مجلة الرسالة/العدد 689/صورة:

مجلة الرسالة/العدد 689/صورة:

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 09 - 1946



الذي له صومعة. . .

للأستاذ راشد رستم

هذا هو صباح المعادي في الصيف: خضرة وسكون وطير. ولست أقصد إلى المقارنة، فالإسكندرية اليوم، رمل وبحر (وسمك). . . كلاهما جميل، وكلاهما وفقاً للمزاج يختلفان. وحبذا في هذه الحياة مزاج الوفاق وتوافق المزاج.

وإني إذ اجلس وحيداً في هذا الصباح الهادي اللطيف، أذكر صاحبي هناك والدنيا حوله تفور وتصخب، وهو كما أعهده قابعاً في صومعة مفكراً راضياً ساخراً. . .

وإنها للذة أن يقنع المرء نفسه بصومعة ينطوي عليها وتنطوي عليه، فهي في الحق نظرية عملية، إذا استطاعها امرؤ فبشره بالفوز العظيم في معترك الجهاد الأكبر، إذ هي وحقيقة الحياة تسيران جنباً إلى جنب، والمرء فيها كالقطرة في النهر، لها وحدتها، ولكنها تجري وماء النهر من المنبع إلى المصب. . .

وهذا الذي يرونه فيلسوفاً ساخراً، ما هو إلا روح هادئ قانع قابع، لا قانط ولا ساخط، قد عرف الأشياء وعرفته، وجرب الحوادث وجربته، وسار مع الأيام وسيرته، ثم ارتفع بروحه إلى سموات التأمل والتفكير، مصطحباً الحس والشعور، حتى لا يضيع بين الوهم والغرور، وقد طوف في تلك الأرجاء مع القديم من الأحياء والجديد من الآراء، ثم عاد وفي نفسه أن ينظر ويرى.

فماذا يرى؟ - يرى أن يحتفظ بذاته، منفرداً غير وحيد، مبتعداً غير بعيد، فتحول بينه وبين ما يريد (جاذبية) الأم الحنون - هذه الأرض التي خلق منها، ولا أقول خلق (فيها) فقد يخلق الشيء من شيء ويوضع في شيء، فلا يستطيع البقاء مع الشيء الذي وضع فيه، ويرتد إلى الشيء الذي خلق منه. وقد يكون المرء في هذا غير فاهم ما يحصل له، وهو إذن في جهل ونعيم. وقد يكون فاهما ما يحصل له، وهو إذن في علم وشقاء. . .

وهذا آدم أبو البشر بل رمز البشر، وقعت له الوقعتين، فجهل الأولى وعرف الثانية. عرف أنه من التراب وإلى التراب يعود. ومن ينبه الذي يدرك ما هو فيه، هو المعذب في الحياة، يقاسيها لأنه يعلم انه لا مفر له منها. ويعانيها لأنها تعنيه. . .

إذن ماذا يستطيع هذا أن يفعل غير أن ينفر ويسخر ثم يقنع ويقبع. يعيش مع نفسه وفي نفسه وان لم يكن لنفسه، يرجو أن يعيش وفق خطته وهواه، وان لا يزاحمه أحد في (دنياه)، وهو بعد ليس بالأناني، يحب نفسه ويكره سواه، ولكنه الإنسان يمنع الشر عن أي أحد، ويتمنى الخير لكل أحد، ويرجو ألا يصيبه الشر من أحد، حتى ولو لم ينله الخير من أحد. . . هذا تفكيره، فهل هكذا مصيره؟

يعيش هكذا في (دنياه)، معتزاً بروحه ورضاه، معتزلا غير منعزل، لا يهمل كما لا يحفل برأي الناس فيه، ولا يعني بما ليس يعنيه. . .

غير أن الأيام وقد أظن أنها كفلته وأمنته تأتي فتمرضه وتشفيه، فيعلم مداه من اليأس والبأس، فيأنس دون أن يبتئس أو ييئس.

ثم يعود فتفقده عزيزاً غالياً، فينتبه من تيه، ويرى شيئاً لم يكن يرتئيه، يحس بأن المصير، هو غير ما كان عليه التفكير،

ويأخذه الذهول، وكأنه يرضيه أو أنه قد يشفيه مما صار فيه، ولكنه يحس دبيب الأسى يوقظه، ويحركه ويدفعه، فيمشي يتلمس في الوجود، الموجود والمفقود، لا والد ولا مولود، يفتقد صاحبه فلا يجده، ويذكر هواه ولا ينساه، ويهفو ولا يلهو، فيراه الناس كئيباً حزيناً، ثم يراهم يحسبونه مثلهم - ساعة وكل شيء يزول. . .

ساعة وكل شيء يزول! فيعجب ثم يضطرب بل ينتفض ويرتعد ويبتعد قليلاً. . . ثم يعود، فلا يراه أحد كئيباً حزيناً، فقد خجل أن يكون مثلهم، وهو. . . هو الكئيب الحزين. . .

يدخل الصومعة ولكنه يسير بها في المعمعة. . .

راشد رستم