مجلة الرسالة/العدد 698/من التاريخ الإسلامي:

مجلة الرسالة/العدد 698/من التاريخ الإسلامي:

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 11 - 1946



وديعة الله

للأستاذ علي الطنطاوي

(إلى أصدقائي وتلاميذي في بغداد، ولاسيما الأحبة على

طريق الأعظمية ليذكروني بهذه الهدية كما اذكرهم دائما)

(علي)

كان فتى من أبناء التجار، بارع الفتوة، واسع الغنى، قد جمعت له اللذائذ، وسيقت إليه المنى، دكانه البحر تنصب فيه جداول الذهب، وداره الجن تجري من تحتها الأنهار، وفيها الحور العين، خمسون من الجواري الفاتنات اللائى حملن إلى بغداد من أقطار الأرض وحشدن فيها، كما تحمل إلى مخدع العروس كل وردة فاتنة في الروض، وزهرة جميلة في الجبل. . .

ولكنه لم يشعر بنعيم الحياة، ومتعة العيش، حتى اشترى هذه الجارية بخمسمائة دينار، وكان قد رآها في سوق الرقيق فرأى جمالا أحلى من أحلام الحب، واجمل من بلوغ الأماني، واطهر من زنبقة الجبل، فهام بها هياما وزاد فيها حتى بلغ بها هذا الثمن، وانصرف بها إلى داره، وهو يحسب أن قد حيزه له الدنيا، وأمتع بالخلود، واشتغل بها وانقطع إليها، ولم يعد يخرج إلى الدكان إلا ساعة كل يوم ثم لا يستطيع أن يصبر عنها؛ ويزلزله الشوق إليها، وتدركه هواجس الحب فيغار عليها، لا من الناس فما يصل الناس إليها، بل من الشمس أن تلمحها عين الشمس، ومن النسيم ان تلمسها يد النسيم، ويشعر بهذه الغيرة المحرقة في قلبه، فيهرع إليها ليطفئها بلماها. . .

لقد صار هذا الحب مصدر لذته، وسر حياته، ما كان يدري قبله ما اللذة وما الحياة، وما كان يحس انه يعيش حقا وان له قلبا، وما كان يدرك من قبله بهاء النهار، ولا فتنة الليل، ولا سحر القمر، كان عنده كالألفاظ بلا معنى، يفهم منه ما يفهمه الأعجمي إذا تلوت عليه غزل العرب؛ فلما عرف الحب أدرك إن وراء هذه الألفاظ معاني تهز الفؤاد، وتستهوي القلب. وكان يمشي في طريق الحياة كما يمشي الرجل في المتحف المظلم فطلع عليه هذ الحب نورا مشرقا أراه هذه التحف الفاتنات وهذه الروائع. . .

وتتالت الأيام، وزاد إقبالا عليها وأعراضا عن الدكان. وكان يبصر دنياه تدبر عنه، وتجارته تذوب في ضرم هذا الغرام كما يذوب الثلج، وتتبدد كما يتبدد الندى في وهج الشمس، ولكنه لا يكره هذا الحب ولا ينفرد منه ولا يزداد إلا تعلقا به وتمسكا بأهدابه. وكان كل ما في الحياة من متع، لا يعدل عنده لحظة واحدة من لحظات الوصال، وذهب الأرض كله لا يساوي هناءة من هناءات الحب، فكان يترك البائعين والمشترين ويسعى إليها ليشتري منها اللذات والقبل.

وكانت كلما نصحته وأرادته على العود إلى تجارته قال لها: مالي وللمال؟ أنت مالي وتجارتي ومكسبي، فلا تستطيع أن تفتح فمها بجواب لان شفتيه تقيدان فمها فلا ينفتح!

وأصبح الرجل ذات يوم فإذا التجارة قد بارت، وباد المال، وذهب الاثاث، وبيعت الجواري، ولم يبقى في يده شيء يباع؛ فاقبل ينقض الدار ويبيع أنقاضها، ولم يأس على ذاهب، ولم يحس بفقد مفقود، فقد كان يلقى الحبيبة، ويجد في جبها غذاءه إذا جاع، وريه إذا عطش، ودفئه إذا برد، وفي وجنتيها ما يغنيه عن الأوراد، وفي ثناياها بديلا عن اللآلئ، وفي ريقها عسله المصفى، وخمره المعتق، ومن ريحها عطره الفواح، وفي صدرها دنياه وآخرته، ويبقى الدار خالية معها قصرا عامرا، والصحراء روضه مزهرة، والليل المظلم معها نهارا مضيئا. . .

وأثمر الحب وجاد الحصاد، ولكنه قد خالف موعده، فلم يجيء في الربيع الطلق، ولا في الصحو الجميل، بل قدم في الشتاء الكالح، والأيام القاتمة الدكناء أيام الفقر والعوز؛ أخذها المخاض فجعلت تتلوى من الألم على أرض الحجرة، وما تحتها إلا حصير تقطعت منه الخيوط، وفراش بلى وجهه وتناثر قطنه حتى اختلط بالتراب. . . وطال عليها الوجع وهو واقف أمامها يحس أن المها في ضلوعه، وان كل صرخة منها سكين محمي يحز في قلبه، ولكنه لا يملك لها شيئا، وقالت له بعد أن عجزت عن الاحتمال:

- إني أموت. . . فاذهب فاحتل بشيء تشتري به عسلا ودقيقا وشيرجا. . . اذهب وعجل، فانك إذا أبطأت لم تجدني.

وخرج. . . وصار يعدو كالمجنون. . . أين يذهب والليل قد مالت نجومه، والناس نيام في دورهم، ولا يجد من يلجأ اليه، فقد فصله الحب عن الدنيا وصيره غريبا فيها، ليست منه ولا هو منها، وكذلك يصنع الحب! وجعل يهيم على وجهه حتى بلغ الجسر، جسر بغداد، وكان الليل خاشعا ساكنا، والناس قد أموا بيوتهم، وانسوا بأهليهم، وهو الوحيد الشارد لا أهل له إلا التي خلفها تعاني سكرات الموت، وعجز عن إسعادها؛ ولا دار له إلا هذه الخربة التي فر منها. لقد كانت هذه المرأة حظه من دنياه، وها هي ذي تموت فلا يبقى في دنياه حظ، وكانت هي نورها فلن يبقى له بعدها نور. وتصور الوحشة المخوفة، والوحدة المرعبة التي سيقدم عليها أن ولت عنه هذه المرأة التي كان يعي بها ولها، ونظر إلى ماء دجلة يجري اسود ملتفا ببرد الليل، فاحب أن تواريه أحشاؤه، وتراءى له الموت حلوا فيه متعة اللقاء، وأنسة الاجتماع. . .

وعاد فذكر آلام حبيبته وانتظارها، وعجزه عن معونتها وإسعادها، فتوجه إلى الله ودعاه من قلبه صادقا مخلصا قال: (يا رب، أني استودعتك هذه المرأة وما في بطنها. . .)، وهم بإلقاء نفسه في الماء، وفكر في الموت فوارت صورته أحلام الحب وصوره، ولم يعد يرى إلا هذه الهوة التي سيتردى فيها، وتسلق درابزين الجسر فأدركته حلاوة الروح فراح يتصور بوردة الماء ويفكر في الموت هل يأتيه سهلا هينا، أم هو سيذيقه العذاب ألوانا، وحاول أن يتذكر ما سمع عن الغرقى وهل يختنقون عاجلا أم يبطئ عليهم الموت، وذكره هذا العذاب بعذاب الله يوم القيامة، أليس الله قد حرم الانتحار؟ أليست هذه النفس ملكا لله وحده أودعها جسده أمانة ليستردها متى شاء ليست له هو ولا يملكها، وليس هو الذي خلقها وأبدعها، وذكر انه توجه إلى لله واستودعه حبيبته فكيف يلقى الله آثما ويسأله عونها وحفظها. وتنبه أيمانه فتردد، ووقف. . . ثم عاوده التفكير في حياته بعد اليوم، وكيف تكون إن ذهبت منها متعة الحب، فرجع إليه يأسه وقنوطه وعزم عزما مبرما على الموت، واغمض عينيه وخفق قلبه من هول ما يقدم عليه، وكاد يقفز ولكن. . . ولكن يدا لم يطق لها دافعا، ولك يملك معها حراكا أمسكت به. . . ذلك هو صوت اخذ أذنيه من بعيد، ثم أمتد حتى بلغ الأفق الذي اطل منه الفجر والأفق الذي انغمس فيه الليل، ثم غمر النهر والشاطئين والمدينة. . . فأحس به يشرق على نفسه كهذا الفجر فيبدد ليلها، ذلك هو صوت المؤذن، ينادي في صفاء الليل وإصغاء الدنيا، اجل واجمل نداء اهتز به هذا الفضاء ومشى فيه: (الله أكبر، الله أكبر، لا اله إلا الله).

وسمع: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فرأى فيها مجد الآخرة بالعبادة، ومجد الدنيا بالنجاح، وصبت القوة والعزم في أعصابه فعدل الموت، واقبل يسعى فيها جاء له، ولكنه لم يجرؤ (على هذا كله) أن يعود إلى الدار، وحدثه قلبه إن الفتاة قد ماتت، فمضى على وجهه تقذفه قرية فتتلقاه قرية، يضيفه الناس، وقد كان في الناس سلائق العرب وآداب الإسلام: يضيفون الغريب لا يسألونه من هو ولا يبتغون منه أجرا ولا شكرا، وجعل يطوي الأرض والأرض تطوى صحائف عمره، حتى حطت به النوى في خراسان.

ولقي من عرفه فيها ومد إليه يده مسعدا ومعينا فعاد إلى تجارته. . . وجعل يفكر لما استقر به المنزل في داره وامرأته والشك يخز في قلبه، ويكتب الكتب يسال عنه وعنها ويستنجد، ويلح ويتوسل حتى كتب ستة وستين كتابا، ولم يرجع إليه جواب فأيقن إنها قد ماتت. . .

وأثرى وامتلأت يده بالذهب ولكن قلبه ظل خاليا من الحب. وما كان يوسع في الأسى مكانا لحب جديد، فكان كلما احتواه العشية منزله، واغلق عليه بابه جفا عالم الناس وراحت روحه تسبح في عالمه هو، عالم ذكرياته وماضيه الذي احبه وافتقده ولم يجد منه بديلا، فيشعر بحرارة تلك القبل ويسمع وسوستها ويلمس دفء ذلك العناق، ويستروح نسيم تلك الدار التي كانت جنة وارفة الظلال، فيها الروح والريحان وفيها من كل فاكهة زوجان، فصيرها الحب قاعا صفصفا. . . ولكن تلك الخربة احب إليه من هذا القصر الذي يعيش فيه اليوم وحيدا لا يؤنسه فيه إلا الذهب. . .

وتصرمت السنون، وتتابعت خالية فارغة حتى أقامت بينه وبين ليلة المخاض حاجزا من أيام سمكه ثمان وعشرون سنة، وهبت على عمره رياح الخريف، فذوى غصنه، وكاد يدركه الجفاف، فأفزعه أن يموت بعيدا عن بغداد وداره التي ثوت فيها الحبيبة، فباع كل ما يملك بعشرين ألف دينار من الذهب واشترى قماشا وبضاعة وحملها إلى بغداد، وسار في قافلة له ضخمة يؤم دار الوطن. . . ولم يكن له من أمل إلا أن يقيم بهذا المال قبرا ضخما للحبيبة ويجعل فيه له مكانا، ولكن الدهر لك يبلغه حتى هذا الأمل، فقد خرج على القافلة اللصوص. فنهبوها، وقتلوا من فيها، ولم يتركوا منها أحدا. . .

ونهض من بين الموتى، وسار على رجليه وقد تبلد ذهنه من عظم الفاجعة حتى ما يقدر على الحزن. ومشى حتى حاذى النهر، وجعل يمر على مغارس النخيل، ومشارع المياه، ومنابت الورد والفل، وهو سارد ساهم، كأنما يمشي في حلم، قد ماتت في نفسه كل رغبة إلا الرغبة في الموت. . . وماذا بقى له في الحياة بعد ما فقد الحب وفقد المال؟ ولكنه لم يشأ أن يموت إلا في داره ولم يرد أن يظم عظامه إلا الثرى الذي ضم أعظم حبيبته، حتى يجاورها في الموت كما جاورها في الحياة، وتحامل على نفسه وقام يجر رجليه جرا، وكلما دنا من بغداد وأحس ريحها وانتعش واشتد، وعاش بذكريات الحب الذي ذهب ولم يبق إلى عودته سبيل، وآنسه أن يرى مرة ثانية الديار التي شهدت صور هذا الحب، ولكنه أعيا أخيرا وسقط على الشاطئ ولك يعد يستطيع الحراك. . .

وجعل يفكر تفكيرا مبهما ملتاثا يقطعه الجوع الذي يفرى أمعاءه، والتعب الذي يهد عظامه، فيرى انه كان في حلم وصحا منه. . . الدنيا كلها حلم كاذب: الحب، والمال، والصحة، والسعادة، والمجد. . . لا يخلد شيء من ذلك ولا يبقى. . . لا يبقى منه إلا ذكرى تبعث ألما، وتثير حسرة، وتحرق القلب، وتمنى أن لو كان خلق فقيرا منفردا، ما عرف من لذة الألفة، ولا متعة الغنى، وعادته فكرة الموت التي كانت مرت بذهنه منذ ثمان وعشرين سنة، ولكن دينه منعه أن يختم حياته بهذه الخاتمة البغيضة وان يجمع على نفسه شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، وهبت عليه نفحة من نفحات الأيمان فاستراح اليها، وذكر انه استودع فتاته الله، ولا تضيع عند الله الودائع، وان وراء هذه الأحداث حكمة بالغة، وقدرا حكيما. فاطمأن إلى حكمة الله وسلم أمره إليه ووجد لهذا الاطمئنان راحة وشبعا. . .

وسمع صوت بوق يرعد على حاشية الأفق فنظر فإذا (زلال) ضخم قد اقبل عليه، فلما حاذاه أشار ونادى، وسال صاحبه أن يحمله إلى بغداد، وكان فيه أمير كبير، ولكن (الديمقراطية) كانت شعار العرب، وكانت سليقة فيهم، لا يمنع الأمير مجده أن يقف لفقير سائل ويحمله معه فادخله الزلال وأطعمه وخلع عليه. ولم يسائله عن خبره، لان النوم قد غلب عليه فهجع كالقتيل قبل أن يسال وقبل أن يجيب.

ولما أفاق كان المساء قد حل، وكانت بغداد قد بدت، وسربت الزوارق السفن على سطح دجلة الفاتن تنشد لهوا وتبتغي لذة، وتملأ الضفتين نغما سائغا، وحبا ومجدا؛ وترنحت القصور طربا، وانتشت الرياض آنسا، وتعانق النخيل وتشاكى الغرام. وتراقصت الأمواه من دجلة وتناجت بالحب، وسكرت السفن وهامت، وسدرت بغداد في نشوة الظفر، وكانت بغداد هي الدنيا وكانت دارة الخلافة، وكانت عاصمة الأرض، وكانت منبع العلم والفن، ومثابة الغنى والترف. وكان فيها الصلاح وفيها الفجور، وفيها الخيرات وفيها الشرور، وفيها من كل شيء. . . وكذلك تكون الدنيا!

وكان دجلة يسر مزهوا طربا. فقد بدأ سيره منذ الأزل، ورأى الحكومات تقوم وتقعد حتى مل قيامها وقعودها، وشهد من بأساء الحياة ونعيمها ما زهده في نعيمها وبؤسها، ورأى الأنام حتى كره مرأى الأنام، ولكنه لم يرى أياما احلى، ولا مجدا أبقى، ولا ناسا أنقى واتقى، من تلك الأيام وناسها. . .

وجاز الزلال بتلك السفن والزوارق الحالمة السكرى كأنه البطل القوي يمر بالحسان في يوم عرس، فاجتمع على الصفحة احب والحرب، والعز والهوى، هذا يمثله زلال القائد، وتلك تمثلها زوارق العشاق، وكان يمضي إلى غايته مسرعا كأنه يسابق شعاع الشمس إلى الأفق الزاهي، وكان هو أيضاً شعاعه من الشمس التي أضاءت الدنيا في هاتيك الأيام، فأشرقت على القلوب عاطفة وجمالا، وعلى العقول علما وكمالا، وعلى الإسلام عظما وجلالا، وعلى الناس كلهم حضارة وتمدنا وسلاما وأمنا، وضوأت لهم الطريق المجهول، وشقت لهم السبيل الموصلة إلى تحقيق المثل العليا في المجتمع البشري، تلك هي شمس بني العباس إذ كان بنو العباس سادة الأرض.

وأنزله الزلال على الجسر، حيث قام تلك الليلة، فأعاده الجسر إلى ماضيه، فأحس بان هذه السنين كلها لحظة واحدة، وأنها صفحة قد سقطت من سفر حياته، فاتصل ما قبلها بما بعدها، ورأى الناس من حوله فهم بان يسألهم درهما يشتري به عسلا ودقيقا وشريجا لامرأته التي أخذها المخاض، وأسرع يريد أن يدركها قبل أن يشتد بها الألم، ثم انتبه فرأى هذا الحجاب الصفيق من الزمان يقوم بينه وبينها، ثمان وعشرون سنة ليست يوما ولا يومين. . . دهر طويل ولد ناس ومات ناس، عمر كامل. . . فتهافتت وخمدت هذه الشرارة من الأمل التي أضاءت في نفسه، وسار محطما مكدودا، يبصر الوجوه من حوله فيراها غريبة عنه لا يعرفها، ويرى المسالك والدروب فيفتش عن ذكرياته فيها فلا يجدها. . . حتى بلغ الدار ونظر فإذا الخربة التي خلفت فيها الحبيبة قد صارت دارا فخمة على بابها الجند والشاكرية فوقف ينظر إليها من بعيد. . . هذه داره التي رجع إليها ليتخذ لنفسه من ثراها قبرا قد أنكرته وأعرضت عنه. لقد عاد غريبا في بيته. منكرا في بلده. انه ميت يمشي بين الأحياء. لقد بحث عن اثر واحد من دنياه التي كان يألفها، فإذا كل شيء قد تبدل، فلا الوجوه بالوجوه، ولا الأمكنة هي الأمكنة! فيا ويح الزمان كيف صنع ذلك كله! هذا الجبار المخيف الذي يفعل الأفاعيل، لا يحس به أحد ولا يبصره ولا يلمسه بيده. . . ثم استغفر الله وتاب إليه، انه هو الفاعل المدبر، فلا الزمان ولا الأحداث بقادرة على شيء، انه هو وحده الذي يصرف الأكوان.

وولى ليعود فيضرب في الأرض حتى يموت، فما يبالي الآن أين يدركه الموت بعد ان حرم آخر أمانيه، وهي أن يواريه الثرى الذي وارى جسد الحبيبة، ولم تسل من عينيه دمعة، ولم يتحرك لسانه بكلمة وداع، ولك يفكر في شيء فقد توارت الآلام على قلبه حتى صار هو كتلة من الألم جامدة تسمى قلبا، وتتابعت عليه المصائب حتى صارت حياته كله مصيبة. . . ويئس من السعادة حتى ما عاد يفكر فيها، أو يؤلمه فقدها، وتلفت ليودع المكان الذي اصطفاه من دون الأمكنة، وأودعه اعز شيء عليه: حبيبته وذكرياته، ويشمله بنظرة فإذا هو يرى دكان بقال كان يعرفه لا تزال قائمة على العهد بها، كما يقوم الطل البالي في المدينة العامرة، فأسرع إليها. . .

وكان فيها شاب حدث علم منه إن أباه البقال مات من عشرين سنة، وان الدار لابن داية أمير المؤمنين المأمون وصاحب بيت ماله، وان لهذا الرجل قصة عجبا، فقد كان أبوه من سراة التجار، فاشترى جارية أولع بها وعكف عليها حتى افتقر، وجاءها المخاض فذهب يطلب لها شيئا فلم يرجع، وأسعفها البقال أبو الفتى، وولد للرشيد مولود فطلبت له المراضع فلم يقبل ثدي واحدة منهم فدل على الجارية فقبل ثديها، وصارت ظئره وكان المولود هو أمير المؤمنين المأمون.

ويسمع الرجل القصة فيحس إن الأرض تدور به، فيمر بآلاف الصور والألوان، والشكوك والأماني، ثم يسأله: وأين أم الولد؟ ويحسب إن هذه اللحظة التي انتظر فيها الجواب، قد طالت حتى غدت دهرا، وانه كالقائم ليسمع الحكم عليه بالبراءة أو القتل. فيقول الفتى: إنها باقية تغدو إلى دار الخليفة أياما وتكون مع ابنها أياما، ولكنها لا تزال حزينة لم تمسح آلامها الأيام ولم ترقأ لها دمعة.

ويدعه الرجل ويركض إلى الدار يشعر انه يمشي في الزمان، يعود أدراجه إلى لياليه الماضيات، إلى عهد الحب الضاحك، ولياليه المترعات بالقبل. لقد نسى في هذه الخطوات كل ما لقي من شقاء، وما حمل من ألم، وامتلأ قلبه شكرا لله الذي استودعه حبيبته وما في بطنها فما ضاعت عنده الوديعة، هذه الحبيبة التي طالما بكاها يحسبها ميتة وجاء ليدفن جسده الواني بجانب رفاتها، قائمة تنتظره لتمنحه عطرها وسحرها ونحرها، وهذا الجنين الذي خلفه على باب الموت شابا ممتلئا قوة وأيدا ومالا ومجدا. . .

ووصل إلى الشاب، فقال له: ما تبتغي؟

فخفق قلبه، وتلاحقت أنفاسه، وهمت مقلتاه، ولك يجد ما يمهد به الحديث، فقال له:

- أنا أبوك!

ونظر الشاب شاكسا، وقال له: اتبعني، فاتبعه فاجتاز به صحنا بعد صحن، حتى انتهى إلى المكان الحرم فأقامه أمام ستارة، وذهب ليسال أمه، ودل الرجل قلبه على إن الحبيبة وراء الستارة فناداها، وإذا الستارة تهتك، والمرأة تثب إلى عنق الرجل، تبكي وتضحك وتضحك وتبكي وتقول ما لا ترديه. . .

ويدير الشاب وجهه فما يحس به أن ينظر إلى أبويه وهما يعيدان عهود الهوى والشباب. . .

علي الطنطاوي