مجلة الرسالة/العدد 696/الأدب في سير أعلامه:
مجلة الرسالة/العدد 696/الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 31 -
البطل الضرير:
أيقن ريتشارد ولم يكن له شيء مما كان لأبيه من قوة العزم وصدق العبقرية أن الجيش قد غلبه على امره، بعد أن اثر الانحياز إليه وطرد من اجل ذلك البرلمان الذي اجتمع في عهده لكثرة أنصار الملكية فيه، فلم يعد له وهو حامي الجمهورية بعد أبيه من السلطان شيء، ففضل أن يركن إلى الدعة وان يفلت من الحكم إذ لا طاقة له بالنضال والاقتتال في وقت اضطربت فيه شؤون الدولة وتصارعت أهواء الرجال، فترك (هويت هول) إلى داره قبل أن تكرهه الحوادث إكراهاً على ذلك. . .
وأصبح الحكم لرجال الجيش، وكان على رأسهم في إنجلترا لامبرت، ولكن لامبري فوجئ بهجوم منك قائد كرمول في اسكتلندة فنهض لملاقاته، وتهددت البلاد حرب جديدة، ولكن فيرفاكس ذلك الذي مجده ملتن بمقطوعة من مقطوعاته - كما رأينا - انذر لامبرت بأنه منضم إلى منك، فاستخذى لامبرت وتفرق أصحابه وتم الأمر لمنك، فدعا مؤتمراً لينظر ما إذ ينبغي فعله، فجاءت الكثرة فيه من الملكيين والبرسبتيرينز الذين أذعنوا على رغمهم سنين للجيش: واجتمعت كلمة المؤتمر على إعادة الملكية، وذلك في مايو سنة 1660.
وكان ملتن في ذلك الجو المليء بالعواطف لا يزال يشغل نفسه بالدفاع عن الجمهورية، فنشر في مارس سنة 1660 آخر كتيباته السياسية، وجعل له عنواناً طويلًا هو: (الطريقة العاجلة السهلة لإقامة جمهورية حرة وما يترتب على ذلك من حسنات إذا قورن بالأخطاء وعدم التلاؤم المترتبين على السماح بإعادة الملكية في هذه الأمة).
وحسب القارئ عنوان الكتاب وحده للدولة على مبلغ ملتن من الشجاعة؛ وليس مصدر شجاعته التهور ولا الجهل بما يحيط به كما قد يخيل إلى بعض حسدته وكارهيه، وإنما كان مثله مثل الجندي في مدينة محاصرة، إذ تأبى عليه نفسه إلا أن يطلق آخر ما في كنانته وان يبذل أقصى ما في طوقه أنفة منه وحفاظاً وان علم انه هالك لا محالة!
ولم يقف ملتن وحدة للدفاع عن الجمهورية الذاهبة وتخويف الناس وتحذيرهم من الملكية العائدة، وإنما حذا حذوه طائفة من أنصار الحكم الجمهوري، فكان هو بكتيبة هذا ترجمانهم القوي الأمين، ولكن هؤلاء الجمهوريين كانوا في الحق أشبه بعلماء بيزانطة الذين اشتد بينهم وبين خصومهم الجدل، بينما كان محمد الفاتح يقرع عليهم أبواب مدينتهم، وقد سوى جنده واعد للأمر عدته!
وان المرء ليتملكه العجب حقاً إذا قرأ ما جاء في كتيب ملتن، وقد نشر قبل مجيء شارل الثاني بنحو شهرين. أقرا مثل عبارته هذه وانظر أي مبلغ بلغت شجاعته. قال: (حقا أن الناس قد أصابهم الجنون، أو أطبقت عليهم الغفلة، فهم يعلقون أكبر آمالهم في الطما نينة أو الأمن على رجل واحد، لا يصنع أكثر مما يصنعه أي رجل غيره إن جاءت به المصادفة طيباً، ولكن له القوة ما يصنع به من الشر أكثر مما يصنع ملايين الناس إن كان خبيثاً، وليس يصده عن وجهه أحد؛ إن سعادة الناس لا تتحقق إلا في مجلس حر يختارونه كله بأنفسهم حيث لا يتحكم فرد واحد ولكن يسود العقل وحده؛ وأي جنون هذا الذي يبلغ بقوم يقدرون على أن يديروا شؤونهم في نبل حتى يلقوا تدبير هذه الشؤون على كاهل رجل واحد، ويفعلون ذلك في ضعف واستخذاء، فيكونون أشبه بصبية لم يبلغوا سن الرشد إذ يتركون كل شيء لرعايته ومطلق تصرفه في حين انه لا يستطيع أن ينهض بما تعهد به، وهو في الوقت نفسه إذ يؤجر على تعهده لا ينظر إلى نفس نظرة خادمهم، بل يعد نفسه سيدهم المطاع!)
ويقترح ملتن أن يكون للمجلس الذي يشير إليه حق الاجتماع مدى الحياة، فلا يتغير رجاله كل مدة معينة إلا من مات أو تركه لأمر ما؛ ويقول ملتن أن هذا المقترح يبدو عجيباً لأول وهلة عند قوم ألفوا البرلمانات، ولكنة ضائق بهذه البرلمان المتغيرة، وعنده أن مثل هذا المجلس الدائم يكون أجدى على الدولة، لأنه يكتسب الخبرة بطول الامد، ويقف على حقيقة ميول الناس، وما يتطلبه إصلاح أمورهم وتتوثق صلاته بهم، كما تعظم خبرته بالأمور الخارجية، ولكي تضمن الدولة صلاحية من يختارون وصلاحية من اختيروا، ينبغي أن تصلح نظام التعليم وتغرس في نفوس الناس حب الفضيلة والإيثار والتواضع والاعتدال، فلا يغترون بالمظاهر، ولا يخضعون لذوي المال والجاه، ويجب أن يعلموا مبادئ الحرية، ويعلموا كيف يسمون بأرواحهم وعقولهم ولن يحقق هذا للناس إلا جمهورية رائدها الخير للجميع.
ولكن ملتن يائس من بني قومه، انهم لن يستمعوا له فيقول: (أني على يقين انه كان على أن أتحدث إلى الشجر والحجارة فحسب، فليس ثمة من اصبح به، ولكني اهتف مع النبي: أيتها الأرض. . . أيتها الأرض. . . أيتها الأرض. . . لأني التربة نفسها ما يصم أبناؤها المخالفين آذانهم عنه)!
ويتحسر ملتن على الأمل الضائع فيقول (أين ذلك البرج الشاهق الطيب؟ أين الجمهورية التي افتخر الإنجليز بأنهم يقيمونها لتغشي الملوك بالظلمة وتكون روما أخرى في الغرب؟. . إذا عدنا إلى الملكية ووجدنا المساوئ القديمة تعود شيئا فشيئا. . تلك المساوئ التي لا بد أن تنجم عن الملك والقسيس مجتمعين، فربما اضطررنا إلى أن نحارب مرة ثانية كل ما حاربناه من قبل، وكلما اعتبرت في هذه الأشياء الواضحة السهلة المعقولة!)
ولكن هذه الصيحة على قوتها وبلاغتها وما تنطوي عليه من حرارة الأيمان وجراءة القلب، ما لبثت أن ضاعت في ضجيج الناس وأفراحهم بالملك العائد وذهبت في المواكب الهاتفة وفي رعود المدافع القاصفة، كما تذهب حفنة من الماء يلقى بها في عباب دافق، فها هو شارل الثاني يهبط إنجلترا في اليوم التاسع والعشرين من شهر مايو سنة 1660، وهو يوم عيد ميلاده، فاصبح كذلك عيد عودته، وكان له من العمر يومئذ ثلاثون عاماً.
وكانت عودة الملكية وبالا على ملتن والجمهوريين جميعاً؛ فقد فَقد منصبه بالضرورة، ولكن فَقد المنصب خطب هين إذا قيس إلى ما بات يتهدده وأصحابه، ولم يك ملتن يتوقع اقل من الشنق نكالا به وبمن ذهب مذهبة من الجمهوريين، وكان اسمه ابغض الأسماء إلى الملكيين بعد اسم كرمول وحده، ولم يعف كرمول الموت من التنكيل برفاقه. فقد بلغ الحنق بالعائدين أن نسوا إنسانيتهم فاخرجوا رفاته من القبر وشنقوا ما تركه البلى من عظام كما يشنق الأحياء في حفل شهده الناس؛ ولن يصل الحقد والحنق فيما نرى إلى ابعد من هذا، ولن يكون في السخف ما هو اسخف من هذه الفعلة التي نحار كيف نصف شناعتها، وأي نعت ننعتها به، وإذا كان هذا موقف الحانقين من الموتى فكيف بموقفهم من الأحياء ومن ملتن على الأخص ذلك الذي دافع عن إعدام شارل والذي ناصر حكومة كرمول بكل ما في طاقته من جهد، والذي لم يأل جهداً في السخرية من أسرة ستيوارت وأطلاق قلمه فيهم بكل عيب، والذي ظل عدواً للملكية يرى فيها شراً محققاً ويدعو الناس إلى كراهيتها بكل ما في وسعه من أوجه القول ووسائل الإقناع إلى ما قبل عودتها بنحو شهرين. . .
ولم يك يشك أحد من أعدائه انه يتحدى الموت، وإلا فما باله يريد أن يسمع الشجر والحجارة ما لا يريد الناس أن يسمعوا، وما باله يظل على عناده لا يتزلزل ولا يتحول، وأيقن أصدقاؤه أن الموت لا محالة جزاؤه، فحملوه إلى سمنفيلد حيث أخفوه أربعة اشهر من مايو إلى أغسطس 1660.
وفي أواخر أغسطس اصدر الملك عفواً عاماً عن أعدائه السياسيين إلا من جاءت أسماؤهم في قرار العفو، فهؤلاء حق عليهم العقاب، وهم الذين كانت لهم صلة وثيقة بمحاكمة شارل الأول وإعدامه، وقد اعدم من هؤلاء عشرة وألقى في السجن عدد غيرهم، ولم يك ملتن من هؤلاء ولا من هؤلاء، إذ لم يدرج اسمه فيمن استثني من العفو. . .
وكيف تأتي ذلك؟ كيف نجا ملتن من حبل المشنقة وهو الذي برر إعدام شارل في كتاب أذاعه في أوربا لا في إنجلترا وحدها؟ هل أنجاه الاختفاء؟ كلا؛ فلم يك يمنع اختفاؤه أن يجئ اسمه فيمن يقتلون أو يسجنون حتى يعثر عليه.
لقد ذكرت آراء حول نجاته، ولكن مردها جميعاً إلى الظن، إذ لم يقف المؤرخون على حقيقة مقررة في هذا الأمر؛ فمن قائل أن أصدقاءه في البرلمان الجديد بذلوا قصارى جهدهم لينجوه، كان له في البرلمان بضعة نفر من المعجبين به منهم صديقه الحميم مارفل؛ وثمة رواية رواها ريتشارد سون في مذكراته وهو أحد من كتبوا عن ملتن في أوائل القرن الثامن عشر، وقد استمد من الشاعر بوب الذي يعزوها إلى بترتون أحد مشاهير الممثلين في الفترة التي أعقبت عودة الملكية، والذي يرجح انه أخذها بدوره من الشاعر الملكي دفنانت، ومؤداها أن دفنانت هذا قد ألقى به في السجن أثناء النزاع بين شارل الأول والبرلمان، ولكن ملتن عمل على نجاته وما زال يسعى حتى أطلق سراحه، فلما دارت الأيام دورتها ووقع ملتن في مثل ما كان فيه دفنانت، رد هذا الشاعر له الجميل فعمل على خلاصه؛ وهناك رأى غير هذين يميل إليه كثرة النقاد ومنهم دكتور جونسون وخلاصته أن مرد نجاته إلى شيء من القدر وشيء من العطف، فإن رجلا مثل ملتن كان خليقاً أن يحمل بعقوبته كثيراً من أولى الرأي والبصيرة على أن يقدروه حق قدره فيطلقوه لما هو عسى أن يأتي به في الشعر والفن مما يكون من مفاخر بلاده؛ كذلك كان ملتن خليقاً أن يحمل الظافرين على الرحمة به لما أصابه، فهو اليوم ضرير فقير وحسبه ما أنزله به الدهر من حزن وما ناله به مكن عقوبة؛ ولقد كانت كلمة واحدة من شارل كفيلة أن تفقده حياته، ولكنها كانت تفقد أدب إنجلترا وأدب الدنيا كلها (الفردوس المفقود) و (الفردوس المستعار) و (سمسن اجنستس)، تلك الآثار الخوالد التي ما كانت تجود بمثلها أو بما يقرب منها عبقرية غير عبقرية ملتن.
وشمل العفو ملتن، لكن كان الناس عجباً بعد ذلك أن يأمر البرلمان به فيلقى في السجن، حيث أحرقت كتبه أمامه، وان لم يرى شيئاً حوله، فإن ما يحيط به من ظلمة لن يمحوها ألف نار كالنار التي أوقدتها كتبه؛ ولا يزال أمر حبسه على هذه الصورة غامضاً، ولكن (ماش)، وهو من اشهر من كتبوا عنه يفسر ذلك بأن البرلمان كان قد اصدر هذا الأمر بمسعى أصحابه ليجنبوه الكارثة الصحيحة، وهي إدراج اسمه في المستثنين من العفو! ومهما يكن من الأمر، فانه لم يلبث إلا قليلا حتى أمر بإطلاقه، ولإطلاقه قصة نوردها كشاهد جديد على عناده واستكباره، حتى في مثل هذا الظرف، فقد طلب إليه القائم على أمر السجن أن يدفع أجرة أقامته حسب المتبع، ولكن ملتن رأى انه غالى فيما طلب، وأحس في ذلك جوراً ظن انه مقصود به فرفض أن يدفع - وفي يده المال المطلوب - فما يطيق أن يتحكم فيه رجل مهما لقي من عنت الأيام، وتقدم أصحابه فأدوا عنه المال المطلوب على غير علمه، وجاء بعضهم فأخرجه من السجن، وكان ذلك في نهاية سنة 1660، وله من العمر اثنتان وخمسون سنة.
ولولا ما كان يحيط بالشاعر العظيم من أسباب الشقاء والأسى لجاز أن يتطرق شيء من الفرح إلى فؤاده، وقد نجا من الموت واسترد حريته، ولكن أين هو من الفرح، وإنه ليذوق مرارة الفشل ويجرر أذيال الخيبة؛ ففي اشهر ذهبت جهوده التي بذلها في عشرين سنة من عمره هباء، وخر صرح آماله من قواعده ورأى أصحابه يساقون إلى الموت، كما سمع بالقبور تفتح فيحمل إلى المشنقة من طوتهم يد المنون! وبلغ من نفسه كل مبلغ أن يجد الكنيسة وقد عادلها سلطانهم في ظل الدولة، وان البرلمان يقيد حرية النشر بقيود غليظة، وان الحياة يشيع فيها الفجور والفسوق، ويتسلط على سياسة الدولة النساء والمتعصبون والأذلاء من المتملقين والماجنين.
وترك ملتن الحي القريب من هويت هول، واتخذ له مسكناً بعيداً في المدينة أو فيما جاورها. ويقول ريتشارد سون إنه لبث أياماً ينتابه الرعب أن يؤخذ غيلة بيد متعصب من أنصار الملكية، وذلك كان قليلا من الليل ما يهجع، وكان خوفه على بناته اشد من خوفه غلى نفسه!
وقل حظه من الثراء قلة كبيرة، فقد فقدَ مرتبه كما فقدَ ألفين من الجنيهات تعادل سبعة آلاف من جنيهاتنا اليوم كان قد أودعها في مأمن حكومي أثناء الجمهورية، فصودرت كما صودر بعض ما اشتراه من أملاك؛ على انه على الرغم من ذلك ظل يعيش عيشة مرضية لا هي إلى الرغد ولا هي إلى العوز.
وأصابه النقرس، فكان يلقى من الآمة ما يتضاءل عنده ما يعاني من عمى، وظل هذا المرض ينتابه من حين إلى حين، فيضيف آلامه إلى ما ترشقه به الأيام من سهام!
وكان اوجع هاتيك السهام ما كان يلقاه على أيدي بناته، وكانت كبراهن سنة 1661 في الخامسة عشرة من عمرها، ووسطاهن في الثالثة عشرة، وصغراهن في الثامنة؛ وهن بناته من زوجته الأولى التي ماتت سنة 1652؛ وكان يتمل أبوهن أن يكن انسه وسلوت نفسه في وحدته وشقائه، ويكن له عوناً على الأيام، وهو الضرير الذي زال عنه جاهه وألح المرض على بدنه، وهجره إلا قليلا ابنا أخته، إما انشغالا بما ملأ قلبيهما من لهو أو تهرباً مما يكلفهما به من قراءة ومراجعة، ولم يذكرا يده عليهما وقد رباهما في بيته صغيرين ولبثا في رعايته من عمريهما سنين.
ولكن عقوقهما لم يك شيئاً مذكوراً تلقاء عقوق بناته، فقد كان أسوا ما لقي من دهره هذا العقوق الذي ذاق معه اعمق الحزن، وهو الشاعر الذي تتأثر نفسه بالمعاني أضعاف ما يتأثر بها غيره من الناس، ولعقوق بناته إياه قصة يحسن أن نأتي بها على سردها. . . .
(يتبع)
الخفيف