مجلة الرسالة/العدد 686/إلى المجمع اللغوي:

مجلة الرسالة/العدد 686/إلى المجمع اللغوي:

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 08 - 1946



الأسماك في الشواطئ الحضرمية

للأستاذ علي عبود العلوي

تمهيد:

لاشك أن وجود الأسماك بكثرة في الشواطئ الحضرمية هو الحافز الأعظم لبعض مفكري الحضارمة في السعي وراء تأسيس شركة تجارية بمهجر الحضارمة (جاوة) من غايتها استغلال الثروة الوطنية وتنميتها بإنشاء مصنع لحفظ الأسماك في العلب وتصديرها فيما بعد إلى الخارج.

ولا غرو أن يهتم بالسفر إلى ميناء حضرموت (المكلا) رئيس الشركة السيد علي بن شهاب لدرس ما يقتضيه المشروع ورفع تقرير لأعضاء الشركة. غير أن المشروع أخفق في مسعاه ولا أعرف بالضبط ما هي الأسباب الموجبة لذلك.

وتاريخ هذه الخطوة التفكيرية الأولى يرجع إلى أثناء الحرب الماضية حرب (1914م) على ما أذكر.

ولئن أخفق هذا المشروع فإنه لم يقضِ على الفكرة أصلاً. وغاية ما في الأمر أنها تنبعث مرة وتخفت أخرى. حتى دبَّ إلى النفوس خير انعقاد مؤتمر الإصلاح الحضرمي المنعقد بسنغافورة في سنة 1346 - 1927 فانبعثت الفكرة مرة أخرى، ولكن في صورة واسعة النطاق. إذ وافق المؤتمر على تأسيس شركة تجارية حضرمية برأس مال كبير من غايتها استغلال الثروة الوطنية، ورشح لهذا القرار لجنة تتألف من أغنياء الحضارمة وسراتهم برئاسة المثري الشهير السيد عبد الرحمن بن شيخ الكاف. غير أن مقررات المؤتمر قضى عليها بجرة قلم ولم تكن هي من نصيب بحثناً لنوليها مزيداً من البحث والتعليل والتدليل.

ودليل آخر أضيفه إلى ما سبق أن أشرت إليه فقد حدثت بعد

عودتي إلى الوطن من الكنانة في 1181942 من رحلتي التي

استنفذت من العمر زهاء خمس عشرة سنة أن عظمة السلطان صالح بن غالب القعيطي معتزم إنشاء حوض كبير لتربية

الأسماك والاستفادة منها علمياً.

فمتى يتحف عظمة السلطان شعبه الحضرمي بهذه المكرمة الجليلة التي لم تكن هي إحدى مكارمه؟ فعسى أن يكون ذلك قريباً.

معجم للأسماك:

واغتنمت فرصة وجودي في (المُكلاَّ) للتعرف إلى أبناء الثغر الحضرمي، وقد لقيت منهم تأهيلاً كبيراً، وممن تحدثت معه عن وضع معجم للأسماك الأستاذ عبد الله الناخبي فهش للفكرة - وقال: إن نفس هذه الفكرة قد سبق أن أوحى بها إليه عظمة السلطان صالح القعيطي، ومن أجل ذلك فإنه دائب في البحث، وأنه كتب مذكرة عن الأسماك تضم زهاء مائتين وخمسين اسماً.

ولا أزال أرجو من الأستاذ الناخبي أن يجد في البحث لكي يتحف العالم العربي بثمرات أبحاثه.

غير أني أخشى أن تقعد بالأستاذ الناخبي أعماله المدرسية وشواغله اليومية. فقد اتضح لي أنه طيلة المدة التي قضيتها في حضر موت وهي سنة وثلاثة أشهر لم يقدر له أن يواصل البحث الذي سبق أن حدثني عنه بشيء يذكر.

وقبل أن نتجه الغاية المقصودة يجدر بنا الإشارة إلى أن للسيد الشاعر عبد الرحمن محمد بن شهاب الدين العلوي المتوفى في حدود سنة1270 هـ قصيدة طويلة ضمنها أسماء الأسماك الموجودة بالشط الحضري، ولم تقع هذه القصيدة تحت نظري وإنما حدثت عنها وهي مشهورة بحضر موت وموجودة منها نسخ في مهجر الحضارمة. جاوة، ولن تخلو منها مكاتب حضرموت، ولا شك أنها من محفوظات خزانة حفيده السيد الجليل عبد الرحمن عبد الله بن شهاب في (الغناء ترم).

فهل يتحف بها (الرسالة) الغراء أحد أدباء القطر الحضرمي؟

ومما وقع تحت نظري له وأنا في سن المراهقة قصيدة المشهورة التي وصف فيها المرأة وخصها بالمفاضلة ما بين البيض والسمر والخضر والسود.

فيا هل ترى وصف لنا الصهب والزرق إلى غير ذلك؟ لا أدري فذلك عهد طال به العهد ولم يبق عالقاً ببالي منه شيء.

ومن قصائده المشهورة في المفاضلة قصيدة التي خصها بالنخيل ويقال إنه ذكر فيها زهاء مائتين وخمسين اسماً من أسماء النخيل الموجودة بحضرموت.

ومما علق بذاكرتي منها قوله يصف نوعا من النخل يسمى باليتيمة:

وعَادْ تمر اليتيْمة، يُعجبَك خُزْعُهْ وصَيْمهْ تقدوم لأهْلِ التّفخَّار. التخميس (ما شيء كما التمرْ في الدار).

(الألفاظ: عادْ. بمعنى بقى. والخزْعُ من التمر ما أخرج نواه. الصِّيْم: هو ما أخرج نواه أيضاً، وهُرسَ بالأرجل كما هو معروف في حضرموت. أهل التّفخارْ: هم الضيوف الذين يفدون على بيوت الكرم ممن يفخر بهم).

وأكثر أشعار هذا السيد (حُمَيْنِيَّةْ) أي أنه لم يلتزم فيها قواعد الإعراب ولها عروضها الخاصة لأنها تتابع الأنغام.

وهذا السيد هو والد الشاعر الكبير شيخ النهضة الحضرمية أبو بكر بن شهاب (راجع (الرسالة) الغراء عدد423 صفحة 1007) ومؤلفنا عنه (الشهاب العلوي).

وأخيراً أتاحت لي الفرص التعرف على أسماء جانب من الأسماك، وذلك بفضل الرحلة الشاقة التي دفعت ثمنها بالمخاطرة الروحية.

إذ أقلتني من ميناء حضرموت (المكلاَّ) إلى (جدة) ساعية شراعية. حقاً إن هذه الرحلة شاقة مضنية ولكنها تذكرنا بآثار آبائنا الصِّيد الذين كانوا يخترقون البحار بمراكبهم الشراعية، وكانت لهم السيادة البحرية إذ ذاك.

وكانت بواخرهم تقلع من موانئ حضرموت إلى أقاصي الشرق الأقصى، ولهم في الميدان تاريخ عظيم القدر مشهور بمكانته العظيمة، ولهم مع البرتغال مواقف مشهورة ليس هذا موضع الحديث عنها.

وكان علماؤهم لا يدعون الأوقات تمر عليهم سدىً فكانوا يحصلون العلم وهم في أثناء سفرهم الذي يمتد بهم إلى أكثر من ستة أشهر إلى أن يصلوا إلى الموانئ الشرقية بجزر الملايو وجاوة.

وفوق هذا فقد كانوا يقضون على السآمة التي تعقب مثل هذه الرحلات الشاقة بما يتفرغون له من دروس علمية أثناء سيرهم واستنساخ بعض الكتب العلمية التي هم في حاجة إليها.

وعسى أن تتاح لي الفرصة فأوافي (الرسالة) الغراء ببحث خاص ذا صلة بالموضوع، ومن كان متعجلاً فليراجع ما ورد بهامش مقال لنا نشر في عدد 234 من مجلة الرابطة العربية تحت عنوان: خصائص الشعر في عصر ابن شهاب أو يبل غلته بمراجعة تاريخ دخول الإسلام إلى (الفليبين) وهو من تأليف الدكتور نجيب صليب اللبناني المتوفى سنة 1935، وهو مطبوع في اللغة الإنجليزية طبع (مينلا) سنة 1905م

لقد كانت المدة التي قضيتها في البحر من حين أبحرنا من

(المكلا) بعد ظهر يوم الأحد في 7111943 إلى أن أرست بنا

السفينة في ميناء (جدة) في 25111943 هي الكفيلة بأن تتيح

لي ما لم يكن في الحسبان.

وكانت الدواعي التي تجعلني أهتم بالبحث في التعرف على أنباء اليم كثيرة، ولو لم يكن منها إلا المتعة الغذائية التي يتحفنا بها اليم في صباح كلُّ يوم ومسائه لكانت هي وحدها كافية فضلا عن الناحية العلمية التي يجدر بنا أن نشارك فبها بحسب المستطاع.

لفتت نظري هذه الأحياء العظيمة التي نشاهدها في البحر في كلُّ آن، وهي تمشي زرافات ووحدانا، والتي منها ما يتحدى سفينتنا في مجراها. فكاشفت ربان السفينة الحضرمية والبحارة وزملاؤهم أن لي شغفاً بالتعرف على هذه الأسماك مما شاهدنا وما لم نشاهد. فما كان منهم إلا أن أمدوني بهذه المعلومات التي أدونها (للرسالة) الغراء، ولهم علي فضل التنويه والشكر.

ولم يحجم أبناء البحر - أستغفر الله - بل أخدانه عن الحديث إلا ريثما أدون ما يفوه به المتصدي للحديث، وكنت أدقق في ضبط الألفاظ غاية التدقيق حتى إذا ما أشكل عليَّ لفظ استعدته مرة أخرى. هذا ما كان من جانبي؛ أما ما كان من جانبهم فانهم كانوا مرهفين أسماعهم لمحدثي. فإذا ما قدم أو أخر نبهوه إلى غلطة في الحال.

فكانت لدى متعة روحية طيلة الساعتين التي قضيتهما في العوم مع الأسماك.

(يتبع)

علي عبود العلوي