مجلة الرسالة/العدد 680/من حياة اليونان القدماء وطرائف أحاديثهم:
مجلة الرسالة/العدد 680/من حياة اليونان القدماء وطرائف أحاديثهم:
حفلة الشاعر. . .
للأستاذ ماجد فرحان سعيد
(نقلت عن الإنكليزية من كتاب (الحيوانات الخالدة لعظماء الفلاسفة) لمؤلفيه هنري توماس ودانا لي توماس).
أحيا الشاعر الأثيني القديم حفلة ساهرة في بيته، دعا أليها نخبة ممتازة من خيرة أصحابه ليشاركوه سروره بمناسبة فوزه بالجائزة الأولى لروايته التي مثّلت في (الملهى الإغريقي). وكان المدعوون يتناقشون في أحد الموضوعات التي يجدون فيها ألذ متعة أمتع لذة - وهو الحب، فجرب كل واحد بدوره أن يبسط رأيه في معنى هذا الموضوع الشائق.
فاستهل الموضوع بقوله: (الحب أقدم الآلهة ومن اشدها قوة. فهو ذلك القانون الذي يحول الشخص العادي إلى بطل صنديد، لان العاشق يستحي ويربا بنفسه أن يظهر أمام محبوبته بمظهر الجبان الرعديد. ولو قدر لحم أن تجهزوني بجيش من العشاق، لاستطعت أن أدوخ العالم بأسره)
فيوافق على هذا ويزيد عليه قوله: (نعم! ولكن يجب عليك أن تميز بين الحب الأرضي والحب السماوي، اعني أن تميز بين جاذبية جسمين من جهة، وائتلاف روحين من جهة أخرى. أن الحب الجسماني المبتذل، يتخذ أجنحة ويطير عندما تذوي زهرة الشباب. وأما الحب الروحاني الرفيع، فهو سرمدي خالد).
وعندئذ يفاجئنا الشاعر الهزلي اريستو بنظرية طريفة جديدة في الحب، فيقول: (في الأيام القدامى، كان الجنسان متحدين في جسد واحد، وكان هذا الجسد مستديرا كالكرة، مجهزا بأربع أيد وأربع أرجل ووجهين، ينتقل من مكان إلى آخر بسرعة مدهشة، إذ يثب وثبات منقلبة متتابعة. ومع ذلك، كان هؤلاء الناس قوما جبابرة، ليس لطموحهم حد. فلقد رسموا الخطط، ووضعوا التصاميم، كي يتسلقوا أجواء السماوات ويهاجموا الآلهة. ولكن خطرت على بال زيوس خطة غريبة رائعة إذ قال: لنقسم الواحد منهم إلى شطرين، فيكون للشطر نصف القوة، وهكذا نضاعف عدد ضحاياهم. . . وبالفعل شطرهم إلى ذكر وانثى، ومنذ ذلك الحين تولدت في كل من هذين الجنسين رغبة عنيفة في الاتحاد مرة ثانية. وهذ الرغبة الملحة الاتحاد الجنسين هي ما نسميه الحب).
ولقد عرضت بعد هذا التفسير الفكاهي لنظرية الحب تعريفات أخر مشوقة؛ ولكن طلب أخيرا من ضيف الشرف أن يدلي ببعض التعليقات على الموضوع.
فابتدأ سقراط حديثه بهذه التوطئة: (ماذا يمكنني أن أقول بعد أن خلبتني آيات هذه البلاغة الساحرة وأسرت فؤادي؟ لقد تحولت إلى حجر صلد، وأصبت بالعي والحصر. إذ كيف يتسنى لبلاهتي أن تباري مثل هذه الحكمة الرائعة؟!) وبعد أن يرمي عن كاهله هذا العبء الثقيل من (التوطئة السقراطية) التي تتميز بأدبها التهكمي، يتقدم إلى جرح (حكمتهم ببلاهة) على حد تعبيره. فيفند حججهم بعدة أسئلة متتابعة - نقول هذا غير غافلين انه كان عميد المدرسة التي نهجت لنفسها الطريقة الاستجوابية في التعليم.
ثم يعمد إلى اتباع هذه العملية التدميرية بعملية إنشائية من عنده. فيفضي إليهم بالحديث التالي: (الحب هو جوع الروح البشرية إلى الجمال الإلهي. فالعاشق لا يكتفي بوجود الجمال، بل يهفو إليه ويحاول أن يخلقه، ويعمل على تخليده بزرع بذرة الخلود في الجسد البشري. ولهذا السبب يحب كل من الجنسين الآخر، من اجل التناسل وتمديد الزمان إلى الأبدية، وكذلك يحب الأباء أبناءهم لان أرواح الأباء المحبين لا توجد الأبناء فحسب بل توجد شركاء وزملاء وخلفاء في البحث الدائم عن الجمال).
وما هو هذا الجمال الذي نسعى لتخليده بواسطة الحب؟ هو الحكمة والفضيلة والشرف والشجاعة والعدل والأيمان. أو بكلمة جامعة: الجمال هو الصدق؛) والصدق هو الطريق الوحيد الذي يؤدي مباشرة إلى عزته تعالى).
فتشرق وجوه الضيوف تقديرا وعجابا، ويعلو هتافهم استحسانا لما قاله هذا الفيلسوف الحافي، ثم يسترسلون فيما يختص بحفلة المساء، إذ يستهويهم السمر، ويمعنون في شرب الخمر. وما هي إلا دقائق، حتى يحسر الفجر لثامه، فيصيح الديك، ويغادر أكثر الضيوف البيت، ولا يبقى هناك إلا ثلاثة وهم: سقراط وأجاثون وأريستوفانيس فيتناول هؤلاء بنت الحان من كأس كبيرة تدار عليهم واحدا فواحدا، وفي الوقت نفسه سمع سقراط يشرح للشاعرين اللذين أخذ النعاس يراود أعينهما، بأن الكاتب المتفوق في الروايات الهزلية، يجب أن يكون كاتبا متفوقا في المآسي. وبينما هو كذلك، يغفو أريستوفانيس وأجاثون فيضجعهما سقراط بكل هدوء وراحة، ويعب من الكأس للمرة الأخيرة على ذكرى إله الخمر ديونيساس ويذهب لمباشرة عمله اليومي، ألا وهو توزيع الحكمة على أبناء أثينا.
ماجد فرحان سعيد