مجلة الرسالة/العدد 696/بعض الذكرى. . .!

مجلة الرسالة/العدد 696/بعض الذكرى. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 11 - 1946



للأستاذ محمود محمد شاكر

كان ذلك منذ عشرين سنة، وكنت فتى لا يمل الدؤوب والسعي، وكانت أول مرة ادخل فيها بيت ذلك الشيخ الضئيل البدن المعروق اللحم، الذي ينظر إليك أبداً كالمتعجب. وكان الذي سعى بي إليه حب قد ملأ قلبي له، وإجلال قد أخذ علي العهد أن أفي لهذا الشيخ ما حييت وفاء الذكرى ووفاء العلم ووفاء الاقتداء؛ وكنت يومئذ قد حضرت بعض دروسه في مسجد البرقوقي، وقرأت عليه شيئاً من كتاب أبى العباس المبرد، وكان يعدني كبعض ولده لسابق معرفته بابي رحمهما الله. وكنت يومئذ سقيم الجسم خفيف اللحم نحيل التجاليد ثائر الشعر، فإذا لقيته فربما كان يقول لي: (كأنك آيب من سفر بعيد أيها الفتى). فكنت افهم عنه، فإذا انقلبت إلى الدار عدوت إلى المرأة لأرى ماذا حمل الشيخ على مقالته التي لم يزل يقولها لي ويدي على يده أو في يده، فما أرى سوى وجه شاحب ضامر، وعينين غائرتين كأنهما تنظران إلى شيء بعيد في جوف وادي سحيق عميق. فأقول لنفسي: هذا جهد التحصيل وكد النفس في قراءة هذه الأسفار القديمة التي تباعدت معانيها وتقادمت عهودها.

طرقت بابه في ذلك اليوم على غير ميعاد، ففتح لي صغير من حفدته وقادني إلى غرفة الشيخ، فإذا هو جالس على حشية على بساط كالح من تقادم الأيام، وعلى يمينه خزانة كتب مطوية من جوف الجدار، وأمامه صينية صفراء من نحاس فيها أداة القهوة، وعلى يساره كتب مركومة، وفي يمناه قلم يكتب. فلما سمع حسي رفع إلي بصره وسكن، وظل كذلك ساعة وأنا بين يديه يأخذني ما قرب وما بعد من هيبته، وجعل ينظر إلي فأطال النظر؛ ثم لم يلبث أن قال بصوت خافت ما كنت لأتبينه لولا أني عرفت الذي يقول وكنت احفظه، وهي هذه الأبيات من شعر بعض الأعراب:

رأت نِضْوَ أسفارٍ، أميْمة، شاحباً ... على نضو أسفارٍ، فجنَّ جنونها

فقالت: (مِن آيَّ الناس أنت؟ ومن تكن؟ ... فإنك راعي صِرمْةٍ لا يَزينُها!)

فقلت لها: (ليس الشُّحوبُ على الفتى ... بعارٍ ولا خيرُ الرجال سمينها.

(عليك براعي ثَلَّة مُسْلَحِبَّةٍ ... يَرُوحُ عليه مَخْضُها وحَقِينُها ... وانعم_أبكارُ الهموم وعُونُها) وكان الشيخ حسن التقسيم للشعر حين يقرؤه، فيقف حيث ينبغي الوقوف، ويمضي حيث تتصل المعاني، فإذا سمعت الشعر وهو يقرؤه فهمته على ما فيه من غريب أو غموض أو تقديم أو تأخير أو اعتراض، فكأنه يمثله لك تمثيلا لا تحتاج بعده إلى شرح أو توقيف، وكان في صوت الشيخ معنى عجيب من الثقة والاقتدار، وفي نبراته حين ينشد الشعر معنى الفهم للذي يتلوه عليك، فلا تكاد تخطئ المعاني التي ينطوي عليها، لأنها عندئذ ممثلة لك في صوته. والصوت الإنساني هو وحده القادر على الإبانة عن المعاني الخفية المستكنة في طوايا النفوس أو في أحاديث النفوس.

ورب رجل أو امرأة تسمع كلامه أو كلامها وأنت لا تعرف عن أحدهما شيئا، فيخيل إليك وأنت تسمع انك قد نفذت على نبرات هذا الصوت إلى اعمق الأعماق المدفونة في هذه النفس الإنسانية التي تحادثك، وهذا شيء لا يكون إلا في ذوي النفوس الصادقة الصافية البريئة من حشو الحياة وسفسافها، وهذه النفوس وحدها هي القادرة على أن تجعل الصوت بمجرده لغة مبينة عن اغمض المعاني التي تعجز لغات البشر عن حملها وأدائها.

وأنت محتاج حين تسمع (لغة الصوت) أن تكون يقظ النفس حي الإحساس، نفاذاً إلى المعاني المتلفعة بالغموض، حسن التيقظ للنبرات التي تدل على ضمير اللفظ، سريع الخاطر في إدراك هذا الموج المتلاحق من الحركات المختلفة. فإذا كان الذي تسمعه كلاما يتلى أو ينشد كالشعر مثلا، وكان الذي ينشده قد عاش ساعة في معانيه حتى تلبس بها ونطق لسانه معبراً عن لسانها وعن لسان قائلها الأول - كان عليك أن تكون ليناً طيعاً سريع التبدل جرئ النفس في غمرات العواطف، حتى يتاح أن تعيش أنت نفسك في هذه المعاني ساعة تتلى عليك. وعندئذ تغشاك غمرة لذيذة تدب في غضون نفسك، فتحس كأنك تبعث بعثاً جديداً في حياة جديدة حافلة بالصور التي قلما يدركها العقل إلا مشوهة مشيأةً متخالفة التركيب، فلا يزال يجهد في تلفيق أجزائها حتى لا يبقى من أصولها الحية الصريحة الصادقة شيء البتة. فإن استطعت يوماً أن تجد في نفسك انك مستطيع أن تكون على هذه الصفة، فقد فهمت الشعر ونفذت إلى أغواره، وإن عجزت عن بيان ما فيه.

وفي الناس ناس، وقليل ما هم، قد أجادوا (لغة الصوت) إجادة بارعة، وان كانوا في أكثر الأحيان لا يدركون أنهم يحسنون منها شيئاً، وذلك لطول ما انطووا على أنفسهم حتى غمروها في بحر النسيان. وربما سمعت أحدهم وهو يتكلم، فما يكاد ينطق حرفاً أو حرفين حتى تحس كأن كل معاني نفسه تتسرب في نفسك واضحة بينة، وانك قد عرفت منها ما يكاد يخفيه عن الناس جميعاً؛ لأنه متكبر أو قانط أو هياب جزوع. وهذا الضرب من الناس هم اشد خلق الله حرصاً على إخفاء آلامهم، وأبعدهم رغبة في الاستمتاع بالعذاب الذي يقاسونه، لأنهم يظنون انهم بذلك قد حازوا النصر على آلامهم، وعلى الناس أيضاً؛ إذ استطاعوا أن يواروا عنهم خبئ ما في نفوسهم الحزينة المعذبة. . .

لما سمعت الشيخ رحمه الله ينشد تلك الأبيات، تمثلت لعيني تلك المأساة الخالدة بين الرجل الصادق والمرأة التي احبها، وكانت تطمع أن يكون لها كما خيلت لها أوهامها، وان يأتيها بتحقيق أحلامها - أي أحلام حواء منذ كانت حواء، على اختلاف العصور وتباين الحضارات. فهذا أعرابي محب لصاحبته (اميمة) التي ذكرها في شعره، فدارت به الأيام في فيافي الحياة ملتمسا ما يحقق به أماني هذه المرأة المحبوبة، ثم عاد إليها وقد أذابت البيد منه ما أذابت بظمئها وشمسها وجوعها ومخاوفها. فلما رأته شاحباً مهزولا رثا أسوأ حالا مما عهدته، أنكرته وقد أثبتته معرفة، فجن جنونها لأنها محبة قد أخطأت في الرجل الذي تحب كل ما كانت تؤمله، وخانها ما كانت تتمثله في أحلامها من صحة وشباب وأناقة وجمال. وما أسرع ما تتنكر المرأة إذا خاب ظنها وتبددت أحلامها، وفاجأتها الحقيقة العارية بالشيء الذي يخال ما كانت تتوهم!

كانت المفاجأة صارخة في نفس اميمة، فلم تلبث أن غلبتها تلك الطبيعة المتقلبة الغدارة التي طال عهد المرأة بها، فأظهرت كأنها لا تعرفه ولم تلقه ساعة من دهر. وجرى على لسانها ذلك الحديث الذي يرويه لنا المحب، فقالت: من أي الناس أنت؟ ولم تقف عند هذا فأبدت الفزع منه لئلا يخونها ما في حنايا ضلوعها فيظهر على لسانها فعادت تقول: ومن تكن؟ ولكن أنى للمرأة الضعيفة التي زلزلت المفاجأة بنيانها أن تكتم حقيقة نفسها؟ لقد كانت منذ هنيهة تسأله سؤال الجاهل من هو ومن يكون، فإذا بها تنهار من شدة ما تعاني من اهتزاز كيانها، فتقول له مقالة الناقد الساخر، محاولة أن تبدي عن احتقارها وازدراءها لما ترى، فزوت عنه وجهها وهي تقول: لو كنت راعي ابل لكنت خليقاً أن تنكر النفوس والأعين ما ترى من حقارتك وبذاذتك، فكيف ترجو أيها المحب المغرور أن تكون حسناً في عين من تحب، وان تكون زيناً لامرأة احبتك؟ وهكذا المرأة - إلا من عصم الله. . .

فهم الشاعر المحب مرمى كلامها فأنف لنفسه، فانطلق يسخر منها بعد أن تكشف له ضمير المرأة الغادرة. فقال لها: ليس الشحوب على الفتى بعار، ولا خير الرجال سمينها، وإذا كان شحوبي قد ساءت وآذاك حتى أنكرت مني ما تعرفين، فنعم ولك العتبى علي. عليك بمن يزينك. اطلبي لنفسك راعي غنم قد اطمأنت به وبها الحياة، فعاش خافضاً وادعاً لا هم له إلا بطنه، حتى امتلأ وتضلع وغدا سميناً بضاً جميلًا كأحسن ما تأملين، فأنتن أيها النسوة إنما تحببن من الرجال الزينة وحدها، كأنكن إنما تتخذن الرجال حلياً لا أصحاباً ولا أزواجاً. وهكذا المرأة، هي لضعفها تؤثر لحياتها كل ظاهر يدل على القوة فهي تؤثر البدن القوي على البدن الضعيف، وتؤثر اليسر على الخصاصة، وتؤثر القناعة على الطموح، وان كان قلبها يؤثر بالحب ذلك الضعيف الفقير الطماح الذي اضر به الكدح، ولكن قلب المرأة هو آخر ما تهتم له إذا جاءها بمن لا ترضاه لحياتها؛ فالمرأة مفتونة بكل ما يدل على القوة الظاهرة، ولا تكاد تبالي شيئاً بالقوة المستكنة كالعلم والعقل والجهاد والصبر؛ لأنها تريد أن تحيا حياة مطمئنة محفوفة بما يحسدها علية النساء سواها لا أن تحيا مجاهدة في عذاب حبيب مجاهد.

ومنذ سمعت الشيخ ينشد تلك الأبيات، وقفت على كلمة في هذا الشعر لا أزال اعجب لها وهي: (أبكار الهموم وعونه) (أبكار الهموم)! يالها من كلمة عبقرية! أن مزية هؤلاء الأعراب البداة على سائر من نطق بالعربية هي هذه الجرأة العجيبة التي تنقض على اللغة فتنفضها نفضاً وتختار من ألفاظها كلمة تضعها حيث تشاء، فلا تراها تقلق في مكانها أو تضطرب، وهم بذلك يختصرون المعاني كلها في كلمة واحدة يخبئون فيها أحلامهم وخيالهم وأحاسيسهم وأسرار قلوبهم، كما خبا هذا الأعرابي كل ما كان في نفسه في (أبكار)، ودل بها على المعاني التي كانت تضطرم في قلبه حتى أضنته ومسحت وجهه بالشحوب،، وعرقت لحمة بالهزال، وصيرت إنساناً منكراً في عين من يحب.

فهذا الأعرابي الجريء، والمحب المزدري، الساخر المستخف عندئذ بالناس وبالنساء وبالحياة، قد أراد أن يعلم (أميمته) الباغية أنها إذا كانت تؤثر عليه أمراً غضاً ناضراً ناعماً لم تؤرقه هموم النفس ولم يضر به الكدح في بوادي الأحلام والآلام والآمال، فانه غني عنها، وعن سائر نساء العالمين - وأن أمثالها لسن له بهم، وأن له من حاجات نفسه وهمومها (أبكاراً) كأبكار النساء و (عوناً) كعونها، فهو راض بها وبما يلقي في سبيلها من ارق وسهاد. وأراد أن يعلمها انه لا يأسى على ما فاته من بكر ولا عوان، فإن للنفس الشاعرة هموماً (أبكاراً) لم تمسسها يد ولا فكر ولا حلم، تجد النفس المحبة فيها ما يجد المحب في العذراء الحيية العصية من فتنة وجمال ونظرة وشباب، ولا يزال يداورها ويحاورها ويشقى بالسعي في طلابها شقاءً لذيذاً له في القلب نشوة أو سعار. وهي (أبكار) لا تزال عذراء على وجه الدهر لا تغير منها الأيام شيئاً، ولا تنيل الطالب المحب إلا متاع الجب المجرد من شهوات الأبدان، بل هي تغتدي بالأبدان فتضنيها وتنهكها لتبقى هي أبداً أبكاراً.

وللنفس أيضاً هموما (عون) قد أصاب الناس منها أصابوا، ولكن بقيت منها للنفوس الشاعرة بقية فاتنة بما فيها من دلال وكبرياء وقدرة على الامتناع عند الإمكان، ونبل في الخضوع والتسلم عند العجز، فهي تداور صاحبها وتحاور حتى تشقيه شقاء لذيذا ثم تنيله ما يشاء حتى يرضى.

ولقد عجبت للشيخ يومئذ وهو يكرر: (لم تؤرقه ليلة، - وانعم - أبكار الهموم وعونها) فقد كان في صوته ما جعلني أنسى أني لم أزل واقفاً أنصت لدبيب هذه الحياة في جو الغرفة، ثم خرجت من عنده ولا يزال صدى صوته يردد في نفسي تلك الكلمات المصورة المبدعة: (أبكار الهموم وعونها).

محمود محمد شاكر