مجلة الرسالة/العدد 698/مجالس الأدب: في إحدى ليالي رمضان

مجلة الرسالة/العدد 698/مجالس الأدب: في إحدى ليالي رمضان

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 11 - 1946



للأستاذ كامل كيلاني

(نثبت فيما يلي نص الحوار الطريف الذي دار بين ثلاثة من

أدباء مصر وشعرائها في إحدى ليالي رمضان كما أذاعته

محطة الشرق الأدنى)

1 - المعري يصوم ويصلي

عبد الغني: بمناسبة شهر رمضان، هل كان كبار الشعراء - يا أستاذ كامل - يصومون؟ وهل كان أستاذك المعري يصوم؟

كامل: ويصلي أيضاً.

عبد الغني: إذ يقول في الصلاة يا أستاذ كامل.

كامل:

(وأعجز أهل هذي الأرض غاوٍ ... أبانَ العجز عن خمسٍ فُرضْنهْ)

ولكنه يريدها صلاة خالصة لوجه الله، وإلا حلت اللعنة على صاحبها.

عماد: إذ يقول؟ يا أستاذ كامل.

كامل:

(إذا رام كيداً بالصلاة مُقيمها ... فتاركُها عمداً إلى الله اقربُ)

ولن يصح تدين الإنسان - فيما يرى - إذا اقتصر على الصلاة والصوم، دون أن تخلص نفسه من أرجاسها، وتكف أذاها عن الناس.

عبد الغني: وما الذي يحضرك من شعره يا أستاذ كامل؟

كامل:

(ما الَّدين صومٌ يذوب الصائمون له ... ولا صلاة، ولا صوف على جَسدِ

وإنما هو ترك الشر مطرحاً ... ونَفضُك الصدر من غل ومن حسد)

عماد: أو يقول؟

كامل: ما أكثر ما يقول في هذا المعنى - يا صاحبي - وما أبرع قوله في هذ (إذا الإنسان كف الشر عني ... فسيقاً - في الحياة - له ورعيا

ويدرسُ - إن أراد - كتاب موسى ... ويضمر - إن أحبْ - ولاء شعْيا)

عبد الغني: فهل كان يصوم يا أستاذ كامل؟

كامل: كان صائم الدهر، يصوم عن الأكل كما يصوم عن الأذى والشر.

عبد الغني: وماذا قال في هذا الباب يا أستاذ كامل؟

كامل:

(أنا صائم طول الحياة، وإنما ... فِطري الِحمام، وذاك حين أُعَيَدُ)

2 - عقيدة المعري

عماد: إذن يا أستاذ كامل كيف تعلل اتهامه في دينه؟

كامل: لم يتهمه في دينه إلا قاصر أو مقصر في درسه، أو راغب في إذاعة مبادئ الشك على لسان غيره، أو متسرع في فهم مراميه، أو رجل يحسن الظن بآراء بعض الباحثين، فلا يعني بنفسه بمناقشتها وتمحيصها، أو ببغاء يردد ما يسمع بلا تعقل.

عبد الغني: فكيف تعلل قوله:

في القدس قامت ضجة ... ما بين أحمد والمسيح

هذا بناقوس يدق ... وذا بمئذنة يصيح

كلٌ يعلل دينه ... يا ليت شعري ما الصحيح؟)

كامل: إن السخرية واضحة في الأبيات كما تريان، ولعلكما تذكران الآية الكريمة: (كل حزب بما لديهم فرحون) كما تذكران الآية (وإنَّا - أو إيَّاكم - لعلى هُدىً أو في ضلال مُبين). ولن يدور بخلد كائن كان: أن الرسول (ص) كان شاكا في انه على هدى، وان مجادليه في ضلال مبين.

عبد الغني: فكيف تعلل اضطرابه وتناقضه في شعره يا أستاذ كامل؟

كامل: لم يضطرب أبو العلاء، ولم يتناقض. ولكن اضطرب في فهمه المتسرعون وتناقضوا، ورأى بعضهم - في مرآة نفسه المضطربة - صورته، فحسبها صورة المعري، وهو منها بريء.

على أن المخلصين في فهمه، ممن رموه بالتناقض، نسوا الحكمة التي درسوها في مستهل حياتهم، وهي: (لكل مقام مقال) فكان مثلهم مثل من ينصت إلى رجل: فيسمعه مرة يقول لولده مغريا: (لا شك عندي في انك باذل في دروسك يا ولدي قصارى جهدك وسيكون لك إن شاء الله شان عظيم. ولتبلغن بحدك أعلى المراتب وأسماها).

ثم تسمعه مرة أخرى يقول له:

(لن تنجح يا ولدي ما دمت مستسلما لكسلك، متماديا في غيك، مسترسلا في تهاونك) أو يقول له غاضبا ثائرا: (والله لا أفلحت أبداً).

فيزعم أن الوالد متناقض مضطرب، لأنه يتمنى لابنه النجاح مرة والإخفاق مرة اخرى، وينسى انهم أسلوبان متباينان يهدفان - على اختلافهما - إلى غرض واحد: هو حفز الولد إلى الخير. وكلاهما يعبر عن حب أبيه لولده وحرصه على نجاحه.

وما أدري - أيها الصديقان - كيف يشك في صدق إيمان هذا الرجل، دارس متعمق حصيف، يجمع بين الإنصاف والإحاطة والفهم؟

كيف يشك في حسن عقيدة من يقول:

أُقر بأن لي رباً قديراً ... ولا أَلْقَى بدائعه بجَحْد

أو يقول ويصل إلى ذروة الإبداع:

تعالى الله، وهو اجل قدراً ... من الإخبار عنه بالتعالي

إلى آخر ما يقول، فما أنت بحاجة إلى أن أتلو ما يزخر به شعره ونثره من الآيات الدالة على سلامة عقيدته، وخلوصها من الشكوك والأوهام.

3 - الفطرة المؤمنة

وقد علمتما - يا صاحبي - إنني عرضت لهذا الموضوع في مناسبات عدة لا سيما في رسالتي الغفران والهناء، وكتابي على هامش الغفران، وحديقة ابي العلاء وربما أنجزت كتاب (عقيدة المعري) وأعددته للطبع بعد قليل.

حسبكما الآن قوله في رسالة الغفران، ولعله - على وجازته - ابرع ما رأيت في هذا الكتاب، لأنه يقرر في بلاغة علائية فاتنة: أن الإنسان مؤمن بغريزته، وان الله سبحانه قد وهبه فطرة مؤمنة تعصمه - إذا لاذ بها - من الزيغ والالحاد، كما يعصم الحصن الحصين من يلوذ به ويحيمه من المغيرين واليكما ما قال: (والتأله (يعني: الإيمان بالله) موجودا في الغرائز، يكون لهن كالإلجاء الحرائر (يعني: كالحصون الحصينة كما تعلمان) وبهذه الجملة البارعة يلتقي المعري بما أبدعه لامرتين في قصيدة (الخلود) وهي من غرر الشعر الفرنسي وروائعه. كما يلتقي مع شكسبير في قوله: (كل ما نلقاه من حسنٌ إذا حسنت خاتمته). فيقول:

(إن ختم الله بغفرانه ... فكل ما لقيته سهل)

لا أدري كيف يجرؤ منصف على اتهام مثل هذا الرجل الطاهر في عقيدته. ألا ما أصدق المثل:

(رمتني بدائها وأنسلت)

ورحم الله ابن الرومي القائل:

ما خمدت ناري، ولكنها ... الفت نفوساً نارها خامدة

قد فسدت في دهرنا انفس ... تستبرد السخنة لا الباردة

4 - شيطان الشعر

عبد الغني: هل تحسن نظم الشعر وأنت صائم يا أستاذ عماد؟

عماد: كلا فإن سطوة الجوع تكفل هدم كل بيت من الشعر أحاول بناءه. أو لعل شيطان شعري يسجن في شهر رمضان مع سائر إخوانه من الشياطين، وإن كنت أنا نفسي مثلت دور شيطان في هذا الشهر المبارك.

عبد الغني: وكيف كان ذلك يا أستاذ عماد؟

عماد: في ليلة مظلمة من إحدى رمضانات الحرب، التي حرموا فيها النور عدت إلى منزلي متأخرا وكنت مرتديا بذلة سوداء، وبينما أنا واقف أمام الباب والشرع مقفر اقبل شخص من بعيد، ولكنه حين لمحني تباطأ في مشيته ثم وقف مترددا، فأدركت انه خاف مني. وانه حسبني أحد شياطين الظلام، فدفعني خبث العبث إلى أن امثل دوري إلى النهاية. فتقدمت نحوه خطوتين فاضطرب وكاد يولي هاربا، ولكن إلى أين؟ وقد علم سلفا أني أدركه بوثبة شيطانية واحدة. وكان منزله لسوء حظه مقابلا لمنزلي، فجمع قواه واندفع يجري من أمامي في سرعة من الريح وهو يتلو آية الكرسي في صوت عال محاولا إحراقي بها، وأنا أشير إليه إشارات تزيده رعبا، حتى أدرك باب منزله فارتمى فيه على وجهه.

كامل: وماذا كان وقع آية الكرسي في نفسك يا أستاذ عماد؟

عماد: بردا وسلاما على خلاف عادتها مع الشياطين.

عبد الغني: إن هذه الحادثة لا تخلو من فائدة، فهي تعلل لنا الحوادث التي يؤكد بعض الناس انهم رأوا فيها الشياطين رأي العين.

ولكن قل لي يا عماد هل تعتقد حقا أن لكل شاعر شيطانا يوحي إليه الشعر؟ كما كان يعتقد حسان بن ثابت إذ يقول:

ولي صاحب من بَنْي الشيعبان ... فطوراً أقول وطوراً هوه

عماد: هذا بالطبع أمر لم يقم عليه دليل مادي، ولكن مما لا شك فيه أن الشاعر عندما ينظم قصيدته يكون مدفوعا بقوة غير عادية، فقد يعود إلى قراءة هذه القصيدة في وقت آخر فيراها أعلى من مستوى تفكيره، ويعجب من نفسه كيف تسير له نظمها على هذه الصورة. والشاعر الذي اعنيه هنا هو الشاعر الصادق الذي لا ينظم إلا متأثرا بفكرته، فالتأثر هو الذي يوحي إليه ما يحسبه من وحي قوة فوق قوة البشر، كالشياطين أو الملائكة. أما الشاعر الكاذب المقلد فشعره من وحي القردة لأنها أطبع المخلوقات على التقليد، ويجب عليه إذا ذكر وحيه أن يقول قال لي قردي لا قال لي شيطاني.

عبد الغني: هذا حق والشعراء القرداتية كثيرون في كل عصر لسوء الحظ.

(البقية في العدد القادم)

كامل كيلاني