق وترتبها على المائدة في نظام جميل. وكانت تفرح حين تكلفها (أمها) إعداد شئ، أو تطلب إليها مرافقة الخادم إلى السوق لقضاء حاجة، ولم يكن يسوءها شئ أكثر مما تسوءها سرعة اتساخ ملابسها الزاهية؛ لأنها كانت تغسلها بنفسها. . وخرجت الخادم مرة فلم تعد؛ لأن زينب طردتها. وقالت لزوجها:

- إن هؤلاء الخادمات لا يحسنّ القيام بشيء غير طلب الأجر، وأكثرهن لا يعرف الأمانة ولا يشكر النعمة؛ فلا تتعجل في اختيار أخرى قد تكون شراً من سابقتها، وسأبحث على مهل عن خادم أمينة لا تضايقنا ما كانت تضايقنا تلك الفتاة الملعونة. . . وأسند عمل الخادم مؤقتاً إلى كريمة، ولكن هذا التوقيت لم يكن إلى نهاية. . .! فلم تعد تلك الفتاة الناضرة التي كانت، وانطفأ بريق عينيها، وذبل خداها، وعلت وجهها غبرة من الحزن كانت تواريه عن أبيها. . . وأخذت تعود إلى رأسها الصغير ذكريات بعيدة مشرقة، تبدو خلف ضباب البعد في فتنة الخيال - ذكريات عن أم أخرى رفيقة كانت دائماً تبتسم في وجهها، وكثيراً ما كانت تحتضنها إلى صدرها وتقبلها وتعنى بنظافتها وراحتها، فتصنع لها اللعب وتشاركها اللعب بها؛ وكانت إذا جاء المساء تروح تحدثها حديثاً عذباً، وتقص عليها حكايات لا تزال تذكر بعضها، فإذا جاء وقت النوم احتوتها بين ذراعيها، ثم لا تستيقظ في الصباح إلا على نغمات من صوتها النديّ الرقيق. أين ذهبت تلك الأم فلم تعد، ومن هذه الأخرى؟ لقد كانت أمها الأولى أرحب صدراً وأوسع عطفاً وأكثر حناناً.! وابتدأت الفتاة تتبرم بما تؤديه من عمل، وابتدأت زينب تشكوها إلى أبيها. وأول مرة سمعتها كريمة من بعيد تحدث أباها عنها ذهبت إلى غرفتها وجلست تبكي، فلم يسأل عنها أحد.

ويوماً عاد صلاح من المدرسة في الصباح، فقد طرده الضابط لقذارته، وانهالت عليه (أمه) توبخهوتشتمه، وتركته منزوياً في جانب من الردهة يبكي حتى عاد أبوه في الظهر. ورفعت إليه الشكوى من (ولده) وتجاهلت أشياء واختلقت أشياء. وغضب الوالد، وهم بالولد يخيفه برفع يده، ووقفت كريمة في الطريق: (أبي، ما هذا؟ إن أخي لم يفعل ذنباً، أمي هي التي تهمله!)

وسقطت يد الرجل بجانبه، لقد رأى كريمة في صورة أخرى، لكأنه لم يسمع صوتها منذ زمن طويل. هذا الصوت الذي تحدثه به لشد ما أثار في نفسه من ألم وأعاد إلى رأسه من ذكريات. ووازن بين صورتي ابنته أمس واليوم؛ صورتها أمس في طفولتها الجميلة وهي جالسة في حجره تعبث بشاربه وتربت بيدها على خده. لقد كانت مثل زهرة تفتحت في الربيع تتألق في حسن وتفوح بعطر - وصورتها اليوم! ماذا تلبس؟ إنها ثياب الخادم المطرودة. . . وحوّل وجهه إلى ناحية أخرى فأبصر ولده متجمعاً من خوف في زاوية المكان: صلاح. ووقف الولد يرتعد، وجذبه أبوه برفق، وطأطأ رأسه في ذلة، وانحدرت من عينيه دمعة: ولدي. وتهدج صوته فأمسك عن الكلام؛ وأحست زينب عاصفة توشك أن تنقضّ فانسحبت في هدوء.

لم يتحدث نجيب مع زوجه في شأن العناية بولديه، فقد عرف معنى انسحابها، وأدرك أنها فهمت ما همّ أن يفعله. . . وعادت الحياة في البيت مطمئنة هادئة، فقد غيرت زينب سياستها في معاملة الولدين، ونسي نجيب ما كان، أو كاد.

وليلةً جلسوا على المائدة للعشاء، ومد صلاح يده يتناول قطعة من الفاكهة، فانجذب إليه غطاء المائدة فتلف نظامها وسقط بعض الأطباق على ملابسه وملابس أخته في جواره، وغضب أبوه ونظر إليه نظرة، وتوقفت زينب عن الأكل لحظة تقلب بصرها في نظرات ذات معنى بين الولد وأبيه، وتألم الولد فقام عن المائدة يدعي الشبع، ثم نهضوا جميعاً. ولم يطل بهم السهر تلك الليلة فصحب الرجل زوجه إلى النوم، وترك الولدين يهيئان فراش نومهما في غرفتهما. ولما سكن الصوت قالت زينب:

- نجيب! أرأيت ما فعل صلاح؟ لقد فقدت شهوتي للطعام حين رأيتك متألماً لما فعل، ألا ترى من الخير أن يأكلا وحدهما؟

- زينب! اسكتي. ونهض الرجل إلى الفراش ولكن لم يغمض له جفن، لقد تعاورته أفكار مظلمة، وأخذ يردد النظر بين حاضره وماضيه، لقد كان للأسرة معنى يحس وحدته في قلبه فأصبح لها في مرأى عينيه معنيان؛ في زوجه وولديه. ورجع أدراج الزمن يلاحق ذكريات عزيزة كاد يطمسها البعد الطويل؛ ثم أخذته إغفاءة الفجر، وخرجت له امرأته الأولى من فكره المضطرب وقلبه المتألم - طيفاً يعاتبه؛ وتخلت عنه حجة المعتذر؛ وأغضى حياءً من عنف تأنيب تينك العينين؛ ورأى ولديه يفران في رعب وفزع إلى حيث يلتمسان الأمان في صدر أمهما. وابتسم الطيف في رثاء وألم. . . واستيقظ، فارتدى ملابسه على عجل وخرج مبكراً إلى الديوان.

ووقف إبراهيم أفندي على سر صاحبه، وآلمه من أخته أن تكون على ما وصف زوجها قسوة وغلظة، ولم يخش على عشها أن ينهدم أكثر مما يخشى على ما بينه وبين صديقه من ود أن تنفصم عروته، وينحل وثاقه، ويعبث في عقدة الإخلاص منه إصبع الشيطان أو إصبع امرأة. . . ودبرا أمراً وافترقا على ميعاد.

في عصر ذلك اليوم دعا نجيب زوجه إلى نزهة، فركبا سيارة إلى بيت أخيها حيث استودعها نجيب إلى أن يعود. وأبدى إبراهيم لمقدمها شعور مرتاح وهو يخفي الغيظ في صدره، وتعلق بها أولاد أخيها يتجاذبون ثوبها في سرور ظاهر، واستقبلتها زوجه بقبلة وداد وعناق مشتاق؛ واستدارت بهم حلقة يتناولون من كل حديث طرفاً، ويتبادلون شتى ذكريات أمس وأنباء اليوم وآمال الغد:

منذ أشهر لم تطأ زينب عتبة هذه الدار؛ منذ فارقتها إلى بيت زوجها تعترك في رأسها أحلام، وتصطرع في نفسها عواطف، وتعبث بطمأنينتها رهبة، وتتحرك في دمها غريزة امرأة، ترى ماذا تحقق من أحلامها وما أخفق وماذا تسعى إليه بعد، وأي حاليها كانت خيراً: حالها الآن وقد أصبحت ربة بيت وصاحبة أمر وسلطان، أم حالها أمس في تلك الغرفة من بيت أخيها ريانة شبعانة كاسية، ثم حسبها مما وراء ذلك من سعادة العيش أحلام لا تولد إلا في الظلام فلا تعيش تحت الشمس؟

وانتهت تأملاتها وقد زحف الظلام ولم يعد نجيب؛ ترى أي جليل من الأمر تلكأ به وهو الوفي إذا وعد! وهتف نفسها إليه، وهتف باسمه الشوق، وتحدثت إليه المنى: متى يعود.؟ ومد الليل رواقه ولم يعد، وراحت تتناهبها الأفكار، وتنوشها الهواجس، وتعبث بلبها مختلف الخواطر، وذكرت موقفها من ولديه أمس وموقفه، وخشيت أن يكون به ألم من بعض ما فعلت يريد أن يعاقبها عليه. . .

وكأن لم يكن لها عهد بالأكل على مائدة أخيها فجلست تقلب بصرها في أنواع الطعام وفي وجوه الآكلين، لا تكاد تمد يدها أو تحرك فكيها. وقاموا عن المائدة، ثم أوشك الليل أن ينتصف ولما يعد نجيب. . . وغلبها الخوف والألم، وهمت أن تكاشف أخاها بما في نفسها فلم تفعل، وطوت صدرها على هم متكبر! وقام أخوها يتثاءب فدعاها إلى النوم هناك. . . في الغرفة التي ودعتها منذ أشهر يوم صحت من أحلامها تستقبل الحياة التي طالما تمثلتها وتخيلت أيامها ولياليها في كنف الزوج العزيز. . وسلخت ليلتها لم تنم على جنب واحد، وأقبل الصباح أقبح من ليل داج مخيف. ومضى يوم ويوم وأيام وهي تصبح وتمسي على حال واحدة، وأحست أنها ضيف مملول. وشعرت بالوحشة تكتنفها، واجتمعت عليها الأفكار السود، ولم تستبن في ظلام يومها ما يضمره لها الغد، وأيقنت بما هناك. . . أترى زوجها يقدم على ذلك وهو الذي كانت تعرف من حبه إياها أنه يشق عليه أن يفارقها لحظة، فهل يطيق أن يفارقها إلى الأبد؟ ولكنها لم تحرص على هذا الحب، لقد كانت تطمع أن يكون لها وحدها قلبه، وأن تستأثر بحبه من دون ولديه، ففقدت كل شئ ولم تظفر بشئ!!

وقال لها أخوها وقد جلسوا للطعام:

- لماذا لا تأكلين يا زينب؟ لعلك تخجلين أن تجلسي معنا على المائدة، فلا حرج أن تأكلي وحدك إن كان يحلو لك ذلك؛ وتستطيعين أن تطهي طعامك بيدك إذا أحببت ألا تأكلي من طعامنا. ونظر إلى زوجه ونظرت إليه. وسكتت زينب فلم تجب، ولم تأكل أيضاً، فقد ازدحمت في عينيها الدموع. وقامت عن المائدة فلم يلح عليها أن تجلس كما يلح على زوجه وأولاده حين يفرغون قبله من الطعام. أتراها ثقلت عليهم إلى حد أن يكرهوا أن تأكل معهم من طعام واحد؟ لقد هانت عليهم من قبل، حين أذنوا للخادم أن تسافر لزيارة أمها، وتركوها وحدها تؤدي عملها، فلم يساعدها أحد أو يشكر لها يداً، أي هوان!

وخلت إلى نفسها تبكي وتدفن الزفرات في صدرها، ثم تحصي الزمن وتقدر حساب الغد. لقد طال بها الانتظار ونجيب لما يعد. . ومرت بها من الماضي صورة فذكرت. . لكم كانت قاسية جبارة في معاملة كريمة وصلاح، ما أقبح الجريمة وما أعدل الجزاء! وانحدرت على خدها عبرة الندم. لقد كانت عمياء فأبصرت، واشتملها إحساس عميق بالرثاء والعطف؛ كيف لم تدرك من قبل سوء ما كانت تصنع؟ إنه ذنب الصغيرين، ستكفّر عنه حين تعود، ولكن. . . هل تعود؟

وتركت كبرياءها في الغرفة وخرجت تحدث أخاها:

- إبراهيم، ألم يقابلك نجيب؟

- بلى.

- انه لم يحضر!

- أعرف ذلك!

- وهل تعرف السبب؟

- السبب؟!

وتركها مطأطئة الرأس تبكي في حسرة وندم ومذلة، وراح يخفي علائم الظفر تبدو في أساريره؛ لقد أفلحت الخطة ونجح العلاج.

وحين عاد في المساء كانت زينب لا تزال تبكي. لقد غلت القدر وتوشك أن تنفجر؛ واقترب منها فوضع يده على كتفها؛ ورفعت إليه عينين مخضّلتين بالدموع، واندفع في غير رفق يصب عليها جام غضبه، ويوجه إليها قارص اللوم وعنيف العتاب؛ وراحت تعتذر في كبرياء جريح، وراح يحملها تبعة ما يخشاه؛ يخشى أن يفقد صديقه أكثر مما يخشى أن تفقد زوجها. . . ثم ترك القدر في غليان.

والتقى الصديقان، وقص إبراهيم على صديقه ما سمع وما رأى. . . وجلست زينب تصارع اليأس بالإيمان، وتغالب الحزن بالأمل. ومر يومان ولم يعد إبراهيم إلى التحدث معها في شأن زوجها، ولم يعد نجيب. وغلبها الهم واليأس، واستسلمت للمقادير مؤمنة بأنها إنما تلقى جزاءها العادل. وجاء يوم الجمعة ثالثاً وعاد إبراهيم من الصلاة ومعه ضيف. لقد عاد نجيب بعد طول الغياب!

وجلسوا حول المائدة يتداعون إلى شهي الطعام، ويتبادلون بين اللقيمات كلمات قصيرة عذبة. ثم انفضوا عن المائدة يسمرون، إلا نجيباً وزينب؛ لقد ظلا صامتين، ولكن ضمائرهما كانت تتناجى في حديث خافت، وخواطرهما تفترق وتتلاقى.

وفي اليوم التالي حين عادت زينب إلى عشها المهجور كانت أسعد منها يوم قدمت إلى هذا البيت أول مرة عروساً متوجة بالزهر مودعة بالزغاريد. ورأت كريمة (أمها) فأسرعت تسلم عليها في لهفة وشوق، وعلى فمها ابتسامة، وفي نظراتها بشر وفرح وترحيب. وهرول إليها صلاح يتعلق بذراعها ويجذبها إلى الخلف كأنما يخشى أن تهجره ثانية إلى غير لقاء.

لقد استوحش الطفلان لغيبة زينب، فنسيا كل ما كان من قسوتها، لأن قلوب الصغار طاهرة بريئة، لا تمسك العداوة، ولا تذكر السيئة، ودنياها يومها المتجدد. وكأنما أحس الولدان إن المصيبة إن كانت في فقد الأم، فتمامها أن يفقدا شبه الأم!.

ورأت زينب في ترحيب الصغيرين معنى لم تحسه من قبل، وتحركت فيها الأمومة، وتزاحمت في رأسها إحساسات شتى: من الندم، ومن الحب، ومن التأثر بهذا الوفاء. وطفرت من عينيها قطرتان من الدمع تلهبان خديها بأقسى مما يلذع صدرها الندم. واقتربت منها كريمة وعلى شفتيها تساؤل مشفق:

- أمي، أنت تبكين؟ لا يا أمي، لا تبكي لا تبكي. ودفنت رأسها في صدر زينب مختنقة بالعبرات. ووقف صلاح على مقربة، وقد وضع إصبعه على فيه في حيرة ودهش مما يرى. وتحرك في قلب زينب حنين الحب، فمسحت بيدها في رفق وحنان على رأس (ابنتها) وتدانى فم من وجنتين. وأقسمت، وأشهدت ربها، لتكونن من اليوم لهذه الطفولة الوفية - أمهما الثانية.

محمد سعيد العريان