مجلة الرسالة/العدد 697/الأدب في سير أعلامه:

مجلة الرسالة/العدد 697/الأدب في سير أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 11 - 1946



ملتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 32 -

البطل الضرير:

أدت نظرة ملتن إلى المرأة أنها دون الرجل منزلة وعقلا إلى إهمال منه معيب في تعليم بناته فكبرن وحظهن من الثقافة قليل، وكن لا يعرفن إلا لغتهن إذ رفض أبوهن أن يعلمهن لغة غيرها. وكان يقول في ذلك ساخراً (حسب المرأة لسان واحد)؛ وكان أبوهن في شغل عنهن أكثر الأوقات بكتيباته وخصوماته وأعباء منصبه فكان يترك أمورهن للخدم. والحق أن ملتن كان متخلفاً عن عصره في النظر إلى تعليم البنت ولذلك لم يشايع كومنس حين كتب هو عن التعليم رسالته التي سلفت الإشارة إليها إذ كان كومنس يذهب مذهب أفلاطون في المساواة بين البنين والبنات، وكان لا يعني ملتن إلا بالبنين، وعنده أن من العبث تعليم البنت كما تعليم الكائنات العاقلة على حد تعبيره.

وأملت عليه بيوريتانيته أن يحيط بناته بشيء من الخشونة فلم يمتعهن كما تتمتع البنات إلا قليلاً، فأحسن استبداده بهن وأن لم يشعرن منه بغليظ أو فظاظة، وزاد إحساسهن شدة حرمانهن من أمهن، فقرر في نفوسهن شيء يشبه أن يكون جفاء منهن لأبيهن.

ولما عاد ملتن إلى الشعر وأراد أن يرجع إلى الكتب التي تتصل بموضوعه، كان يقرأ له ويكتب رجل أستأجره لذلك، ولكنه كان لا يعرف غير الإنجليزية حتى لقد شكا ملتن في كتاب إلى صديقه أنه كثيراً ما يتضجر ويضيق بهذا الكاتب الذي يضطر إلى أن يذكر له هجاء كل عبارة لاتينية يمليها عليه كلمة، وكان يقرأ له أحيانا بعض الشباب ممن تنافسوا في الخطوة بهذا الشرف وممن طلبوا الفائدة من القراءة له، كما كان يرسل بعض أصدقائ أبنائهم ليحظوا عنده بالقراءة أو الكتابة له وليقوموا بذلك ألسنتهم وليفيدوا عرفانا وبيانا.

ولكنه كان لا يضمن مجيء هؤلاء إليه كل حين، وعلى ذلك فقد عول على تعليم بناته النطق باللغات المختلفة وهن لا يفهمن شيئاً مما تتحرك به ألسنتهن وبذل في ذلك جهداً كبيراً وهو على حاله من المرض والعمى؛ وأنه لعجب أن يحرص هذا الحرص كله على المعرفة فلا يقعد عن وسيلة مهما بلغ من عسرها وأنها لحالة تملأ النفس أسى على ما مسه من ضر بقد ما تملؤها إعجاباً بعزيمته التي لا تعرف كلالا ولا سأماً. ولا ريب أنه كان يستشعر كثيراً من المرارة والحزن في تلك اللحظات التي لا يجد فيها من يقرأ له أو يكتب ما نظم من الشعر، ولم يك له عزاء في هذا البلاء إلا استغراقه في قصيدته الكبرى وإقباله عليها بكل جوارحه وارتياح نفسه إلى أن يحقق أملا طالما طاف بخيالة وأثلج فؤاده وأبهج نفسه.

وكان يدعو بناته ليقرأن له ما يطلب من الكتب اللاتينية والعبرية والإغريقية والفرنسية والطليانية والأسبانية، فينطقن نطقاً آلياً بعبارات لا يفهمن منها بالضرورة شيئاً؛ وكنت يضقن بهذا ويتبرمن به ويتضجرن منه، وحق لهن أن يكرهن هذا العمل كرهاً شديداً، فإذا دعاهن أبوهن إليه اقبلن متثاقلات متكرهات، ثم اعتذرت كبراهن بما في لسانها من حصر لا تحسن معه النطق فأعفاها أبوها من القراءة وجعلها للكتابة فوقع عبئ القراءة على الوسطى فازدادت بذلك ضيقاً وضجراً.

وما زال يشيد ضجر ماري وهي الوسطى حتى أصبح تمرداً وعصيانا فصارت تهمل ما يطلب إليها أبوها متغافلة أو متناسية. وكانت تعرض عنه أحيانا ساخطة ناقمة؛ وصبرت دبرا وهي الصغرى بعض الصبر، ولكنها ما لبثت أن تكرهت لأبيها وخشنت عليه وما برحت تشكو لأختيها أنه يدعوها في أي ساعة من ساعات الليل فيوقظها وهي مستغرقة في نومها لتكتب بضعة أسطر نظمها.

وتفاقم الأمر فكره البنات أباهن حتى ما يطقنه؛ قالت الوسطى مرة وقد سمعت أنه يزمع أن يتزوج (ليس في الحديث عن زواجه ما يعد جديداً من الأنباء أما أن أسمع بموته ففي ذلك ما يؤبه له).

وتآمر البنات مع إحدى الخدم على غشه فيما يشتري ويبيع مما يحتاج المنزل إليه، وفعلن أقبح من ذلك فأعن الخدم على بيع كتبه بغير علمه فإذا علم بشيء من هذا مس الحزن قلبه مساً شديداً ولكنه يكظم غيظه ويكتم أمره عن الصحب والجيرة مخافة العار، وكم كان وقع ذلك أليماً على نفس كبيرة مثل نفسه، وكم كان يشعره ذلك بما آل إليه حاله من استكانة بعد عزة، ويذكره بهذا الضر الذي أحاطه بالظلمة فجعل من بناته عدوات له.

ولكن روحه قوية على الرغم من هذا كله، وإقباله على قصيدته واستشرافه لآفاقها الفسيحة العليا يدفع عن نفسه القنوط إذ يرفعها من عالم حقير إلى ملكوت لا يدرك جلاله وعظمته إلا عقل مثل عقله وروح مثل روحه. ولقد كان له في الشعر أعظم العزاء وأطيبه وأن كان يعمد أحيانا إلى قيثارته فتختلج أوتارها بين يديه بلحن يسرى به عن نفسه أو يهيئ به جواً ملائماً لما تجيش به نفسه من شعر.

عود إلى الشعر:

أنقطع ملتن عن الشعر منذ سنة1641 كما سلف القول، ولم يكد يعود إليه سنة 1658 حتى أنشغل عنه بما كتب في عهد ريتشارد وقبيل عودة الملكية. ثم أقبل عليه إقبالاً غير منقطع منذ أن نجا في أواخرسنة1660؛ ومن ذلك نرى أنه أنصرف عن الشعر قرابة عشرين سنة وهي مدة طويلة لم يقضها في تأمل وهدوء وتهيؤ على نحو ما كان يفعل في هورتون، وأنما كانت حياته فيها كما رأينا مليئة بالأحداث حافلة بالخصومات، ولكنه أفاد خبرة عظيمة وتم نضجه فأصبح كالشجرة المحملة بالثمرات تجود بأطيبها لأقل هزة. . .

ولم تخل هذه السنوات العشرين من الشعر خلواً تاماً فقد نظم الشاعر أثناءها بعض المقطوعات في مناسبات مختلفة، وليست هذه المقطوعات من نفاية الشعر كما قد يخيل إلى المرء فأن لها لشأناً جليلا في ذاتها ومنزلة سامية في تاريخ هذا النوع الذي نسميه المقطوعات، ولذلك نرى أنه يجدر بنا أن نتكلم عنها ونبين مبلغ ما لها من خطر في الشعر الإنجليزي قبل أن نتكلم عن الفردوس المفقود وما جاء بعدها.

جاء ملتن من هذه المقطوعات بما لم ينته فيه كثير من أفذاذ هذا الضرب من النظم منهاه، ولقد قل فيه أكفاؤه وذهب له صيت منه بالقياس إلى شكسبير أن لم يك يبرعة في أكثر من ناحية من نواحيه. ولقد اصبح فيه مثالا لمن جاء بعده فاحتذى حذوه واعجب به ورد ثورث وكيتس وغيرهما من شعراء القرن التاسع عشر.

ولا بد لنا من كلمة في أصل هذه المقطوعات ونشأتها لا في شعر ملتن وحده ولا في الشعر الإنكليزي وحده ولكن في الشعر الأوربي بوجه عام ثم نعطف الكلام بعد على مبلغ ما توافى لملتن فيها من براعة وتبريز.

لم يقطع نقدة الأدب الأوربي برأي في نشأت المقطوعات وتسميتها بهذا الاسم الذي سموها به، ويرى بعضهم أن الإيطاليين هم مبتدعوها، وأن اسمها يرجع إلى لفظ إيطالي معناه اللحن الصغير أو الصوت الصغير وهو لحن كان يغنى على عود أو قيثارة. ويرى فريق آخر أن منبتها كان في فرنسا في مقاطعة بروفانس وأن اسمها نجم من تلك الكلمة الفرنسية التي تطلق على الجرس الصغير أو جرس الغنمات. ويذهب البعض إلى أن اصلها إغريقي وأن الإغريق اختاروا لها لحنها ووضعها الفني بعد أن مرت على عدة أطوار من الخلق والابتكار. ولأحد النقدة وهو وليم شارب رأى غير هذه جميعاً فهو يردها إلى أغاني الرعاة في صقلية وجنوبي إيطاليا ويرى أنها انتهت إلى وضعها المعروف بعد أطوار مختلفة، ويرد اسمها إلى الاسم الذي يطلق في هاتيك الجهات على أغنيات الفلاحين والرعاة على وجه العموم.

وكان أول ما ظهرت تلك المقطوعات في صورتها ولحنها الخاصين بها في الأدب الإيطالي في القرن الثالث عشر في شعر شاعرين هما: بييردل فني وجيو تودارزو؛ وكذلك كان أول من طرق هذا الضرب من النظم من كبار الشعراء من الإيطاليين فقد تغنى دانتي في أواخر القرن الثالث عشر بحبيبة قلبه بياتريس فاتخذ لغنائه عدداً من هاتيك الألحان، وكذلك أفصح بترارك في أوائل القرن الرابع عشر عما ينبض به قلبه من حب لمعشوقته لورا بعدد من تلك الأصوات الصغيرة التي سميناها المقطوعات.

أما عن الصورة والوضع الذي انتهت إليه المقطوعة في الأدب الإيطالي فأنها لم تك تزيد على أربعة عشر سطراً. ثمانية منها تكون من حيث النغم والموضوع فاتحة المقطوعة أو صدرها، وتكون الستة الباقية خاتمتها أو (قفلتها). ولا بد من الفاتحة أن تجري قوافيها على وضع معين، فالقافية في السطر الأول مشاكله لها في الرابع وبينهما الثاني والثالث متحدة قافيتهما ولكنها مغايرة لما بدأت به المقطوعة، ثم يكرر هذا الوضع حتى تتم الأسطر الثمانية بعد ذلك وتغير القافية في الأسطر الستة التي تكون الخاتمة على أساس أن تكون ثلاثتها الأولى مشاكله لثلاثتها الثانية.

وأما عن موضوع المقطوعة فهي كما يفهم من حجمها يقصد بها التعبير عن معنى من المعاني تجيش به النفس في مناسبة من المناسبات، أو هي تسجيل لخاطر يخطر للقلب في غير استطراد يخرج به عن أن يكون خاطراً هو ابن لحظته أو ابن مناسبته؛ ويقول في ذلك وليم شارب إن المقطوعة (هي خير وسيلة للتعبير عن خاطر شعري منعزل عن غيره تعبيراً موجزاً محدوداً)؛ وتقتضي طبيعتها أو يقتضي النجاح فيها أن يكون التعبير قوياً رائعاً يجمع إلى عمق الفكرة وجمالها بلاغة اللفظ وإشراقه، كل أولئك في أيجاز لا يخل بالمعنى المراد. وما اجمل ما وصف به روزتي المقطوعة وهو من الشعراء الذين أحبوها وبرعوا فيها في القرن التاسع عشر، قال (إن المقطوعة هي تمثال لحظة) وهذا التعبير القوى الجميل هو من قبيل ما يجب أن تبنى منه المقطوعات القوية أو التي تتسم بالنجاح؛ ومن هذا ندرك أنها عمل فني يتطلب قدراً كبيراً من البراعة الفنية والطاقة الشعرية، وحسب الشاعر أنه يقيم تمثالاً في لحظة ولن يكون التمثال جديراً باسمه وبالغرض منه إلا إذا حملك على الإعجاب به والشعور تلقاءه بما تشعر به تلقاه كل عمل فني من روعة الفن وجلاله.

والمقطوعة ضرب من الشعر الغنائي، ولكنها تختلف عن القصيدة الغنائية الصغيرة بما ينبغي أن يلقيه الشاعر على غنائه من الوقار والاحتشام فلا يتبذل ولا يسف ولا يتلاعب بالألفاظ والأسجاع وألوان التورية وأشباهها مما يستساغ في القصيدة العادية ولا يجوز هنا، حيث ينبغي التأمل والتسامي كي يأتي التمثال معبراً عما يراد به التعبير عنه، وما تقام التماثيل إلا للجليل من الأشخاص والأفكار.

وقد شبه أحد النقدة لحن المقطوعة بالموجة إذ يتدفق ويتجمع ماؤها فتعج به وترتفع ثم تهبط فتنساح ويرتد الماء ليعود ثانية إلى البحر، والمقصود من هذا التشبيه أن المقطوعة وحدة غنائية ملتزمة الصورة واللحن فلا حرية فيها للشاعر أن يجري ألحانه كيفما يشاء وأن يتظرف ويتخلع وينطلق حسبما يتجه خياله ومزاجه وهواه.

وظهرت المقطوعة أول ما ظهرت في الإنجليزية في ثنايا كتاب نشره أحد رجال الأدب واسمه تُتِل سنة 1557 تحت عنوان (خليط من الأغاني والمقطوعات) ولما كانت مقطوعات كثيرة منها غفلا من أسماء أصحابها فليس يدري من الرائد في هذا الضرب من النظم في الإنجليزية، على أن الإنجليز لم يتبعوا ما وضعه الإيطاليون، فقد تصرفوا فيه وأتوا بصورة جديدة للمقطوعة وأن بقي عدد أسطرها كما هو في المقطوعة الإيطالية وجاءت الصورة الإنجليزية ايسر بناء من الصورة الإيطالية كما تبين من طريقة التقفية فيها، وليس يشترط فيها أن يكون هناك تغير بين صدرها وخاتمتها وأن كان الغالب أن يحدث هذا التغير كما هو واضح من المثال الذي أثبتناه في ذيل الصفحة؛ وكانت تنتهي في سطرين في قافية واحدة يكونان نغمتها الأخيرة.

وذاع هذا الوضع الجديد، وسميت مقطوعاته المقطوعات الإنجليزية أو المقطوعات الشكسبيرية، فقد نسبت إلى شكسبير ولو لم يك مبتكرها لأنه خير من أجاد في بناء هذه المقطوعات ولأنه من أكثر الشعراء إنتاجاً فيه؛ ولقد كثر نظم المقطوعات كثرة ملحوظة في العصر الاليزابيثي وبرع فيه غير سبنسر وشكسبير نحو أثني عشر شاعراً، هذا فضلا عن عدد كبير لم يكن لهم مثل ما لهؤلاء من الإجادة وحسن السبك.

(يتبع)

الخفيف