مجلة الرسالة/العدد 697/فيضان النيل. . .

مجلة الرسالة/العدد 697/فيضان النيل. . .

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 11 - 1946



بين التفاؤل والتشاؤم

للأستاذ عبد الفتاح البارودي

ذكرتني القصيدة التي نشرتها (الرسالة) تحت عنوان: (وحي فيضان سنة 1946) في عددها 693 بالفزع البالغ الذي أصاب البلاد جميعاً إبان اشتداد الفيضان في أغسطس الماضي، وغنى عن البيان أن النكبة كانت جسيمة وأن الخسارة الناجمة عنها كانت ولا تزال فادحة، ولكن هل كان ينبغي أن يصل الأمر إلى هذا الحد من التشاؤم الذي شاهدناه مرتسما وقتئذ على وجوه الناس والذي صورته كل الصحف بلا استثناء والذي أوحى إلى الشاعر أن يصف الفيضان (بالهول العظيم!!) ويصف مياه النيل بأنها (ترد البلاد كأنها أغوال!!)؟

صحيح أنه كان لشدة اهتمام الحكومة وقلقها ومظاهر الرعب التي بدت على تصريحاتها أثر محسوس في الإشعار بالخطورة، ولكن أليس المفروض من جهة أخرى أن التزاماتها ومسؤولياتها قد تسوغ لها (تقدير البلاء قبل نزوله) لتهيئ الشعب لاحتماله أو دفعه أو توقيه بالحيطة والحذر والعمل تهيئة جدية؟ ومع هذا فالإجراءات التي اتخذتها - وقصاراها اعتماد مبلغ 210 آلاف جنيه وتشغيل بعض الأيدي العاملة - كان ينبغي أن ترشدنا إلى أن الحالة كانت مطمئنة أو على الأقل غير مروعة إذا قورنت بالسوابق في الفيضانات التي انتابت البلاد الأخرى في القديم والحديث، بل إذا قورنت بالسوابق الغير بعيدة في فيضانات النيل ذاته (نسبياً): ذكر أبن تغرى بردى في (النجوم الزاهرة) أنه كان يُرصد لعمارة جسور النيل واتقاء فيضانه ثلث الخراج سنوياً، وحكي ابن لهيعة أن المرتبين للوقاية من الفيضان سنوياً مائة ألف وعشرون ألف رجل: سبعون ألفاً للصعيد، وخمسون ألفاً للوجه البحري. ورغم هذه الاحتياطات الشديدة فقد روى ابن زولاق أن أحمد بن الدبر لما ولى الخراج بمصر كشف أرضها فوجد غامرها أكثر من عامرها.

أي أن الحالة التي كانت استفحلت هذا العام تكن غريبة على الوادي، ولم تكن تستلزم ولا تحتم التشاؤم الأسود الذي قابلناها به، بل أني أزعم بكل شجاعة - بعد فوات الأوان! - أن التفاؤل المطلق كان أنسب لها وأحرى بنا!! لماذا؟ أبادر فأقول أن الحجة حاضرة ولك أريد قبل أن أسوقها أن أسوق من بعض حوادث أسلافنا بهذا الصدد عبرة وقياساً ولو لمجرد الترفيه الفني والتذكير التاريخي: جاء في (نهاية الأرب) للنويري أن النيل يبلغ تمامه إذا وفى ستة عشر ذراعاً، والذراع أربعة وعشرون إصبعاً بمقياس مصر. أي أنه بالبداهة أن زاد عن 17 ذراعاً مثلا كان مغرقا وأن نقص عن 13 ذراعاً مثلا كان مقحطاً. فما الرأي في أن الناس كانوا يتفاءلون بزيادته مهما أغرقت ويتشاءمون من أي نقصان مهما قصد واعتدل؟ وما الرأي في أن الحوادث كانت تؤيدهم دائماً تأييداً أن يكن غير منطقي إلا أنه واقعي؟ فمثلاً عندما بلغت زيادة النيل أقصاها (19 ذراعا) في سنتي332هـ، 410هـ تصادف أن كانت حوادثهما سعيدة في الغالب. ففي السنة الأولى تزوج ابن الخليفة المتقي بالله ببنت ناصر الدولة بن حمدان التغلبي وتآلفت قلوب المسلمين. . . وفيها أطلق الروم إساري المسلمين. . . وفي السنة الثانية فتحت بلاد الهند وغنم المسلمون بغنائمها. . . الخ. هذا بينما عندما بلغ انخفاض النيل (12 ذراعاً) فقط في سنتي 215هـ، 356هـ تصادف أن كانت حوادثهما محزنة في الغالب. ففي السنة الأولى غضب الناس على الوالي عبدويه بن جبلة وحزنوا كذلك لوفاة زبيدة بنت جعفر زوجة هارون الرشيد، وكانت أعظم نساء عصرها ديناً وأصلا وجمالا وصيانة ومعروفاً. . . وفي السنة الثانية مات السلطان معز الدولة ابن بويه، وقبض على الملك الناصر وولده أبو تغلب ومات الإمام العلامة أبو الفرج الأصفهاني مصنف كتاب الأغاني. . . الخ.

مصادفات. ولكن أعجب ما فيها دلالاتها المطردة في سني الرخاء والجدب على السواء.

فإذا تركنا التكهنات إلى الحقائق. وجدنا بالاستقراء والاستقصاء أن وادي النيل لم ينكب نكبة واحدة بسبب الفيضان أيا كان طغيانه في حين أن المجاعات الفظيعة في مصر كالمجاعة التي حدثت في آخر حكم الأسرة السادسة الفرعونية، والمجاعة التي أيام يوسف الصديق، والمجاعة التي حدثت في العهد الفاطمي وعرفت باسم (الشدة المستنصرية)، والمجاعة التي حدثت في عصر المماليك زمن السلطان كتبغا. . . إلى آخر المجاعات التي روعت الوادي واجتاحته في مختلف العهود تدل دلالة قاطعة على أن سببها الوحيد المباشر هو انخفاض النيل على تفاوت. وأظن أني لست في حاجة إلى وصف حالة البلاد وسكانها أثناء هذه المجاعات فذلك مذكور مشهور في كتب الأدب والتاريخ. ومن قبيل التمثيل أذكر بعضاً مما حدث أثناء (الشدة المستنصرية) في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، فقد وصل الأمر إلى حد أن أكلت النساء أولادهن الموتى، وأكل الناس الحيوانات الميتة من كلاب وقطط وحمير وغيرها لدرجة أن تسبب عن التهافت عليها ارتفاع أثمانها وصعوبة الحصول عليها، وزادت المحنة اشتداداً حتى كاد الناس من هول الجوع يأكل بعضهم بعضاً. روي أن وزير المستنصر نزل عن بغلته أمام باب القصر وتركها تحت حراسة غلامه فهجم ثلاثة رجال على الغلام وأخذوا البغلة قسراً وذبحوها وأكلوا بعضها وباعوا الباقي فقبض عليهم وصلبوا عقاباً لهم في أحد الميادين. فلما أصبح الناس لم يروا إلا بقايا عظامهم إذ كان الشعب الجائع قد أكل لحومهم أثناء الليل!!

هذا مثل واحد من أمثلة المجاعات التي كانت تحدث بسبب انخفاض النيل، ولذلك أجمعت الروايات المختلفة على أنه (كان يحصل لأهل مصر إذا وفى النيل - بغير تحديد - فرح عظيم بحيث أن السلطان يركب في خواص دولته وأكابر الأمراء في الحراريق إلى المقياس ويمد سماطاً يأكل منه الخواص والعوام ويخلع على القيّاس ويصله بأجزل الصلات) ونحو ذلك. .

فلماذا لا نساير منطق الحوادث، ومنطق الحقائق، ومنطق التاريخ معاً، ونتفاءل أعظم التفاؤل من الفيضان الذي دهمنا هذا العام - بشرط عدم التهاون أو التراخي في تدبير وتوفير وسائل المكافحة الدائمة مستقبلا - فلعل خطورته أن تسفر كالعهد بها عن مصادفة سعيدة، ولعلها أن تكون تحقيق (الجلاء ووحدة وادي النيل).

عبد الفتاح البارودي