مجلة الرسالة/العدد 698/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 698/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 11 - 1946



دعوة في وقتها:

الرسالة الخالدة. .

بقلم الأستاذ عبد الحمن عزام باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية

عروض وتعليق

للأستاذ عبد المنعم خلاف

- 2 -

في أصول الدعوة

وهو يقرر في فصول الباب الأول من الكتاب أصول تلك الرسالة الخالدة، وهي تنحصر في دعامتين أثنيتن وهما الإيمان بالله الواحد والإحسان، فمن آمن بالله الواحد وعمل صالحا فهو مسلم متتبع لرسالة الله، سواء أكان قبل محمد أم بعده (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (ومن احسن دينا ممن اسلم وجهه لله وهو محسن!) والإحسان على معناه الأوسع الأعم الذي يشمل كل نشاط ينفع الناس ويعمر الدنيا.

وهذه الحقيقة وان كانت معروفة للخاصة من الناس إلا إنها لدى العامة مجهولة، ولذلك تأتي الآن في وقتها، وقت الدعوة إلى الإنسانية الجامعة والعالمية الشاملة التي لا بد فيها من فهم الدين على حقيقته فهما يجمع الناس ولا يفرقهم، ويعقد بينهم سباقا للخير كما يقول الله لأهل الأديان الثلاثة: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، فاستبقوا الخيرات) لا سباقا إلى الشر والحروب كما يقول الشيطان. . .

وتقرير هذه الدعوة الآن بلسان زعيم من كبار زعماء المسلمين وأمين جامعة الدول العربية أمر له ما بعده! وشان جدير أن يخطو بالجامعة العربية والجامعة الإنسانية خطوات حثيثة.

والحق إن القران أتى في هذا الأمر بالعجب العجاب الذي لم تأت به فلسفة العصر من التسامح وفهم روح الدين.

والحق كذلك إن الأرض تحتاج مسيس الحاجة إلى وحدة اتجاه أهل الأديان الثلاثة السماوية أهل الدينين الكبيرين العامين منها المسيحية والإسلام بوجه خاص ليقاوموا عوامل الجحود والطغيان والتنكيل بميراث الإنسان.

والحق كذلك أنها دعوة مدخرة لسكان الشرق الأدنى من المسلمين والمسيحيين واليهود - ان تركوا مزاعم الصهيونية البغيضة - وقد نصر الله روح حضارتهم على روح الوثنيات دائما، وأخر معركة بين الروحين هي معركة اليابان التي ما كان أحد يدري ماذا كان يحدث لاتباع الأديان الثلاثة من انقلاب في مثلهم العليا الدينية الواحدة لو انتصرت اليابان واتت بموجات وثنيات الشرق الأقصى طاغية بها على بلاد المسيحيين والمسلمين واليهود؟!

وقد كنت كمسلم أخشى هذا وأتمنى أن ادعوا المسلمين وقت معركة اليابان إلى الفطنة لهذا المعنى واخذ نصيبهم من المعركة، لولا أن اقعد بي ملاحظة أن في هذه الدعوة ممالأة للإنجليز غاصبي بلدي وبلاد المستضعفين من قومي وغيرهم، مما يدعو الأحرار أن يتمنوا هزيمة أعداء الحرية ولو على يد الشيطان كما قال تشرتشل حين حالف روسيا العدو الأول للإمبراطورية البريطانية ضد الألمان. . .

وعزام باشا يثبت دائما هذا المعنى الجامع للمسلمين وأهل الكتاب خصوصا النصارى، ويدعو المسلمين والمسيحيين في الشرق بوجه خاص لينهضوا برسالة الإنسانية في العصر الحديث، وينادوا العالم إلى ما عندهم من الاخوة السامية على الأجناس والألوان والنعرات. وهو يقرر دائما ان التسامح هو السبيل الوحيد إلى تحقيق الوحدة العالمية، ولن يكون التسامح إلا بتوطيد الدعامة الثانية للدين وهي الإحسان المبني على اصلين عظيمين هما الرحمة والإخاء.

في الإصلاح الاجتماعي

يرى المؤلف في فصول هذا الباب الأربعة أن الإصلاح الاجتماعي في الإسلام على أربعة فصول: التطهير الخلقي للفرد، والتكافل بين الجماعة، والبر الذي يطارد الفقير والترف والربا، والعدالة والحرية اللتين هما ميزان الخليقة والشريعة. فأما التطهير الخلقي للفرد فهو نتيجة للعقيدة الخالصة بالله المتصف بجميع صفات الكمال والجمال والجلال، إذ العبد مأمور أن يتخلق بأخلاق الله ومطبوع على أن يقلد صفات سيده الذي لا شريك له ولا سلطان مع سلطانه، فلا يتوجه قلب من يعرفه إلى غيره ولا يخشاه إذ تتساوى الخلائق في ملكوته وفي العبودية له. فالمؤمن شجاع صادق صريح جرئ في الحق مناضل للباطل والفساد، كريم، وفي ودود إلى آخر صفات المروءة والكمال.

وأما التكافل فهو مبني على مسئولية الفرد عن الجماعة ومسئولية الجماعة عن الفرد واعتبار المسئوليتين هما أولى الوسائل في الإصلاح الاجتماعي إذ بهما ينشأ (الرأي العام) الحارس لكيان الأمة البصير بمصالحها، الدافع للآفات عنها المعالج بالتشريع لما ينشأ من أدوائها.

وأما البر فهو الإحسان والمواساة للفقراء، والمتخلفين في المجتمع. والفقر هو مشكلة العصر ومادة حديث الدعوات السياسية والاجتماعية والبر نتيجة للتكافل الجماعي. ولم يجعل الدين الفقر سببا لازدراء صاحبه بل كانت أول مواساة الفقير هي شعوره بالمواساة مع غيره من الأغنياء. والفقير لعجز أو مرض جعل الدين مواساته وكفاية حاجاته حقا له على المجتمع (والذين في أموالهم حق للسائل والمحروم) والفقر لفقد الوسيلة إلى العمل جعل الدين علاجه واجبا على الدولة بإيجاد وسائل العمل والتكسب. والعمل هو الأصل وقد حض عليه الدين كثيرا.

وقد طارد الدين الترف في أعلى المجتمع والبؤس في أسفله ليجعل مستوى الحياة متناسقا، وكذلك حارب الاكتناز والربا والإسراف في الشهوات، واستعلاه طبقة طبقة؛ إذ المؤمن الصادق لا يضمر في نفسه انه خير من خادمه مع سيطرته عليه. وقد أعطى الإسلام سلطات واسعة لولي الأمر ليحقق البر والمساواة بين الناس، ودعا إلى البر بجميع الوسائل بالترغيب والرهيب، وجعل حق الفقير حق الله فهو مصون وليس لأحد أن يمن به. والبر والدين بر عام شامل لفقراء المسلمين وغيرهم لا فرق بين فقراء دين وفقراء آخر.

والحق في هذا الفصل بيانا واضحا لطرقة مكافحة الفقر بتثبيت قواعد البر وصوره في الضمير قبل ظواهر القوانين. وأما العدالة والحرية فهما مبدآن في السياسة وفي الدين الذي هو محطم القيود والأغلال الوهمية عن النفس البشرية، ولن يقوم مجتمع صالح إن لم يؤسس على بعض ميزانهما الذي لا يحابي الأحباب ولا يظلم الذين وقع عليهم البغض والشنآن.

والحرية في الإسلام من اقدس الحقوق في السياسة والفكر والدين والحياة المدنية، وهي مكفولة للصابئ والمجوسي واليهودي والنصراني والمسلم يقول ويكتب ما يشاء في حدود المصلحة العامة فلينظر من شاء كما يشاء في الكون ليستنبط لنفسه ما يراه حقيقة تطمئن نفسه إليها، ولا ملام عليه ولا جناح.

في العلاقات الدولية

في هذا الباب فصول ستة يتجلى بها الطابع الأصيل الذي غلب على حياة المؤلف كرجل سياسة من الطراز الأول، وقد أتى في فصوله بأبحاث بكر عن الدولة الإسلامية الأولى وتاريخ علاقتها بالمناهضين للإسلام، وحلل أولى معاهدة دولية بين المسلمين واليهود والوثنيين، وخرج منها بمبادئ تجعلها نموذجا قديما لعصبة الأمم الحديثة. ثم بين الدعاوي والأسباب التي جعلت الحرب الدفاعية أمرا لا مناص منه بين الدولة الإسلامية الناشئة والمناهضين لها، وبين تقييد الحرب في الإسلام بالأغراض السامية، سلبية كانت كدفع الظلم والاعتداء عن النفس وعن المظلوم أيا كان، أم إيجابية كالخير العام أو الصالح العام، لا يجوز أن تكون أغراضها هي التوسع في الملك أو الاستعمار أو تعجيز الآخرين لإضعافهم عن المنافسة في ميادين العيش، ولا العلو والاستكبار وحب البطش.

وبين أن الإسلام دين عملي يواجه الحقائق حين أباح الحرب لدفع العادية أو نصرة المظلوم، وما ورد في القران من آيات الشدة والغلظة على الأعداء وليس معناها الدعوة إلى الابتداء بالاعتداء وإنما هي تحميس للنفوس إذا وقعت الحرب فعلا ولم يكن مناص منها؛ لان الضعف والذل ظلم للنفس لا يرضاه الله بل يعاقب عليه. والحرب الهجومية لا يبيحها الإسلام مطلقا؛ والحرب المشروعة ضرورة تقدر بقدرها؛ فإن جنح الخصم للسلم فليجنح لها المسلمون متوكلين على الله، فالإسلام على استعداد دائم لعقد اتفاقات مع من شاء لصيانة السلم، ولا تخالف في الإثم والعدوان.

والمسيحية وإن حرمت الحرب تحريما قاطعا إلا أن الحياة العلمية التي واجهت المسيحيين جعلتهم يختلفون في تحريمها. فالكنيسة الشرقية احتلها بإسراف حين خلطت بين شخصية الرئاسة الدينية وشخصية الدولة الزمنية في شخص واحد فوضت إليه أن يعلنها كما يشاء، بينما حرمتها الكنيسة الغربية في القرون الأولى للمسيحية تحريما باتا حتى ولو كانت دفاعا عن النفس.

وقد لجا المسيحيون أخيرا إلى شبيه بالنظرية الإسلامية التي جمعت بين ما يقتضيه إقامة صرح العدالة العالمية وما تقتضيه الرحمة والاخوة البشرية والأنصاف وكبح أهواء النفس الشريرة وجنون الدماء وإقامة السلام.

وقد وضع الإسلام آدابا عامة للحرب وآدابا خاصة حين فشل في القضاء على الحرب كما فشل في القضاء على الرق؛ لان تنظيم الشر الذي لابد منه خير. وقد أتى في هذه الآداب بما في طاقة البشر من السمو، وروح الفروسية والنبل ورحمة الأعداء وحماية حقوق المستأمن ومسالمة غير المحاربين ومجاملة رسل العدو والإحسان للاسرى، والترفع عن التخريب والإحراق وإيذاء الضعفاء وغير المحاربين، وقد امتلأ تاريخه بهذه الخلال التي تجعل الحرب كأنها ميدان لظهور مكارم الأخلاق ظهورا قد يغطي على ما فيها من سفك الدماء. . .

وقد أتى المؤلف في هذا الباب بنظرة جديدة في أحكام الأسر والاسترقاق تجعل استرقاق الأسرى لا سند له من القران والسنة الصحيحة، وقد انحنى بالحجج العقلية والنقلية على ما يقال من جواز القتل لعلة الكفر أو الشرك وحدهما، وبين أن هذا ينافي روح الإسلام الذي يقرر ان لا إكراه في الدين، وقد أمده التاريخ بنصوص وحوادث لا سبيل إلى الشك فيها.

وقد بين أن السلم الدائمة هي أساس العلاقات الدولية في نظر الإسلام، وان الحرب طارئة عليها. وقد دفع التهم والأوهام التي تزعم ان دعوة الإسلام قامت على السيف وتقوم به وان الإسلام بصفته دينا ودولة في حالة نزاع دائم مع من يخالفونه، وبين إن روح الإسلام السليمة واحدة في مكة أيام الضعف وفي المدينة في عهد القوة، وقد استشهد بالأجانب وبالتاريخ وقد بين أطراف العهود والمواثيق التي يمكن أن تقوم بين دولة إسلامية وغيرها سواء أكان ذلك الغير جماعة إسلامية أخرى أم جماعة معاهدة أم جماعة ليس بينها وبين المسلمين عهد.

ومن الأمور الهامة التي رأى فيها رأيا جديدا مسالة التخيير بين الإسلام والجزية والسيف؛ فقد بين ان هذه الحالات الثلاث التي كانت تعرض على الأعداء ليست آتية في عمل المسلمين على سبيل الحصر فقد وجدت اتفاقات وحالات سلم بين المسلمين وجيرانهم ودول أخرى بغير أن يشترط فيها حالة من الحالات الثلاث. وحق أمام المسلمين وجماعتهم في عقد ما يرونه صالحا متفق عليه. فصلح الحديبية مثلا لم يشترط شيئا منها بل كان فيه شرط اعتبر إعطاء للدنية من المسلمين أمام المشركين المحاربين. وإنما كان الأمر المطرد الذي يلحظ في جميع اتفاقات الرسول هو القصد إلى نشر دعوته والوصول بها إلى الظهور بدون ان تعترضها قوة، وكثيرا ما كان الوصول إلى حالة سلم مستقرة هو الهدف الأسمى لتمكين الدعوة من الحرية اللازمة لظهورها. فلا يشترط شيء اخر، بل يكون شرط الجزية أو الإسلام مؤخرا ومانعا للتفاهم فيؤجل انتشار الدعوة التي سلاحها الوحيد إنها حق لا يقاومه جدل. ففي هذه الحالة يصبح شرط الإسلام أو الجزية مضرا ويكون فاسدا، وعلى ذلك ليس حقا أن إمام المسلمين أو جماعتهم ملزمون بإقامة السلم على شرطي الإسلام أو الجزية، وإلا كانوا في حالة حرب دائمة مع أكثر البشر وامتنع ظهور الإسلام كدعوة عالمية.

(البقية في العدد القادم)

عبد المنعم خلاف