مجلة الرسالة/العدد 691/الأدب في سير الأعلام

مجلة الرسالة/العدد 691/الأدب في سير الأعلام

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 09 - 1946



ملتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .).

للأستاذ محمود الخفيف

في ميدان السياسة:

وعاب خصوم ملتن عليه قبوله منصبا في حكومة مغتصب جمع السلطة كلها في يده، وقالوا كيف يفعل هذا نصير للحرية، واستخرجوا من ذلك أن دفاعه عن الحرية لم يكن إلا زعما فحسب؛ بل وذهبوا إلى أكثر من هذا فرموه بالتبجح أو بالغفلة إذ يحل لنفسه من التعصب ما يحرم مثله على غيره فهو في منصبه يرد على مخالفي الحكومة، ويعنفهم ويسخر من آرائهم، وماذا يكون التعصب إن لم يكن فعله هذا تعصبا؟ ويزيدون على هذا انه إن جاز ذلك من ذي جهالة ضيق الأفق فهو لا يليق من رجل يزعم انه يتحلى بالأدب وينتسب إلى الفن. . .

وهذا كلام يشبه بادي الرأي أن يكون حقا، ولكنه لا يلبث عند رده إلى الواقع والاعتبار في أحكامه أن تتزايل عنه شبهة الحق؛ فأما عن التعصب في ذاته عيبا، بل إن التعصب للرأي محمدة ما دام يؤمن المرء بما يقول، ويشعر انه يدافع عن حق، والمعول هنا على نيته لا على خطئه أو صوابه، فإن لم يتبين حقيقة ما ينتوى فمدار الحكم على القضية المتنازع فيها، ويستحيل أن يخفى وجه الحق في قضية يتناولها متخاصمان يبذل كلاهما أقصى جهده في إثبات ما يحاول الأخر نفيه، أو نفي ما يعمل خصمه على إثباته. طالما إن الوقائع غير خافية، وكان الأمر أمر اعتبار وتدبر ورد إلى قواعد مقررة؛ فإن جهل الخصمان بعض الوقائع أو جهلاها كلها انتفى التدليس عنهما جميعا، وان غابت عن أحدهما كان الثاني هو المدلس، وان لم يمكن اتهامه بالتعصب حتى يتبين تدليسه؛ وإنما يكون التعصب مذمة إذا أصر المرء على رأيه وهو يعلم كما يعلم خصمه انه باطل. أو إذا تبين له وجه الحق فكبر عليه أن يرجع أليه وتمادى فيما انساق فيه أول الأمر بجهالة.

وكان ملتن يؤمن أن حكومة كرمول تنصر الحق والحرية فالدفاع عنها دفاع عنهما، ولا عبرة عنده بشكل الحكومة الاستبدادي، وقد تحقق له ما كن يتمناه من نتيجة، وطالما كان يؤمن ملتن دون أن يعميه غرض خاص بعدالة كرمول، وبعده عن المطامع الذاتية، وإباحته الحرية للناس فليس يعيبه أن يتعصب له، وإنما يلحقه العيب إذا تبين له تحرف كرمول عن الصواب في أمر وتحيزه لرأيه وظل على ولائه له؛ وما فعل ملتن شيئا من ذلك. بل لقد عارض كرمول، وأنكر من تصرفاته ما سيأتي بيانه في موضعه. . .

واتخذ ملتن أهبته للدفاع عن الحكومة في كل موقف تحتاج فيه إلى الدفاع، وكانت أول خطوة له في هذا المضمار الطويل ذي المسالك الوعرة ما كتبه بعنوان (ملاحظات) في صدد صلح كِلْكِنِي الذي عقده كرمول مع الأيرلنديين، فاخذ يمن عليهم ملتن بما يلقون من عدالة وتسامح ما كانوا ليظفروا بمثلها على يد شارل، وقد حسن وقع هذه الملاحظات في نفس كرمول، ونفوس أعضاء حكومته وأنصاره.

وكانت حكومة كرمول في اشد الحاجة إلى مثل هذا الثناء فهي في الواقع تستند إلى أقلية الشعب، وتعتمد في بقائها على الجيش المنتصر، وعلى شخصية كرمول الذي لقب حامي الجمهورية وان كان ملكا في حقيقة الأمر ينقصه التاج؛ وكانت أغلبية الشعب قد أسخطها القضاء على الملكية، وبات الناس يتوجسون خيفة من انفراد كرمول بالسلطة على هذا النحو دون البرلمان، واخذ البرسبتيرينز في داخل البلاد يكرهون هذه الحكومة إلى الناس خفيه، بينما كان الرأي العام في أوربا يعلن استنكاره وسخطه عليها. . .

وفي شهر أغسطس سنة 1649 نشر في الناس كتاب غفل من اسم مؤلفة عنوانه (أيكون باسِلَيِكْ - صورة جلالته المقدسة في عزلته وآلامه)؛ وتلقفت الأيدي هذا الكتاب، وكان الناس قد أحزنهم وآلمهم إعدام الملك على الرغم مما كان من طغيانه وعقد ألسنتهم الرعب والدهشة؛ وسرعان ما نفدت طبعته فأعيد طبعه وأعيد حتى لقد بلغ خمسين مرة في تلك السنة، وذهبت الظنون بالناس كل مذهب من يكون مؤلف هذا الكتاب، وشاع فيهم انه من وضع الملك نفسه كتبه قبيل إعدامه؛ وقد ادعى تأليفه فيما بعد أحد رجال الدين واسمه دكتور جودن وتقرب به إلى الملكية العائدة، وزعم انه اعتمد في تأليفه على مذكرات كتبها شارل بخطه في أخريات أيامه؛ وخلاصة الكتاب إن الملك ذهب ضحية العدوان والبطش وقد ظل مؤمنا بربه صابرا حتى قتل مظلوما.

ومهما يكن من أمر تأليفه فقد ذاع الكتاب في الأمة على نحو لم يعرف الناس له شبيها من قبل، وهال الحكومة الأمر فتلفتت تبحث عمن يرد عنها هذه الموجة العاتية، وفكرت في أول الأمر في سِلْدِن وكان من اشهر رجال عصره مهارة وعلما، ولكنها اتجهت أخيرا إلى ملتن.

وما أهل أكتوبر حتى كان ملتن على الرغم مما كان يعاني من ضعف بصره قد رد بكتاب بلغ نيفا ومائتين وأربعين صفحة، سماه (أيكون اوكلاستسي) أي محطم الأيقون؛ وفيه استعراض ما جاء في ذلك الكتاب فصلا واخذ يفند كل رأي فيه ويسفه كل حجة في بلاغة وتحمس وتدفق على نحو ما فعل في خصوما ته وردوده السالفة. . .

وقد افتتح ملتن كتابه بقوله انه مما يجمل بالمرء أن يتعقب مساوئ رجل هوى من مثل تلك المنزلة العليا التي تبوأها شارل وبخاصة بعد أن دفع ثمن ما اقترف، ولكن كتابه على الرغم من هذه الفاتحة لم يغادر صغيرة ولا كبيرة مما فعل شارل إلا أحصاها، ثم راح يعيب على هؤلاء الذين يمجدون ذكرى هذا الملك الذي صنع بحرية بلاده ما لم يصنعه في إنجلترا ملك قبله، ورأى إن الذين يفعلون ذلك إنما يبرهنون به على انهم غير جديرين بالحرية التي حاربوا من اجلها واخلق بهم أن يعودوا إلى الأغلال فمثلهم كمثل عدد من الوحوش الثائرة المقتتلة لا تسكن حتى تكبل أرجلها وتغل أعناقها، وتنم هذه اللهجة القاسية عن مقدار حنقه على من أحزنهم إعدام شارل، والكتاب في جملته وفي روحه العامة لا يعدو عن كونه مجادلة حزبية وخصومة جامحة لا كما تكون الخصومات في الرأي بين العلماء ولذلك فهو لا يشرف رجلا مثل ملتن إن لم يك كفيلا بان ينتقص من قدره. . .

من أجل هذا لا يسع المرء ألا أن يحس آسفا عميقا لانصرافه عن الشعر والفن فذلك ما خلق له، إما هذه الخصومات السياسية وما ينفق فيها من جهد ويحتمل من عناء فما اقلها عودا إلا على الذين طلبوها ليحتموا بها، وما أثقلها وأرذلها وقعا في نفوس الذين يقدرون ملتن حق قدره كشاعر، والذين تهفو قلوبهم إلى أمثال ما غنى من قبل من الحان بلغ بها ذروة الإجادة، وتجاوز بها أقصى ما بلغه شاعر من سحر الفن.

ويحلوا الخصوم ملتن أن يأخذوا عليه مأخذين يتصلان بالآداب والفن في كتاب أيكون اوكلاستسي، فأما أولهما فقد نسبوا أليه انه تهكم على شارل أن جعل وليم شكسبير قرينه المقرب في عزلته آخر حياته، وأما ثاني المأخذين فقريب من الأول وخلاصته إن ملتن تزمت البيوريتانز خصوم الفن إذ يعيب على الملك انه اخذ فقرة من قصيدة اركاديا لسير فيليب سدني فجعل هذه الفقرة صلاته، ويرى انه مما يشين الملك أن يتخذ صلاته من قصيدة كهذه وان كانت لها في ذاتها قيمتها وبراعتها في ساعة عصيبة كالتي كان فيها، ويصف ملتن تلك القصيدة كأثر فني بأنها من قصائد الحب العابثة.

ويرى مارك باتيسون أن المأخذ الأول لا أساس له وإنما جرده إلى سوء الفهم، فما سخر ملتن من شارل وإنما كان يقتبس ملتن فقرة من مسرحية ريتشارد الثالث لشكسبير يوضح بها معنى يريده. فذكر في صدد ذلك انه لا يقتبس من كاتب ممن لا يحسن الملك مصاحبتهم، وإنما يقتبس ممن يعرف الجميع انه كان رفيقه المقرب في عزلته ألا وهو وليم شكسبير.

ولكن باتيسون لا يعفى ملتن من المآخذ الثاني، ويقول إن فيه شاهدا على أن مؤلف الأليجروا قد تأثرت الناحية الفنية فيه تأثرا غير قليل بما اندفع فيه من الخصومات الدينية والسياسية وألا فكيف يحقر قصيدة كهذه فينسبها إلى العبث واللهو.

وما كاد يستريح ملتن من عناء رده حتى وجد نفسه كما وجدت الحكومة نفسها تلقاء هجوم آخر لا يقل عنفا عن سالفة ويزيد عليه في سعة انتشاره، وما احدث في أوربا وفي إنجلترا من قوة الأثر وشدة الدوي، وقد انبعثت هذه الصيحة من هولندا هذه المرة في كتاب ألفه باللاتينية علم من أعلام الأدب الأفذاذ هو الأستاذ سلامسيس أحد رجال جامعة ليدن وجعل عنوانه: (دفاع عن الملك شارل الأول).

وبيان ذلك أن شارل الثاني كان يعيش في مدينة هيج، وكان على مقربة منه سلامسيس في جامعة ليدن، وكان هذا الأستاذ اقدر معاصريه على الكتابة باللاتينية لغة العالم يومئذ كما هو الحال في الفرنسية اليوم، فاستعانة شارل ليدافع عن أبيه، وقبل سلامسيس ذلك عن طيب خاطر لأنه كره إعدام الملك في إنجلترا كرها شديدا.

وكان الأدباء القادرون على الكتابة، وعلى الأخص كتابة اللاتينية عدة الملوك والأمراء وذوي المكانة في ذلك القرن، وكان لبضاعتهم سوق يعظم فيه الربح، وكان لهم قدرهم وعظيم خطرهم لا عند الجمهور ولكن عند الحكام. فبهم يجتذب الرأي العام ولأقلامهم المشروعة مثل ما للسيوف من اثر أو كانت ابعد من ذلك شانا، وكان المتبع أن يستأجر الحكام هؤلاء الكتاب ليصنعوا ما تصنع الصحافة اليوم من دفاع وتهيئة للأذهان، ونشر لما يراد نشره من الآراء.

وكان سلامسيس قمة من القمم الشوامخ تتنازعه الجامعات والعواصم ويحب البابا أن يستأثر به فيبقيه عنده في روما، بينما يعمل الملوك على إغرائه بزيارتهم والإقامة عندهم، وكان هذا الرجل واسع الأفق، قلما وجد ند له فيما قرأ ودرس من الكتب؛ لذلك كانت استجابته لشارل الثاني كسبا عظيما لهذا الذي يهمه الدفاع عن أبيه، وقد كتب دفاعه ولم يأخذ عليه أجرا كما يرجح أكثر المؤرخين، ونستطيع أن نتصور مبلغ ما أحدثه كتاب مثل كتابه من أثر في إنجلترا وفي أوربا، كما نستطيع أن نتصور فداحة العبء الذي ألقي على عاتق ملتن وان المرض ليخترم جسمه يومئذ وإن العمى ليتهدد ناظريه.

وصل كتاب سلامسيس إنجلترا في أواخر سنة 1649، وسرعان ما اصدر مجلس الدولة قرارا يحرم تداوله، وفي يناير سنة 1650 انتدب ملتن ليكتب ردا على هذا الكتاب فما أهل شهر مارس حتى نشر ملتن، وهو لا يقوى على فتح عينيه كتابا عنوانه (دفاع عن الشعب الإنجليزي)، وقد ازدادت بهذا الكتاب شهرة ملتن في أوربا جميعا وعظم قدره في الأوساط الأدبية كلها، وكانت دهشة الناس من شجاعته أكثر من إعجابهم بوطنيته فانه لم يحجم عن منازلة ذلك المارد الأوربي سلامسيس، وان يجعل عدته اللاتينية، وقد حسب خصمه إن لن يقدر عليه أحد، فإذا به حيال قوة لا ريب فيها، وفصاحة لا يستطيع أن ينكرها إلا الجاحدون.

احتشد ملتن لكتابه وبذل قصارى جهده على الرغم من إلحاح العلة عليه وطغيان الغشاوة على ناظريه، ليظهر لأوربا انه أعلى من سلامسيس في اللاتينية كعبا وأطول منه باعا؛ ولقد بلغ في كثير من مواضع الكتاب غاية ما تمنى، ولكنه كان في مواضع أخرى كالمغنى الذي يكلف نفسه ما لا تطيق ليأتي بخير ما عنده، فما يعود من ذلك الجهد إلا بانقطاع نفسه واحتباس صوته؛ ولقد وجد ملتن في الرد على سلامسيس العظيم فرصة يلفت فيها أوربا إلى مقدرته ويقنعها بضلاعته وتمكنه واتساع أفق ثقافته، لذلك أسرف في التحمس وبالغ في سوق العبارات الضخمة وتأنق وتعمق وتعالى وحلق، وكان في بعض المواطن إلى الخطيب الذي نسى نفسه اقرب منه إلى الكاتب الذي حذق فنه.

على أن ما بذل من طاقة في هذا السبيل قد سبب له كثيرا من الضعف في نواحي القياس والبرهان والاستيعاب والشمول والإحاطة بموضوع الدفاع وحسن ترتيبه وتسلسل سياقه؛ هذا إلى أن اهتمامه بأطهار عيوب سلامسيس وتصيد أخطائه وتعقب متناقضاته والسخرية منه قد صرفه كثيراً عن غايته، ثم إن توجيه المطاعن الشخصية إلى خصمه وإسرافه في ذلك إلى مدى من الفحش بعيد البس كتابه كثيرا من السخف والحق به غير قليل من الفسولة.

ولم يعف ملتن شارل الأول في هذا الكتاب كذلك من التحقير والإهانة وهو في لحده، فشبهه بنيرون طاغية روما، ونسب إليه كثيرا من الفجور والفسوق واتهمه بتهمة نكراء هي دسه السم لأبيه، إلى غير ذلك مما يبعد كل البعد عن اللياقة. . .

وأنكر ملتن ما ادعاه الملوك لأنفسهم من حق الهي، فليس يستند هذا الزعم إلى أساس معقول، ولا هو مما يتفق مع ما يتصف به الله من عدالة وحكمة، فالله عدو الظلم ونصير الحرية، وهو يحب الأحرار من عباده ويرفع منزلتهم؛ وقد جاء المسيح لنصرة الحرية، وإلا فهل يرضى الله أن تقوم الحكومات لتكون كل منها أداة للطغيان، وكيف يقبل أن يفرض على الناس طاعة هذه الحكومات ويقر خضوعهم للظلم والبطش؟ وما فعل الشعب الإنجليزي أكثر من ثورته على الطغيان وتقريره مبادئ الحرية ليعيش الناس في كنف هذه المبادئ آمنين مطمئنين لا يأتيهم الخوف من أي مكان. .

ويمجد ملتن حكومة كرمول وما فعلت في سبيل الحرية وما ظفرت به من نصر لن يظفر بمثله إلا الأنجاد الميامين أولو العزم والبطولة، ولكنه يصارحها انه لا يزال أمامها ما يقتضيها جهودا وبطولة ليست اقل مما بذلت، فعليها أن تقضي على ما يتهدد كيان البلاد من المساوئ الداخلية كالجشع والطمع وأنانية ذوي الثراء وبغيهم، حتى يتمتع بالسلام والأمن في كنف الحرية؛ وتنطوي عباراته هذه على شئ من الوعيد يتهدد به خصوم الحكومة من طرف خفي، فقد كان ملتن ضيق العطن بهؤلاء الخصوم شديدا عليهم يتمنى لو ابتلعتهم الأرض وسعيهم وما يمكرون! وسخر ملتن من شارل الثاني وسماه شارل الصغير وبالغ في تحقير دعوته سلامسيس للدفاع عن أبيه ونعت من التفوا حوله بأنهم حفنة من الصعاليك يتصايحون ولاهم لهم إلا التصايح والعواء.

إما ما قذف به سلامسيس من مطاعن، فقد تجاوز في ذلك كل حد، فلم يتورع عن شئ مما يمس العرض والشرف، ونال بسهامه زوجته وسخر منها كما سخر من زوجها ووصفه بأنه مطية لهذه الزوجة التي تملك زمامه فلا يملك لنفسه بين يديها ضرا ولا نفعا؛ هذا إلى ما رماه به من الجهل والغباء والغرور والادعاء والحمق والعبودية وما أليها من ألفاظ السباب ومرادفاتها مما نعجب كيف تسنى أن يصدر مثله من رجل كملتن فضلا عن أن يعد هذا دفاعا عن قضيته، ولكنها فيما يبدو طريقة ذلك العصر وأسلوبه في الجدل والخصام. . .

وبلغ الغضب كل مبلغ بسلامسيس، ونال من نفسه فرح حاسديه لما أصابه أكثر مما نالت مطاعن ملتن، فقد اشمت ملتن به الأعداء وأضحكهم منه، وكان يبالغ هؤلاء الحاسدون في إعناته فيثنون على ملتن ويعجبون بعبقريته وضلاعته في اللاتينية وآدابها، وانبرى فريق من محبيه يسفهون هؤلاء ويوجهون المطاعن إلى ملتن؛ وبرز لهؤلاء أنصار ملتن فكالوهم صاعا بصاع، وهكذا تشعبت المعركة إلى معارك حتى كاد ينسى الدفاع عن شارل والدفاع عن الشعب الإنجليزي.

ونفّس سلامسيس عن نفسه بكتاب ثان بلغ ثلاثمائة صفحة ولكنه مات سنة 1654، ولم ينشر كتابه إلا سنة 1660 بعد عودة الملكية إلى إنجلترا، وقد نسى الناس هذا الموضوع، ومن شاء إن يقف على مبلغ حنق سلامسيس على خصمه، فليقرأ ما جاء في هذا الكتاب من مطاعن، فقد كال لملتن بنفس كيله فهو عنده الأحمق المفتون الذي يظن في نفسه الملاحة، وما هو إلا وحش قذر، وان خير ما يجب أن يصنع به هو أن يشنق على أعلى مشنقة ثم يوضع رأسه فوق برج لندن، وأباح سلامسيس لنفسه أن يعير ملتن بما أصابه من عمى كأنما هو أمر يدخل في مسئوليته، ومما قاله في هذا الصدد نعته ملتن بأنه الرجل الذي لم تكن له بصيرة، حتى فقد بصره كذلك، وان من اقبح الأمور وأرذلها أن يعيب المرء على خصمه عاهة لحقته ولا يد له فيها وليس وراء ذلك سخف فيما نعتقد، وما نظن إلا أن سلامسيس قد مسه الخبل من فرط ما ملأه من غيظ فطوعت له نفسه أن يقول هذا الكلام، وهكذا احتدمت الخصومة بين الرجلين حتى قال هوبز: انه عاجز عن أن يقطع أيهما كان احسن لغة وأيهما كان أسوأ جدلا؛ ويرى دكتور جونسون على الرغم من شدة وطأته، إذ ينقد ملتن انه كان ابلغ من سلامسيس. ويرى مثل هذا الرأي مارك باتيسون، ويزيد عليه أن ملتن كان أقوى فهما وارجح عقلا من خصمه وان كان على سعة اطلاعه اقل منه قراءة ومعرفة بالكتب. . .

وقد مات سلامسيس بعد رد ملتن عليه بنحو ثلاث سنوات، ومع ذلك فقد أذاع أنصار ملتن ومنهم ابن أخته انه مات كمدا، ومن اعجب الأمور وادعاها إلى الأسف أن يقر ملتن هذا الزعم ويجعله من دواعي فخره، وأنها لسقطة تحسب على الشاعر العظيم، وكم نود لو أن تاريخه قد خلا منها، فهي لا تقل عن سقطة خصمه، إذ عيره بفقد ناظريه. . .

(يتبع)

الخفيف