مجلة الرسالة/العدد 686/أنا والإذاعة. . .

مجلة الرسالة/العدد 686/أنا والإذاعة. . .

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 08 - 1946



للأستاذ علي الطنطاوي

(أذيعت من محطة إذاعة دمشق يوم الأربعاء 15 - 8 -

1946)

أيها السادة:

إني أشكو إليكم القائمين على هذه المحطة، فقد ظلموني وظلموكم معي. جاءوا بي لأحدثكم، فحسبت أني سأدخل نادياً فيه ناس أراهم، فأخاطبهم على قدر عقولهم، فإن كانوا علماء كلمتهم كلام العلماء، وإن كانوا من العامة خاطبتهم خطاب العامة، فإذا هم يصعدون بي درجاً بعد درج حتى إذا كلَّت رجلاي من الصعود، وهممتُ بالرجوع، قالوا: قد وصلنا، فنظرت فإذا نحن في أعلى طبقة من (عمارة البرق والبريد)، فتلفتُّ أنظر أين النادي الذي سأخطب فيه؟ فما عهدت نادياً يبني على رأس مئذنة! وأين الناس؟

وإذا هم يدخلونني من دهليز إلى دهليز، حتى انتهيت إلى زاوية مظلمة، فأشاروا إلى باب، وقالوا: (هُسْ)، إياك أن تتكلم، أو تعطس، أو تسعل، أو تخبط برجلك، أو تدق بيدك، أو تُخَشْخِشْ بأوراقك. .!

فقلت: فكيف إذن أتحدث؟ أتريدون أن يكون حديثي إيماء وإشارة من غير كلام على لغة الخرسان؟

قالوا: لا، ولكن إذا جاء دورك تكلمت

وفتح الباب، ودخلنا إلى غرفة صغيرة كأنها الصندوق المغلق، لا شباك ولا باب ولا نافذة ولا كوّة ولا شقّ لدخول الهواء، ورأيت فيها مكتباً ما عليه إلا علبة قائمة على عمود من الحديد ووراءها مرآة، وقد وقف أمامها شاب يصوّت أصواتاً بعضها يخرج من حلقه وبعضها من صدره وبعضها من بطنه، ويتخلَّع ويتلوّى مع النغمات، وقد يأتي بكلمات يلقيها إلقاء بلا نغم، ووراءه رفاق له يضربون بأعوادهم ويزّمرون، فأجهدت ذهني خمس دقائق كاملات لأعرف ماذا يصنع هذا الرجل: أيغني أو يخطب، أم هو مصروع معتوه يخلِّط، أن يتكلم بلسان أهل مالطة، فلم أهتد إلى حقيقته، ثم سكت، وتقدم من العلبة أحد موظفي المحطة فقال: لقد انتهت الحفلة الموسيقية. . .

فقلت: إذن هي حفلة موسيقية؟!

سبحان القادر على كل شيء!

وأقبل الموظف عليّ، فأشار بيده إلى حيث كان يقف الشاب صاحب الأصوات المخنثة، فقلت: ماذا؟ أأعمل أنا أيضاً حفلة موسيقية؟

قالوا: هسْ! هسْ!

وأدار مفتاحاً كمفتاح الكهرباء، وجعل يكلمني بلسانه بعد أن كان يتكلم بيديه. وقال: تفضل يا أستاذ، أقعد وتكلم!

قلت: أتكلم مع من؟ أين الناس؟ أين المستمعون؟!

قال: تكلم هنا. . . وأشار إلى العلبة

قلت في نفسي: أعوذ بالله من شر هذه الغرفة! لقد حسبتها سجناً مغلقاً، فإذا هي مارستان! أأكلم علبة؟ أمجنون أنا؟ ونظرت في المرآة فوجدت صورتي متغيرة. . . أهذا أنا؟ وأنعمت النظر، فإذا الذي حسبته مرآةً لوحٌ زجاج بيننا وبين الغرفة الأخرى، فنحن نرى من فيها، ولكن لا نسمع أصواتهم، فاجتمعت عليّ هذه الليلة المتناقضات: هنا أشخاص أراهم ولا أسمع أصواتهم، وهنالك صندوق تخرج منه أصوات أسمعها ولا أرى أهلها، وبحثت عن مهرب فلم أجد، وفتشت عن نصير فلم أَلقَهْ، وما حولي إلا شباب جدد، وموسيقيون معهم أعوادهم، وأنا الشيخ. . . الوحيد. . . في هذه العصبة، بعمامتي و. . . وكدت أقول، ولحيتي، ثم ذكرت أني تركت اللحية عند الحلاق. . .!

فاستسلمت للمقادير، وقعدت، والعرق يسيل على عنقي ووجهي، وشرعت أكلم العلبة كالمجانين، خوفاً من أن يحل بي هذه الليلة ما هو أعظم!

نعم. لقد ظلمت، أيها السادة، وظلمتم معي، لأن أكثركم يؤثر (عتاباً) بلدية، أو (قرّادية) نقدية، أو أغنية شاكية باكية، ميتة مميتة، لا شرقية ولا غربية. من أغاني عبد الوهاب على كلُّ ما في الدنيا من محاضرات، ولكنكم تستطيعون أن تديروا مفتاح الرادّ، فتتخلصوا مني ومن محاضرتي، وتبعثوا إليَّ بما يوحيه إليكم نبلكم وكرمكم من الشتائم واللعنات التي لا أسمع منها شيئاً، ولكن المصيبة عليّ أنا، لقد حُبست في مارستان، لا أخرج منه حتى أكلم علبة من حديد ربع ساعة لا تنقص ثانية ولا تزيد!

فلنستعن بالله، ولنتحدث. . .

ولكن خبروني أولاً: هل تسمعون كلامي حقيقة؟!

أما أنا فلا أصدق أنكم تسمعون مني، وكيف يسمع من هو في المهاجرين وحمص وحلب والقاهرة وطهران ما لا يسمعه هذا الأخ الجالس أمامي وراء الزجاج، والذي يبدو عليه أنه لا يدري ماذا أقول، فلا يبتسم، ولا يعبس، ولا يفتح عينيه، ولا يرفع حاجبيه، ولا يصنع شيئاً يدل على أنه سامع، وهذا من نعم الله على، فلو سمعني أتكلم عنه لما نجوت منه بسلام!

فإذا كنتم تسمعون (يا سادة) كلامي، فأشيروا إلي، أو صفقوا، أو قربوا أفواهكم من (الرادّ) وصيحوا - إني انتظرت فلم أسمع صيحتكم، فلم يبق إلا أن أصنع كما صنع زميلنا المحترم (جحا)، حين أذن ونزول من المنارة يعدو، قالوا: إلى أين يا جحا؟ قال: أريد أن الحق صوتي فأنظر إلى أين وصل؟

ولنفرض أنكم سامعون، فعم أحدثكم؟ ومن لي بالحديث الذي يرضيكم جميعاً: العالم منكم وغير العالم، والرجل والمرأة، والكبير والصغير، وأي معلم يستطيع أن يلقي درساً واحداً يفهمه تلميذ المدرسة الأولية وطالب الجامعة ومن بينهما ويرضون عنه ويعجبون به.

لقد فكرت طويلاٌ، وحشدت قوى نفسي كلها، وما تعلمت من علم وما حفظت من مسائل، لآتيكم بحديث يدهشكم حتى تقولوا: ما شاء الله كان! ما هذه المحاضرة؟ شيء عظيم جداً، ولكني لم أستقر على موضوع. . .

قلت: الدنيا الآن في رمضان، وخير الأحاديث حديث الدين، وما أسهل الكلام في الدين هذه الأيام وما أيسر أن يجعل المرء نفسه مجتهداً، وأن يرى الرأي المخالف لأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل والليث بن سعد والأوزاعي، وكل مجتهدي الأرض فيتمسك به ويخطئ المخالفين له: من كان منهم ومن سيكون إلى يوم القيامة. ولم لا؟ إنه رجل وهم رجال، والساعاتي والنجار والموسيقي رجال أيضاً، فلماذا لا يكونون أئمة مجتهدين، ما دام العلم بالعربية نحوها وصرفها وبلاغتها، والفقه أصوله وفروعه، والتفسير والحديث ليس شرطاً في الاجتهاد؟ وما دامت الحكومة تمنع غير الطبيب أن يكتب صفة دواء، وغير المهندس أن يرسم مصور بناء، وتدع من يشاء يتكلم في الدين والأدب بما شاء؟ وما دام كلُّ ما يحتاجه الرجل في هذه الأيام ليكون واعظاً مرشداً يقتدي به ويستمع لقوله، وتقبل يده ويتمسح بذيله، أن يعّرض لحيته، ويكور عمته، يوسع جبته، ويطول سبحته، ويتكلم كلاماً تقبله العامة، ولو خرف وخلط وضلل، وأكلُّ الدنيا بالدين، وأستغل غفلة الغافلين، لا يسأله سائل عما يفعل أو يقول!

لا. . . لن أتكلم في الدين، فالكلام فيه شديد الخطر، فأنا أخشى أن أقول الحق فأغضب الناس، أو أقول الباطل فأسخط الله. ثم إني طلبت الليلة مرضاة السامعين، وأكثر السامعين لجهلهم بالدين، ولطول ما رأوا من أدعياء العلم فيه، منصرفون عنه زاهدون في حديثه، حتى الأتقياء الصالحون منهم، الذين يتمسكون في رمضان بدينهم، فيقضون نصف النهار في (الأموي) نائمين يشخرون وينخرون أو متحلقين حلقاً يمزحون في الجامع ويضحكون ويكذبون ويغتابون!

فلنتكلم في الأدب، فالأدب أسلم عاقبةً، وأوسع حريةً، وهو هيّن عليّ وعلى غيري، وقد صار الأدب الآن كوصل ليلى كلُّ يدعيه، وكل من يستطيع أن يكتب كلاماً في ورقة، ويجد صفافاً يصَّف له حروفه، وصاحب جريدة ينشره، فهو كاتب بليغ، وكل من يأتي بلفظ موزون أو شبه موزون فهو شاعر مفلق، وكل من يحفظ خبراً عن أبي تمام والمتنبي، أو هوغو ولامارتين، أو شكسبير وملتون، فهو أديب أريب، وكل من عاب كاتباً كبيراً بحق أو بباطل فهو ناقد محقق، ومن عجز عن أن يفكر كما يفكر أبناء آدم عليه السلام، ويتكلم كما يتكلمون، ففكر تفكير غير آدمي، وتكلم كلاماً ليس بإنساني، فهو شاعر رمزي، وإن في الرمزية متسعاً لجميع الأغبياء والأدعياء. وإذا شكا القراء انهم لا يفهمون هذا الأدب الرمزي، فالقراء جاهلون رجعيون جامدون!

لا - يا سادة - إن الأدب امتُهن وابُتذل، فلن أتكلم في الأدب!

أفأتكلم في السياسة؟ إن السياسة في بلدنا أن ينتقد الرجل قوانين الحكومة، ويتكلم في رجالها، ويتهم كلُّ أمين يكرهه بالسرقة، ويصف كلُّ سارق يحبه بالأمانة، ويكون له رأي في الملك عبد الله، وابن سعود، واتلي، ومولوتوف، وترومان، ويرسم أحسن الخطط لمحاربة الغلاء، وتنظيم ملاكات الموظفين، وحل مشكلة فلسطين، وإدارة ألمانيا المحتلة، ويقترح وجوه الإصلاح للجامعة العربية، وهيئة الأمم المتحدة، ولو كان تاجراً أمياً، أو سائق ترام، أو شيخ ضيعة، يضع بصمة إبهامه مكان التوقيع على دفاتر الانتخابات!

لا. . . لن أتكلم في السياسة، أفأتحدث إليكم في الفلسفة؟ لقد اشتغلت بها حيناً، وأنا أستطيع أن أتفلسف متى أردت، ولا يكلفني ذلك إلا أن أقول ما لا أفهمه أنا ولا القراء، وأن أنظر كلُّ ما تواضع عليه الناس من أفكار وعادات، فأقيم لهم أدلة غامضة لا تدرك، على أنه خطأ وأن الصواب هو عكسه!

وبعد - يا أيها سادة - فاعلموا أن وقت حديثي قد انتهى، وأني قد خدعت القائمين على المحطة، فأطعتهم وكلمت العلبة ربع ساعة، وقبضت الأجرة، ولم أقل شيئاً. وكذلك يكون الرجل الناجح في هذه الأيام، يأخذ الأجرة من غير عمل، ولنا في ساداتنا العلماء الأعلام مدرسي دائرة الفتوى قدوة غير حسنة. . .

هذا، وأنا لا أدري هل يدفعون لي أجرة، أم أنهم سيكتفون بشكري الجزيل. . . فإذا أعطوني شيئاً ربحنا، وإلا فحسبنا أننا لم نعطهم شيئاً نندم عليه!

ولا تعجبوا - يا سادة - فكل الناس تاجر يعرض بضاعته، ونحن معشر الأدباء بضاعتنا الكلام، وكل كلام له ثمن، فهاتوا كثيراً تسمعوا جيداً، وإلا فالبضاعة كلها من هذا النوع!

(دمشق)

علي الطنطاوي