مجلة الرسالة/العدد 693/القصص

مجلة الرسالة/العدد 693/القصص

ملاحظات: المليونير النموذجي The Model Millionaire هي قصة قصيرة بقلم أوسكار وايلد نشرت في مجموعة "جريمة اللورد آرثر سافيل وقصص أخرى" عام 1891. نشرت هذه الترجمة في العدد 693 من مجلة الرسالة والذي صدر بتاريخ: 14 أكتوبر 1946



المليونير النموذجي. . .!

للكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد

إن لم يكن الإنسان ثرياً فلا جدوى من كونه فاتناً، لأن الشعر والحب من ميزات السراية وليسا شأناً من شؤون المتعطلين، وعلى الفقراء أن يكونوا رجالاً عمليين عاديين. وخير للإنسان أن يملك دخلاً ثابتاً من أن يكون ذا فتنة أخاذة.

تلكم أعظم حقائق الحياة الحديثة التي لم يفطن إليها (هوفي ارسكاين) المسكين. فلم تكن قواه الذهنية خارقة للعادة ولم تند عنه قط فكرة متألقة أو غير عادية؛ ولكنه كان مشرق الطلعة بشعره البني المجعد وعينيه الرماديتين، مما حبب فيه الرجال والنساء جميعاً، وكان يتمتع بكل وسائل الحياة إلا وسيلة كسب النقود.

ولم يخلف له أبوه سوى سيفه الذي علقه (هوفي) فوق مرآته، وكتاب تاريخ في خمسة عشر سفراً وضعه وسط مجموعة من المجلات. ثم قنع بالعيش بمبلغ يسير منحته إياه عمة شمطاء بعد ما أخفق في كل عمل مارسه. فقد تردد على البورصة ستة أشهر، ولكن ما حيلة فراشة بين ثيران وذئاب؟ واتجر بالشاي مدة أطول، ولكنه سرعان ما عزف عن التجارة. ثم زاول بضع مهن أخرى لم يفلح فيها. وأخيراً أصبح لا شيء؛ أصبح شاباً مرحاً عقيماً ذا وجه صبوح بلا عمل. . .

ومما زاد الطين بلة أن (هوفي) كان متيماً بحب (لورا مرتون) كريمة ضابط متقاعد فقد أعصابه وخسر معدته في الهند ولم يستعدهما. وكانت (لورا) تحب (هوفي) حباً يكاد يصل إلى العبادة، وكان يسعده أن يلثم سيور حذائها، وشهدت لهما لندن بأنهما أجمل حبيبين وأوفاهما فيها لأن المال لم يعترض حبهما. وكان الضابط ولوعاً بهوفي؛ بيد أنه أبى أن يعقد خطبة ابنته له، وجرى على أن يقول له (عد إليّ يا بني عندما تملك عشرة آلاف جنيه وسنتدبر الأمر حينذاك) فيكتئب (هوفي) ويبدو عليه الوجوم ويقصد إلى (لورا) طلباً للسلوى.

وبينما كان (هوفي) ذاهباً إلى (هولاند بارك) حيث تقطن أسرة (مرتون) ذات صباح عرّج على صديقه (آلن تريفور) الرسام. وكان (آلن) فناناً متفرداً إلا أنه كان جافاً غريب الأطوار؛ طفح النمش على وجهه وأرخى لحية حمراء شعثا؛ أما حين يمسك بالفرشاة فإنه يثبت أنه سيد فنه حقاً، وكان يجد في البحث عن أمثلة صوره بشوق وتلهف. وما جذبه إلى (هوفي) في بدء الأمر إلا إشراق وجهه، ولا غرو فكان دائماً يقول (ما على الرسام أن يعرف من الناس سوى البسطاء الوجهاء الذين تجد في النظر إليهم لذة فنية، وفي التحدث معهم راحة الذهن. فالوجهاء من الرجال والحسناوات من النساء يحكمون العالم، أو يجب أن يفعلوا ذلك على الأقل) وكلما زاد معرفة بشخصية (هوفي) زاد إعجابه بروحه المرحة الخفيفة، وطبيعته الكريمة الطائشة، حتى فتح أبواب مرسمه على مصراعيها أمامه في كل وقت.

وعندما دخل (هوفي) وجد (تريفور) يجمّل صورة رائعة لشحاذ بالحجم الطبيعي، وكان الشحاذ نفسه واقفاً على ربوة مرتفعة في زاوية من زوايا المرسم، وهو رجل عجوز تبدو الحكمة على وجهه المتغضن الكئيب الداعي إلى الشفقة. وكانت على كتفه عباءة رثة من قماش داكن، وكان حذاؤه الغليظ قديماً مرقعاً. واتكأ الكهل بإحدى يديه على عصا غليظة بينما مدّ يده الأخرى بقبعته البالية يتكفف الناس.

وصافح (هوفي) صديقه وقال همساً (يا له من مثال رائع!) فصاح (تريفور) بأعلى صوته (نموذج رائع؟ أعتقد ذلك، لأنه لا يُلتقي بأمثال هذا الشحاذ كل يوم! إنه كنز يا عزيزي)

- مسكين هذا الرجل! يا له من بائس! ولكني أظن أن وجهه بالنسبة إليكم معشر الرسامين هو كل ثروته؟

- بلا شك. إنك لا تريد الشحاذ يبدو سعيداً؛ أو تريد؟ فسأل هوفي (وكم يتقاضى النموذج مقابل هذه الجلسة؟) واقتعد مقعداً مريحاً.

- شلناً في الساعة.

- وكم تتقاضى أنت عن الصورة يا آلن؟

- آه! عن هذه أتقاضى ألفين.

- من الجنيهات.

- نعم يا عزيزي.

- فصاح (هوفي) ضاحكاً (هذا حسن! ولكن يجب أن يظفر النموذج بنسبة مئوية لأن عمله لا يقل مشقة عن عملك).

- كيف ذلك؟ انظر إلى مشقة توزيع الألوان والوقوف طيلة اليوم أمام منصة الرسم! كل هذا يروقك أنت يا (هوفي) ولكني أؤكد لك أن هناك لحظات يكاد يصل فيها الفن إلى منسوب العمل اليدوي. والآن أوجز ولا تثرثر لأني جد مشغول؛ فدخن سيجارة والزم الهدوء.

وبعد فترة من الزمن دخل الخادم وأخبر (تريفور) أن صانع الإطارات يريد مقابلته. فقال (تريفور) وهو خارج (لا تجر يا (هوفي) فسأعود بعد لحظة).

وانتهز المتسول فرصة غياب (تريفور) ليستريح على مقعد خشبي وراءه، وكان يبدو عليه البؤس والشقاء حتى أشفق عليه (هوفي) فبحث في جيوبه ليعرف ما عنده من نقود، وكان كل ما وجد جنيهاً وبضعة سنتات، ثم فكر في نفسه (هذا الزميل العجوز المسكين يفتقر إليها أكثر مني) وذرع الأستوديو ونفح الشحاذ بالجنيه.

تحرك الرجل العجوز وعلت شفتيه اليابستين ابتسامة صفراء وقال (شكراً يا سيدي، شكراً).

ولما عاد (تريفور) استأذن (هوفي) في الخروج ووجهه محمر لما فعل. وقضى ذلك اليوم مع لورا، وقبل الإياب إلى منزله ظفر منها ببعض التأنيب والتقريع لتبذيره.

وفي مساء ذلك اليوم بينما كان (هوفي) يتجول في نادي (الباليت) في الساعة الحادية عشرة وجد (تريفور) جالساً وحده في غرفة التدخين فقال له مشعلاً سيجارته: (أأتممت الصورة على ما يرام؟).

- تمت ووضعت في الإطار يا بني. ولئلا أنسى لقد قمت بغزو، فذلك النموذج يدين لك بالإخلاص الشديد، وقد أطنبت له في الحديث عنك - من أنت، وما هو دخلك، وما هي آمالك -

- (يا عزيزي آلن) صاح هوفي (ربما وجدته في انتظاري عند عودتي إلى المنزل؛ ولكنك تمزح بدون شك. مسكين هذا العجوز البائس! وددت لو استطعت مساعدته. إنه لشيء مرعب أن يصل إنسان ما إلى هذا الدرك من البؤس. أتعتقد أنه يحفل بشيء مما عندي من أكوام الملابس القديمة؟ وكيف لا! فإن أسماله كانت تتساقط قطعاً).

- ولكنه يبدو بديعاً في هذا النوع من الملابس. وأنا لا أرسمه بملابسه الرسمية السوداء مقابل أي ثمن؛ لأن الذي تدعوه أنت خرقاً بالية أسميه أنا خيالاً رائعاً، وما يبدو لك فقراً مدقعاً هو ما يستحق التصوير عندي. وعلى كل حال سأخبره باستعدادك لمنحه بعض الملابس.

فقال (هوفي) جاداً (آلن! أنتم معشر الرسامين لا قلب لكم).

- قلب الفنان رأسه، وعلاوة على ذلك لا تنس أن عملنا تصوير العالم كما نراه لا كما يجب أن يكون؛ ولكل عمله، والآن أخبرني كيف حال لورا فالنموذج العجوز أظهر اهتمامه بها.

- إنك لا تعني أن تقول إنك حدثته عنها؟

- بل فعلت بلا ريب. فهو يعرف كل شيء عن الضابط القاسي الفظ و (لورا) الحلوة والعشرة آلاف جنيه.

فصاح (هوفي) محمراً من شدة الغضب (أتخبر ذلك المتسول العجوز عن جميع شؤوني الخاصة؟).

وقال تريفور مبتسماً (يا ولدي العزيز! ذلك المتسول العجوز، كما تدعوه؛ من أثرى رجال أوربا. فهو يستطيع شراء لندن غداً دون أن يسحب أكثر من رصيده، وهو يملك قصراً في كل عاصمة، ويتناول الطعام في أطباق من ذهب، ويستطيع أن يمنع روسيا من دخول الحرب عندما يرغب في ذلك).

- ماذا تعني بالله عليك؟

- إن الرجل الذي رأيته في الأستوديو اليوم هو (بارون هوسبرج) وهو صديق حميم لم يبتاع جميع صوري، وقد أعطاني جعلاً في الشهر الماضي لأرسمه في زي شحاذ! ماذا ترجو من أهواء مليونير؟ ولكن يجب أن أعترف أنه بدا مثالاً رائعاً في خرقه، أو في ملابسي أنا، لأن ما كان يرتديه إن هو إلا عباءة قديمة لي اقتنيتها من أسبانيا.

فصاح هوفي (بارون هوسبرج! يا الله! فقد نفحته جنيهاً!) وغاص في المقعد المريح مرتعباً فزعاً.

وانفجر تريفور في الضحك (منحته جنيهاً! لن تراه ثانية يا ولدي العزيز، فما أعماله إلا مستمدة من نقود الآخرين).

وقال هوفي عابساً (أظن أنه كان يجب أن تخبرني يا آلن، ولا تتركني أخدع نفسي إلى هذا الحد).

- في الحقيقة لم يتصور عقلي أنك توزع الصدقة بتلك الطريقة الطائشة. إني افهم تقبيلك نموذجاً جميلاً، ولكن إعطاءك جنيهاً لنموذج قبيح - لا، بالله، لا! فهذا مستحيل. وعلاوة على ذلك فالحقيقة أني أنكرت وجودي في الأستوديو لكل طارق اليوم، فعندما دخلت أنت لم أعرف هل يحب (هوسبرج) أن يذكر اسمه، فأنت تعرف أنه لم يكن يرتدي ملابسه الرسمية.

- لابد أنه حسبني شيخ البلهاء في هذا البلد.

- لا، أبداً. فقد كان مسروراً بعد خروجك، وكان يحدث نفسه ويمسح يديه المجعدتين؛ ولم أستطع أن أستنتج سبب شغفه بمعرفة كل شيء عنك، ولكني فهمت كل شيء الآن.

- (إني شيطان عديم الحظ) زمجر هوفي (خير ما أستطيع عمله هو الإيواء في مخدعي. ويا عزيزي آلن يجب ألا تخبر أحداً بما حدث، فإني لا أستطيع أن أواجه المجتمع)

- ولم ذلك؟ إن عملك هذا لأقوى دليل على حبك لخير البشر يا هوفي. والآن خذ سيجارة أخرى وتحدث عن (لورا) بقدر ما تحب.

بيد أن (هوفي) لم يطع وذهب إلى منزله حزيناً مكتئباً، وترك (آلن تريفور) يقهقه من شدة الضحك.

وفي الصباح التالي في أثناء تناول (هوفي) طعام الإفطار حمل إليه الخادم بطاقة كتب عليها (المسيو جوستاف فودان من طرف البارون هوسبرج) فأمر الخادم بدخول الزائر ودخل الحجرة رجل عجوز بمنظار ذهبي وشعر رمادي وقال بلهجة فرنسية (هل لي شرف التحدث مع المسيو أرسكاين؟).

فانحنى هوفي.

وقال الرجل: (جئت من عند البارون هوسبرج، والبارون. . .).

تلجلج هوفي (أرجو يا سيدي أن تقدم للبارون أصدق اعتذاراتي).

فقال الرجل العجوز مبتسماً: (كلفني البارون أن أحمل إليك هذه الرسالة)، وقدم له مظروفاً مختوماً.

وكتب على خارج المظروف: (هدية زفاف لهوفي أرسكاين ولورا مرتون، من متسول عجوز)، وكان بداخله صك بمبلغ عشرة آلاف جنيه.

ولما تزوجا كان (آلن تريفور) شاهد العروس، وألقى (البارون هوسبرج) كلمة في حفلة الزفاف.

وتعجب آلن قائلاً: (إن من أندر الأمور الظفر بنموذج مليونير. ولكن أندر منه الظفر بمليونير نموذجي).

بولس عبد الملك

بمعهد الصحافة بالجامعة الأمريكية

1

1