مجلة الرسالة/العدد 684/تاريخ جحا. . .

مجلة الرسالة/العدد 684/تاريخ جحا. . .

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 08 - 1946



جحا التركي

للأستاذ كامل كيلاني

- 3 -

الأستاذ نصر الدين

ولد الأستاذ نصر الدين - كما أسلفنا - في (سيوري حصار) إحدى بلاد الأناضول، ومات في (آق شهر) (البلد الأبيض) ونشأ فلاحاً ذكياً يؤثر أن يحطب بيده ويعيش من كد يمينه.

وكان سخي اليد كريم النفس لا يقصر في واجب ضيف ولا يرد عائدا إلى داره من الغرباء والفقراء.

فإذا حذفنا أسماء البلدان فما ندري: أي الجحوين به ذلكم الوصف أكثر التصاقاً، وعلى أيهما كان أكثر انطباقاً، ولكن من يدري؟ فإن قدرة الله تخلق من الشبيه أربعين، كما تخلق من الشخوص الجحوية أربعين.

كان الأستاذ نصر الدين - فيما يقول مؤرخوه - أمة وحده: كان فيما يتمثله بعض مؤرخي الأتراك فيلسوفاً حكيماً يمزج الفكاهة بالجد، ويعرف كيف يخاطب الناس على قدر عقولهم، وكان آية من آيات الذكاء وخفة الروح.

وكثيراً ما تخللت نصائحه طرائف عالية من الدعابات الحلوة والنكات المستعذبة واللطائف المستملحة، ولم يكن كما يتخيله العامة مهرجاً ولا مبتذلاً ولا أبله ولا مخبولاً، ولا - كما توهموه - عاجزاً عن التفريق بين الخير والشر.

وكيف يكون ذلك وقد شهد علماء الأناضول: انه كان لهم في العلم إماما يقتدى به ويهتدى، وعالماً ثبتاً، وقطباً من أقطاب الحكمة والفلسفة.

قالوا:

ولا أدل على ذلك من ذيوع ترجمته وانتشار أخباره وطرائفه المبدعة في بلاد الدنيا كلها، عصراً بعد عصر، وجيلاً بعد جيل حتى وصلت إلى أيدينا متجددة الروعة دون أن تبلى جدتها، أو تخلق ديباجته وكان يحلو له السياحة والتجوال مشياً على قدميه. ولم يعرف عنه ميل إلى التزلف، ولا نزوع إلى الخبث، ولم تؤثر دعابته ونكاته في مكانته الرفيعة بين معاصريه، ولم تقلل من احترام الأهلين له، ومحبتهم إياه.

إلى هنا ينتهي الوصف الذي يصدق على الجحوين: الشيخ أبي الغصين دجين بن ثابت، والأستاذ نصر الدين أفندي. ثم ينفرد ثانيهما بما يأتي:

كان تاريخه الحربي والسياسي - فيما يقولون - حافلاً بجلائل الأعمال. وقد ختم بسفارة رسمية سياسية في بلاد الكرد (كردستان) فنجح فيها أيما نجاح.

ويدل ما بقى في أيدينا من آثاره على انه لقي من ضروب الامتحان، وتعرض لأزمات كثيرة لقيها بثبات وثقة خليقين بأمثاله من كبار النفوس.

وما زال يعلوا في المناصب ويسفل، ويلقى من أسباب السخط والرضى - تبعاً لتقلب الأهواء ما يلقاه أمثاله من الأحرار الصابرين.

وقد ولى القضاء في آق شهر (البلد الأبيض) وملحقاتها. وكان يخطب في (سيوري حصار). وقد عرف عنه انه كان جريئاً لا يتهيب أن يدعوا الأمراء والولاة والحكام إلى طاعة الله والتمسك بأهداب الدين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

وكان يؤم الناس في ولايات (أنقرة) و (بورصة) و (قونية) وما إليها من البلدان وأقرأ ابن السلطان كتاب الهداية ووقفه على دقائقه وجلا له غوامضه.

ولن يؤخذ هذا الرجل الصالح بما فرط منه من زلات في جن نشاطه ومستهل فتوته. فقد اقلع عنها وتم له النسك بعد اكتمال عقله ورجولته وقد ختم حياته بالوعظ وتدريس علوم الدين.

وقد أهلته شجاعته وحكمته ودعابته، وما تحلى به من مواهب وميزات باهرة، وما حاباه الله به من قدرة على اكتناه دقائق الفن والنفاذ إلى مغالق العلم، وما ذاع بين معاصريه من شهرة مستفيضة بين علماء زمنه وحكماء عصره، إلى الظفر بأسمى المناصب، وأتاحت له المثول في حضرة (تيمورلنك) والاتصال به. ومكنت له تلك الأسباب مجتمعة من النجاح فيما هدف له من تلطيف جوره وكف أذاه عن الناس وتخليصهم من كثير من مظالمه.

قالوا: وساعدته على ذلك بديهة حاضرة وكياسة نادرة، ونكتة مستعذبة ودعابة محببة.

وإن مرتاد الأناضول ليدهشه ما يراه من اعتقاد الناس فيه؛ فهو عند الأهلين: من أولياء الله المقربين. وهم يؤمنون بأن زيارة قبره تجلب البركة والخير العميم على زائريه. فإذا شك إنسان في شيء من هذا أصابه أذى أو مكروه جزاء جحوده ونكرانه.

وللأهلين في ذلكم الباب طرائف كثيرة، منها:

(أن مركبة مرت أمام قبره، وعليها هودج معمد (اعني ذا أعمدة). وكان يستقل الهودج أسرة فيها شاب لا يدين بالخرافات. فلم يشأ أن يجري على عادة الأهلين الذين تفرض عليهم التقاليد أن يترجلوا قبل أن يبلغوا قبره، وأن يقرءوا الفاتحة أمامه باسمين وإلا عرضوا أنفسهم لمساءة وشيكة، وربما حلت بهم كارثة عاجلة لا قبل لهم بها، ولا حيلة لهم في دفعها.

قالوا: وأصر الشاب على أن يستهين بهذا التقليد الصالح الذي جرت به العادة هناك. فماذا حدث؟

لم يكد الهودج يسير خطوات قليلة حتى اصطدم فيما يزعمون بفرع شجرة ممدود، فجفلت الخيل وقذفت بأفراد الأسرة على الارض، وتمزقت سجوف الهودج ورفافه.

فلا غرو إذا ثبت اعتقاد الأهلين في بركة الشيخ وقال قائلهم مباهياً:

منذا الذي يجرؤ على احتقار شيخنا، أو الاستخفاف به، بعد اليوم؟

وقد علق على هذه القصة بعض أفاضل الباحثين من الترك، فقال:

(ولا ضير من أمثال هذا الاعتقاد، فإن الاستنجاد بروحانية الأخيار افضل وأجدى مما يرتكبه المنكرون الجاحدون من شرور وحماقات.

قالوا أن عالماً متفقهاً في دينه، سأل زوجته: لماذا لم تكنس البيت؟ فقالت له (ذهبت إلى أمي اليوم، ولم اعد إلا ساعة الغروب) فقال: (لقد مرت ساعتان على ذلك فما بالك لم تكنسيه؟) فصاحت فيه متعجبة: كيف تقول هذا؟ إلا تعلم أن الكنس يحرم متى جن الليل؟) فضرب الرجل كفاً على كف وقال من أين لك هذا العلم أيتها البلهاء؟ أتحبين أن تعلميني ما ادرسه للناس كل يوم في المسجد من شؤون الحرام والحلال؟) فقالت له: (لا شأن لي بعلمك، فكذلك أخبرتني أمي وجدتي، وعمتي وخالتي، وأختي وجارتي، وعلى ذلك الرأي اجمع كل من عرفت) فلما اشتدت اللجاجة بينهما قالت له الزوجة متبرمة: (اكنس أنت إذا شيءت ما دمت لا ترى في ذلك حرجاً)

فأمسك الشيخ بالمكنسة وراح يكنس هازئاً برأي صاحبته متحدياً إياها بين لحظة وأخرى. ولم يكد ينتهي من ذلكم حتى لدغته عقرب فصاح مغوثاً يقول:

(لعله علم وترك)

لعلنا نتعلم من هذه القصة ما يجب على كل رجل من الإذعان لرأي المرأة - ولو كان باطلاً وطاعته طاعة عمياء.

ومن عادة الأهلين السذج في (آق شهر) أن ينظموا الأشعار في أعراسهم بعد أن يذهبوا إلى قبر الأستاذ نصر الدين، ثم يوجهوا الدعوة اليه، وهذا نصها:

(أحضر شيوخك، واحضر من تحب من أصفيائك العلماء).

وليس يجرؤ أحد منهم على مخالفة هذا التقليد: وعندهم:

أن الحياة الزوجية لن تزدهر بين العروسين، ولن يباركها الله إذا غفلوا عن تنفيذ هذا التقليد.

ولا يقتصر المحتفلون على ذلكم، بل يدعون حارس قبره ليكسب حفلتهم بهجة وحبوراً بما يقصه عليهم من ملحه وطرائفه.

حفيد نصر الدين

ومن طريف ما يروى إن بعض حفدته قدم إلى الأستانة مع أسرته، في عهد السلطان مراد الثالث، في القرن العاشر الهجري (982 إلى 1003هـ)، ملتمساً من وزارة الأوقاف أن تقرر له إعانة شهرية يسيرة من المال تمكنه من شراء ما يتبلغ به من القوت. ولم يجد حفيد نصر الدين شيئاً يربط إليه دابته. ثم لم يلبث أن لمحت عيناه طبلاً كبيراً أمام باب الوزارة، يستخدمونه لتنظيم المواعيد، وتوقيت الحضور والانصراف، وما إلى ذلك مما تستخدم فيه الأجراس عادة. فشد صاحبنا دابته إلى ذلكم الطبل بعد أن ضاقت به الحيل في الاهتداء إلى غيره.

وكان في ساحة الوزارة - جمهرة من البغال التي تعدها الدولة - كل عام - للذهاب بما تحمله من مال ورجال إلى الحج. ولم تكد الدابة تستقر حتى ركلت الطبل برجلها - تعمدا أو اتفاقا - فأحدثت ضجة وضوضاء فأجفلت البغال وهربت من الذعر. وشاع الهرج والمرج. وانزعج ولاة الأمر، وبحثوا عن مصدر الصخب ثم ما لبثوا أن اهتدوا إلى أن حفيد نصر الدين هو مصدر الضجة كلها.

وقد كانت تلكم الحادثة وحدها كافية للتعريف بنفسه، فأغنتهم عن التثبت من بنوته، بعد أن رأوا في تصرفه ما يدل على أصالته، وصحة نسبه.

تحقيقات

1 - قبر نصر الدين:

ولا بأس من وقفة قصيرة نستعرض فيها ما انتهى إليه بعض الباحثين في تاريخ الأستاذ نصر الدين إذ يقول:

(ونحن بما انتهت إليه تحقيقاتنا العلمية في بلاد الأناضول وقمنا على كتاب: (السياحة إلى قونية) الذي أهداه ألينا أحد الأفاضل إخواننا (ضيا بك).

وبإطلاعنا على هذه السياحة وجدنا أن للمرحوم قبراً في مقبرة (آق شهر) مكتوباً على شاهدته هذه الجملة:

هذه التربة. المرحوم المغفور له المحتاج إلى رحمة ربه الغفور نصر الدين أفندي روحنا (إلى روحه) فاتحة 386.

2 - تاريخ وفاته:

ثم يقول:

وقد استثار هذا التاريخ دهشتنا لأن نصر الدين لم يمت في ذلك التاريخ، واستدللنا على انه محرف، وان الأرقام قد كتبت معكوسة، وصحتها 83. وقد تبينت صحة ذلك التاريخ من التحقيق المحلى الذي قمت به لأن المرحوم من رجال السلطان اورخان. وقد حكمنا من الشواهد والملابسات إن ما وصلنا إليه من نتيجة هو الصواب لا ذلك الذي كتبوه على شاهدة قبره خطأ. وقد تبين لنا من ذلك الخطأ في التاريخ المثبت على القبر ومن كتابة أرقامه إنها مقلوبة.

ومن عجائب الاتفاق وغرائب الأستاذ أن يقلب تاريخ وفاته على قبره أيضا، وكأنما تعمد كاتبه أن يقلبه ليدل على أن النكتة لا تفارق صاحبنا حيا وميتا.

إلى أن يقول:

(وقد انتهت تحقيقاتنا إلى انه كان - رحمه الله - قد ظهر تقريبا في عهد السلطان (ييلديرم بايزيد) أي (الصاعقة بايزيد).

ومعنى هذا انه عاش في أوائل القرن السابع. وانه عاش ستين عاماً أو يزيد، إلى أن توفى سنة 683 هـ كما يدل على ذلك لوح القبر الذي دفن فيه).

وقد قبست جريدة صدى الأجراس (جينفر اقلي تاتار) الكلمة التالية من كتاب تاريخ النكات (لطائف نويس) وقد ألفه في جزءين عن لطائف نصر الدين، قالت:

كان الأستاذ من رجال المرحوم السلطان ييلدرم بايزيد.

3 - صحبة تيمورلنك:

فإذا عن لنا أن نترفق في مناقشة أقوال هذا المحقق، ونتفهم ما انتهت إليه تحقيقاته العلمية، تعذر علينا أن نجاريه فيما انتهى إليه.

فإذا افترضنا أن التاريخ مقلوب_كما ذهب إلى ذلك صاحبنا وتابعه في رأيه كل من أضفرنا الحظ بقراءة بحوثهم، فكيف نعلل ما حدثنا به ذلكم الباحث نفسه وما حدثنا به جمهور المؤرخين من صحبته للباطش السفاح الطاغية تيمورلنك.

كيف نعلل ذلكم، وقد ولد (تيمورلنك) بمدينة (كيش) - فيما تعلمون في القرن الثامن، إذا صح أن (نصر الدين) مات في القرن السابع.

إذا صح أن تيمورلنك ولد عام 737 هـ فيما يقول التاريخ وان نصر الدين مات عام 683 هـ فكيف التقيا؟ وكيف ونصر الدين لم يدرك مولد الطاغية، بله انتصاره على بايزيد الصاعقة الذي تم له فيما تعلمون واعلم عام 805هـ 1402 م بل كيف لقي (اورخان) وهو لم يل الإمارة فلا عام 726 هـ، أي بعد وفاة (نصر الدين) بثلاثة وأربعين عاما.

لقد مات (اورخان) عام 761هـ، ثم خلفه ابنه مراد الأول (من 761_792 هـ) ثم خلفه بايزيد الأول (792_802 هـ) وانتهى أمره في عام 805 هـ.

كيف نعلل ذلك كله وأخباره مستفيضة مع بايزيد وتيمورلنك!

قالوا: إن جحا بطل محاضراتنا، سمع فقيها يتلو الآية هكذا (فخر عليهم السقف من تحتهم) فانتفض جحا غاضبا، وصرخ فيه متعجبا. (إذا فاتك النص يا هذا فلا يفوتنك الذوق! كيف استقام في ذهنك أن يسقط عليهم السقف من تحت؟ قل من فوقهم لا أبا لك؟

إحدى اثنتين أيها السادة:

أما أن نأخذ بالتاريخ المقلوب، كما أخذ ذلكم المحقق، فننكر صلة نصر الدين ببايزيد بله تيمورلنك!

وأما أن نأخذ برواية من يثبتون لنا مؤكدين انه صحب بايزيد كما صحب تيمورلنك من بعده، فننكر صحة التاريخ المكتوب على القبر طردا وعكسا، ونسقط رأي أولئكم المحققين إثباتا كانوا أم غير إثبات.

فأن كان لا بد من التشبث بالأرقام الثلاثة التي يتألف منها التاريخ المثبت على جدثه وهي 368، فليس لنا مندوحة عن نقل رقم الثمانية من الطرف الأيمن إلى الطرف الأيسر، أعنى: من رقم الآحاد إلى رقم المئات فتصبح حينئذ 836 هـ. وهذا التاريخ

- على أي حال - في حدود الممكنات، إذا استحال علينا الأخذ بالتاريخيين السالفين طردا وعكسا. فإذا أبينا إلا الاسترسال في تحوير الأرقام وتقليبها على كل وجوهها لم يبق أمامنا إلا تحوير واحد، هو آخر ما يتبقى لمن يحلو له أن يتشبث بها، لم يبق إلا تاريخ 863 هـ، وهو كما ترون: أبعد احتمالا من سابقه، وان لم يكن ممعنا في الاستحالة إمعان التاريخ المثبت على القبر مثبتا ومقلوبا، هذا إذا تسمحنا في عمره بأنه لم يعش إلا ستين عاما أو قريبا كما يقول القائلون.

فلو انه عاش مائة عام مثلا لما استحال على الباحث أن يأخذ بهذا التاريخ. على أن خير الأمور الوسط، والاعتدال، كما يقولون، هو: الحسنة بين السيئتين.

من بدائع ما يروى من الطرف في هذا الباب أن متحدثا ممن وهبهم الله_إلى نعمة الغباء والغفلة_عجمة اللسان، قال: (حسن وحسين بنات معاوية بن عفان).

فصاح فيه أحد السامعين متعجبا:

قل لي بأي خطأ في هذه الجملة القصيرة أبدأ تصويبه:

فأول الأشياء هما: (حسن) و (حسين) وليسا (حسنا) ولا (حسينا):

والثاني انهما ليسا من النساء بل من الرجال.

والثالث انهما ليسا جمعا بل مثنى.

والرابع انهما ولدان لا بنتان ولا بنات.

والخامس أن أباهما علي بن أبى طالب لا معاوية.

والسادس أن معاوية بن أبي سفيان لا عفان.

والسابع أن ابن عفان هو عثمان لا معاوية)

وما أكثر ما يتمثل الباحث في تاريخ جحا، هذه الطرفة الرائعة كلما عرض لمناقشة الكثير من أقوال من تصدروا للحديث عنه، في أكثر المناسبات، على اختلاف اللغات.

كامل كيلاني