مجلة الرسالة/العدد 694/رد على نقد:

مجلة الرسالة/العدد 694/رد على نقد:

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 10 - 1946



مع البلاغيين. . .

للأستاذ علي العماري

كتب الأستاذ كامل شاهين في عدد (الرسالة) (692) مقالاً تحت عنوان (علوم البلاغة بين القدامى والمحدثين) يرد به عليَّ وعلى الأستاذ علي الطنطاوي فيما كتبناه عن علوم البلاغة في الجامعة. وأنا أوثر أن أترك للأستاذ الطنطاوي أن يرد عما وجهه إليه الكاتب. فللأستاذ أسلوبه وقلمه البليغ، وما أحب أن يحرم قراء (الرسالة) من بيانه في هذا الموضوع.

والأستاذ شاهين مشكور لأنه لما رأى سكوت الأستاذ الخولي وجماعته من الذين يسمون أنفسهم (الأمناء) تبرع بالذب عنهم، والانتصار عنهم، والانتصار لهم، وما أظنهم راضين عنه فقد كان السكوت أولى من مثل هذه الرد المملوء أخطاء وتخليطاً، وحسب القراء أن أنقل إليهم الفقرة الأولى من كلامه ليتبنوا مدى ما فيها من الأغاليط:

1 - (تقول إن الفكرة المتسلطة عليه في هذا الفن أن يجعل لكل عبارة من عباراته منبعاً لمعان نفسية. أي نعم يا عليّ، أأنت قرأت تعريف البلاغة؟ إن الذي لا يختلف فيه اثنان هو أن البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ولا أزيد بيانا ولا بسطا ولكن هذه المطابقة لا تكون إلا بإدراك المتكلم لنفسية السامع وما تحوي من ملابسات. فهذا فحوى كلام الأستاذ الخولي أفتماري في هذا؟ إذن فهات تعريفك أنت لعلم البلاغة فأنا منتظرون).

وأنا قد قرأت تعريف البلاغة، واطلعت على أكثر الكتب التي عرفت البلاغة، ومما يؤسف له يا سيد كامل أن أحداً من العلماء لم يعرف البلاغة هذا التعريف الذي كرته، ويبدو لي أنك تريد أن تجدد كما يجدد الشيخ أمين الخولي، والتجديد سهل ميسور، ما دام قصارى المجدد أن يسوق قضايا مخطئة، وإليك ما أعرفه أنا وما يقوله العلماء في تعريف البلاغة:

ذكر يحيى بن حمزة صاحب كتاب الطراز وهو من الكتب المعدودة في البلاغة تعريفها فقال: (أعلم أن البلاغة في وضع اللغة هي الوصول إلى الشيء والانتهاء إليه فيقال بلغت البلد أبلغه بلوغاً والاسم منه البلاغة، وسمي الكلام بليغاً لأنه قد بلغ به جميع المحاسن كلها في ألفاظه ومعانيه، وهو في مصطلح النظار من علماء البيان عبارة عن الوصول إلى المعاني البديعة بالألفاظ الحسنة، وإن شئت قلت هي عبارة عن حسن السبك مع جودة المعاني) فهذا عالم من علماء القرن الثامن الهجري وهو يذكر أن هذا التعريف (في مصطلح النظار من علماء البيان) وعرفها أبو هلال العسكري صاحب الصناعتين فقال: (البلاغة كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع فتمكنه في نفسه لتمكنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن)، وللعلماء والأدباء تعاريف كثيرة للبلاغة ليس منها: مطابقة الكلام لمقتضى الحال.

ونحن إذا ما سألنا طالباً صغيراً عن تعريف علم المعاني يقول: (إنه علم بقواعد وأصول يعرف بها مطابقة الكلام لمقتضى الحال). فإذا قلنا له: هل مطابقة الكلام لمقتضى الحال هي البلاغة يقول: لا. بل لابد من زيادة وإضافة إليها. فنقول كما قال بعض العلماء (مع فصاحته)، وهذه عبارة مهمة جداً ومكملة للتعريف.

والطلاب الصغار يعرفون أن علوم البلاغة ثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع. وأن لكل علم تعريفاً خاصاً، ولا يصلح تعريف علم منها لأن يكون تعريفاً للبلاغة. فهل يصر الأستاذ شاهين على أن هذا التعريف للبلاغة (لا يختلف فيع اثنان) أو يسلم معنا أنه كبا حيث أراد النهوض.

على أني كنت أنقد كلام الأستاذ في علم البيان وقلت (في هذا الفن) أقصده فهل يحتج بتعريف علم المعاني على كلام في علم البيان؟

2 - قلت إن اللغة العربية مملوءة بالتشبيهات المحسة التي لا ترمي إلى معان وراءها، وعبت على الشيخ الخولي أن يعتبر جمل العلماء بيان حال المشبه من أغراض التشبيه (كلاماً فارغاً) فجاء الأستاذ شاهين يرد علينا هذا، وهو لم ينصف الشيخ أمين ولم ينصفنا.

العرب يقولون: أسود كحنك الغراب، ويقولون: أحمر كالدم القاني، ويقول امرؤ القيس:

ترى بعر الآرام في عرصاتها ... وقيعانها كأنه حب فلفل

ويقول الله سبحانه وتعالى (وجفان كالجواب وقدور راسيات) أفلا تكون هذه التشبيهات مقبولة حتى نتلمس لها معاني وراءها.

على أن الخبط وتلمس المعاني سهل ميسور ما دمنا لا نبالي الخطأ. فكل إنسان يستطيع أن يحمل النصوص ما لا تحتمل، ولذلك مثال سقناه في مقالنا الثالث المنشور في (الرسالة) وهو تعليق الشيخ أمين على بيت بشار بن برد.

3 - ونحن لا نأخذ كلام المتقدمين قضايا مسلمة دائماً، كما لا نهتم أذواقهم ولكنا نقبل منها المقبول، نرفض ما يتبين أنه ضعيف واهٍ. وليس كلامهم الذي سقناه بالكلام الضعيف الواهي ولكنه حسن جميل يعتمد على الذوق قبل كل شيء، فأنت حين تسمع ذكر المشبه تستشرف لما يجيء بعد وتخطر في ذهنك أكثر التشبيهات القريبة؛ فإذا جاء الشاعر أو الناثر بتشبيه بعيد نادر وقع من نفسك موقعاً حسناً، وعرفت مقدار ما عانى الشاعر في استخراج هذا التشبيه. والتشبيه فن، وهو يكون في الماديات البحتة كما يكون في المعنويات، وتلمس المعاني وراء كل تشبيه إنما هو تعنت وحذلقة.

أين المعاني النفيسة وراء قول طرفة:

كأن حدوج المالكية غدوة ... بقايا سفين بالنّواصف من دد

أو قول امرئ القيس:

كأن ثبيراً في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمّل

أو قول المهلهل بن ربيعة:

كأنة غدوة وبنى أبينا ... بجنب عنيزة رَحَيَا مدير

أو قوله:

كأن رماحهم أشطان بئر ... بعيد بين حالَيْها غرور

الخ. . . الخ.

وتكذب على هذه التشبيهات بما شئت فأنك تستطيع أن تحيطها بكثير من المعاني، ولكنها بعد من عندك وصنعك، ولم يفكر فيها الشاعر ولا إليها قصد.

يختلف معي الأستاذ شاهين في سر إعجاب جرير بن الخطفي بتشبيه عدي بن الرقاع في بيته:

تزجى أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها

فهو يرى أن سر إعجابه أن هذا التشبيه حضري وعدى بدوي جلف جاف، وأنا أرى أن سر الإعجاب أن الشاعر استطاع أن يأتي بمشبه به موافق كل الموافقة للمشبه. ثم جاء به من كان بعيد لا ينتظر أن يهتدي إليه.

غزال صغير له قرن صغير في طرفه سواد أراد الشاعر أن يلتمس له شبهاً وجرير حاضر فوقع في نفسه أنه لا يمكن الإتيان بشبيه له لدقته وبعده عن الإفهام، فلما تهدى إليه الشاعر ووجده في قلم لم يصب من المداد إلا قليلا ووجد جرير أن الشبه تام بين المشبه والمشبه به عدياً على هذه القوة البيانية.

أما أنه حسده على أنه أتى بشبيه حضري فمعنى ذلك أن جريراً كان يتوقع من الشاعر أن يهتدي لهذا التشبيه نفسه أو مثله من التشبيهات الحضرية، وما أظن جريراً خطر على باله شيء من ذلك. وهب أن شاعراً شبه شيئاُ بدوياً بشيء حضري وكان التشبيه ضعيفاً واهناً أكان يعجب ذلك جرير. لا. وإنما إعجابه كان لما ذكرنا.

5 - كنت أحب للأستاذ شاهين أن يخلو نقده من هذه الكلمات.

(فليسمح لي الزميلان الطنطاوي والعماري أن ألفت نظرهما إلى مزالق ما كنت أحب لهما أن يتورطا فيها أو ينحدرا إليها).

وقوله: (فأما إذا انحدرت إلى هذا فهلم) وقوله: (وليس هذا بالكلام يصغي إليه) إلى غير ذلك من الكلمات التي تجرح وأظن أنا كلنا له صاعاً بصاع فان زاد زدناه.

علي العماري

المدرس بمعهد القاهرة