مجلة الرسالة/العدد 682/من صميم الحياة:

مجلة الرسالة/العدد 682/من صميم الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 07 - 1946



قصة أب. . .!

للأستاذ علي الطنطاوي

(مهداة إلى أخي الأستاذ عبد المنعم خلاف الذي لا يزال يؤمن

بالإنسان. . .!)

(علي)

دخل علىَ امس، بعدما انصرف كتاب الحكمه، ولبست معطفي لأخرج، رجل كبير يسحب رجليه سحبا لا يستطيع أن يمشي من الضعف والكبر. فسلم، ووقف مستندا إلى المكتب وقال:

أني داخل على الله ثم عليك، أريد أن تسمع قصتي، وتحكم لي على من ظلمني.

قلت: تفضل، قل اسمع.

قال: على أن تأذن لي أن اقعد، فو الله لا أطيق الوقوف.

قلت: اقعد، وهل منعك أحد من أن تقعد؟ اقعد يا أخي، فإن الحكومة ما وضعت في دواوينها هذه الكراسي وهذه الأرائك الفخمة إلا ليستريح عليها أمثالك من المراجعين الذين لا يستطيعون الوقوف، ما وضعتها لتجعل من الديوان (قهوة) يؤمها (البطالون. . .) الفارغون، ليشتغل الموظف بحديثهم عن أصحاب المعاملات. . . ويضاحكهم ويساقيهم الشاي والمرطبات، والناس قيام ينتظرون لفتة أو نظرة من ال (بك)!

لا. لسنا نريدها (فارسيه) كسروية في المحكمة الشرعية، فاقعد مستريحا فانه كرسي الدولة، ليس كرسي أبي ولا جدي، وقل ما تريد. . .

قال: احب أن أقص القصة من أو لها، فأرجو أن يسعني صبرك، ولا يضيق بي صدرك، وأنا رجل لا احسن الكلام من أيام شبابي، فكيف بي ألان وقد بلغت هذه السن، ونزلت على المصائب، وركبتني الأمراض. . . ولكني أحسن الصدق ولا أقول إلا حقا. . .

كنت في شبابي رجلا مستورا أغدو من بيتي في حارة (كذا) على دكاني التي أبيع فيه الفجل والباذنجان والعنب، وما يكون من خضر الموسم وثمراته، فاربح قروشا معدودات اشتري بها خبزي ولحمي، واخذ ما فضل عندي من الخضر فيطبخه (أهل البيت) ونأكله وننام حامدين ربنا على نعمائه، لا نحمل هما ولا نفكر في غد، ولا صلة لنا بالناس ولا بالحكومة، ولا نطالب أحدا بشيء ولا يطلب منا شيئا. ولم اكن متعلما ولا قعدت في المدرسة، ولكني كنت أعرف كيف اصلي فرضي، وأحسب دراهمي. . . ولقد عشت هذا العمر كله ولم أغش ولم أسرق ولم اربح إلا الربح الحلال، وما كان ينغص حياتي إلا انه ليس لي ولد، فجربنا الوسائل وسألنا القابلات ولم يكن في حارتنا طبيب ولم نحتج إليه. فقد كان لنا في طب (حسو العطار) وزهوراته وحشائشه ما يغنينا عن الطبيب والصيدلي. وإذا احتجنا إلى خلع ضرس فعندنا الحلاق، أما أمراض النساء فمرد أمرها إلى القابلة، ورحم الله أم عبد النافع قابلة الحارة، فقد لبثت أربعين سنة تولد الحاملات ولم تكن تقرأ ولا تكتب.

أقول إنا سألنا القابلات والعجائز فوصفن لنا الوصفات فاتخذناها، وقصدنا المشايخ فكتبوا لنا التمائم فعلقناها، فلم نستفد شيئا؛ فلم يبق إلا أن ننظر أو ل جمعة في رجب لنقصد (جامع الحنابلة)، فلما جاءت بعثت (أهل البيت) فقرعت حلقة الباب وطلبت حاجتها فنالت طلبها. . . وحملت. . .

وصرت أقوم عنها بالثقيل من أعمال المنزل لأريحها خشية أن تسقط حملها وأكرمها وادللها. وصرنا نعد الأيام والساعات حتى كانت ليلة المخاض فسهرت الليل كله ارقب الوليد، فلما أبتلج الفجر سمعت الضجة وقالت (أم عبد النافع): البشارة يا أبا إبراهيم! جاء الصبي.

ولم أكن أملك إلا ريالا مجيديا واحدا فدفعته إليها.

وقلبنا الصبي في فرش الدلال، أن ضحك ضحكت لنا الحياة، وان بكى تزلزلت لبكائه الدار، وان مرض اسودت أيامنا وتنغص عيشنا. وكلما نما إصبعا كان لنا عيد، وكلما نطق بكلمة جدت لنا فرحة، وصار أن طلب شيئا بذلنا في إجابة مطلبه الروح. . . وبلغ سن المدرسة، فقالت أمه أن الولد قد كبر فماذا نصنع به؟ قلت: أخذه إلى دكاني فيتسلى ويتعلم الصنعة.

قالت: أيكون خضريا؟ قلت: ولم لا؟ أيترفع عن مهنة أبيه؟

قالت: لا والله العظيم! لابد أن ندخله المدرسة مثل عصمه ابن جارنا سموحي بك. أريد أن يصير (مأمورا) في الحكومة فيلبس (البدلة) والطربوش مثل الأفندية. . .

وأصرت إصرارا عجيبا فسايرتها، وأدخلته المدرسة، وصرت أقطع عن فمي وأقدم له ثمن كتبه. فكان الأول في صفه، فاحبه معلموه وقدروه وقدموه. . .

ونجح في الامتحان، ونال الشهادة الابتدائية. فقلت لها: يا امرأة! لقد نال إبراهيم الشهادة، فحسبنا ذلك وحسبه وليدخل الدكان.

قالت يوه! ويلي على الدكان. أضيع مستقبله ودراسته؟! لابد من إدخاله المدرسة الثانوية.

قلت: يا امرأة، من علمك هذه الكلمات؟ ما مستقبله ودراسته؟ أيترفع عن مهنة أبيه وجده؟ قالت: أما سمعت جارتنا أم عصمة كيف تريد أن تحافظ على مستقبل ابنها ودراسته؟ قلت: يا امرأة. اتركي البكوات. . . نحن جماعة عوام مستورون بالبركة، فما لنا وتقليد من ليسوا أمثالنا؟

فولولت وصاحت: ودخل الولد الثانوية، وازدادت التكاليف فكنت أقدمها راضيا. . . ونال البكالوريا.

قلت: وهل بقى شيء؟

قال الولد: نعم يا بابا. أريد أن اذهب إلى أو ربا

قلت: أو ربا؟ وما أو ربا هذه؟!

قال: إلى باريز. . .

قلت: أعوذ بالله! تذهب إلى بلاد الكفار؟ والله العظيم أن هذا لا يكون!

وأصر وأصررت وناصرته امه، فلما رأتني لا ألين، باعت سواري عرسها وأقراطها، وذلك كل ما لها من حلي اتخذتها عدة على الدهر، ودفعت ثمنها إليه على الرغم مني!

وغضبت عليه وقاطعته مدة، فلم أرد على كتبه، ثم رق قلبي وأنت تعلم ما الوالد؟ وصرت أكاتبه واسأله عما يريد. . . فكان يطلب دائما. .

أرسل لي عشرين ليره. . . أرسل لي ثلاثين. . . فكنت أبقى أنا وأمه ليالي بطولها على الخبز القفار أرسل إليه ما يطلب! وكان رفاقه يجيئون في الصيف وهو لا يجيء معهم، فادعوه فيعتذر بكثرة الدروس، وانه لا يحب أن يقطع وقته بالأسفار!

ثم ارتقى فصار يطلب مئة ليرة. . . وزاد به الأمر آخره مرة فطلب ثلاثمئة!

تصور يا سيدي ما ثلاثمئة ليره بالنسبة لخضري تجارته كلها لا يساوي ثمنها عشرين ليره، وربحه في اليوم دون الليرة الواحدة؟ ويا ليته كان يصل إليها في تلك الأيام التي رخصت فيها الأسعار، وقل العمل، وفشت البطالة، ثم انه إذا مرض أو اعتل علة، بات هو وزوجته على الطوى. . . فكتبت إليه بعجزي ونصحته إلا يحاول تقليد رفاقه، فإن أهلهم موسرون ونحن فقراء فكان جوابه برقية مستعجلة بطلب المال حالا!

وإنك تعجب يا سيدي إذا قلت لك أني لم أتلق برقية قبلها في عمري. فلما قرع موزع البريد الباب ودفعها إلى، واخذ إبهام يدي فطبع بها في دفتره، انخرطت كبدي من الخوف، وحسبتها دعوة من المحكمة، وتوسلت إليه وبكيت، فضحك الملعون مني وانصرف عني، وبتنا بشر ليلة ما ندري ما نصنع، ولا نعرف القراءة فنقرا ما في هذه الورقة الصفراء، حتى اصبح الله بالصباح ولم يغمض لنا جفن، وخرجت لصلاة الغداة فدفعتها لجارنا عبده أفندي فقراها واخبرني الخبر، ونصحني أن أرسل المبلغ، فلعل الولد في ورطه وهو محتاج إليه!

فبعت داري بنصف ثمنها، أتسمع يا سيدي؟ بعت الدار بمئتي ليره وهي كل ما املك في هذه الدنيا، واستدنت الباقي من مراب يهودي دلوني عليه بربا تسعة قروش عن كل ليره في الشهر، أي إن المئة تصير في أخر السنة وثمانية! وبعثت بذلك إليه وخبرته أني قد أفلست!

وانقطعت عني كتبه بعد ذلك ثلاث سنوات، ولم يجب على السيل من الرسائل التي بعثت بها إليه!!

ومر على سفره سبع سنين كوامل لم أر وجهه فيها، وبقيت بلا دار، ولا حقني المرابي بالدين، فعجزت عن قضائه، فأقام على الدعوى، وناصرته الحكومة علي لأنه ابرز أو راقا لم ادر ما هي فسألوني: أأنت وضعت بصمة إصبعك في هذه الأوراق؟

قلت: نعم. فحكموا على بان أعطيه ما يريد وإلا فالحبس. وحبست يا سيدي. نعم حبست وبقيت (المرأة) وليس لها إلا الله، فاشتغلت غسالة للناس، وخادمه في البيوت، وشربت كأس الذل حتى الثمالة

ولما خرجت من السجن قال لي رجل من جيراننا: أرأيت ولدك؟ قلت: ولدي؟! بشرك الله بالخير. أين هو؟ قال: ألا تدري يا رجل أم أنت تتجاهل؟ هو موظف كبير في الحكومة ويسكن مع زوجته الفرنسية دارا فخمه في الحي الجديد.

وحملت نفسي وأخذت أمه وذهبنا اليه، وما لنا أمنية في العيش إلا أن نعانقه كما كنا نعانقه صغيرا، ونضمه إلى صدورنا ونشبع قلوبنا منه بعد هذا الغياب الطويل. فلما قرعنا الباب، فتحت الخادمة، فلما رأتنا اشمأزت من هيئتنا، وقالت: ماذا تريدون؟ قلنا: نريد إبراهيم. قالت: إن البك لا يقابل الغرباء في داره، اذهبا إلى الديوان. قلت: غرباء قليلة الأدب؟ أنا أبوه. وهذه أمه.

وسمع ضجتنا فخرج، وقال: ما هذا؟ وخرجت وراءه امرأة فرنسية جميلة

فلما رأته أمه بكت وقالت: إبراهيم حبيبي؟ ومدت يديها وهمت بإلقاء نفسها عليه، فتخلى عنها ونفض مامسته من ثوبه وقال لزوجته كلمة بالفرنساوي، سألنا بعد عن معناها فعلمنا إن معناها (مجانين)!

ودخل وأمر الخادم أن تطردنا. . . فطردتنا يا سيدي من دار ولدنا!

وما زلت اتبعه حتى علقت به مرة فهددني بالقتل إذا ذكرت لأحد أني أبوه وقال لي: ماذا تريد أيها الرجل؟ دراهم؟ أنا اعمل لك راتبا بشرط ألا تزورني ولا تقول انك أبي!!

ورفضت يا سيدي الراتب وعدت استجدي الناس، وعادت أمه تغسل وتخدم حتى عجزنا وأقعدنا الكبر والمرض فجئت أشكو إليك فماذا نصنع؟

فقلت للرجل: خبرني أو لا ما اسم ابنك هذا وما هي وظيفته؟ فنظر ألي عاتبا وقال: أتحب أن يقتلني؟!

قلت: أن الحكم لا يكون إلا بعد دعوى، والدعوى لا تكون إلا بذكر اسمه.

قال: أذن أشكو شكاتي لله.

وقام يجر رجله يائسا. . . حتى خرج ولم يعد!

علي الطنطاوي