مجلة الرسالة/العدد 699/وفاة الملك الظاهر ودفنه
مجلة الرسالة/العدد 699/وفاة الملك الظاهر ودفنه
للأستاذ أحمد رمزي بك
(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون) (سورة فصلت الآية 30)
أيه أيتها الليلة الظلماء القاتمة السواد لماذا فجرك يتأنى ويتمهل؟ وأين صبح نهارك؟ لماذا لا يشرق؟
وأنت يا موكب الحزن الشامل مالك لا تزال مرابطا بأشباحك السود على أبراج قلعة دمشق وعلى جدران القصر الأبلق؟
أين الطبول والدبادب التي كانت تقرع على أسوار الحصون والقلاع؟
أين آلات الحرب والكراع التي كانت تدك معاقل الإفرنج ما لها قد سكتت؟
أين الأعلام وأين السيوف؟ أتراها قد نكست وأغمدت لدى مصرع الملك الشهيد الراحل، وتنزلت أرواح الشهداء من الأمراء والجند بأمر الرحمن تحمل أرياح الجنة إلى قلعة دمشق تحيي بطل الفتوح وسيد المعارك الذي قادها إلى النصر والشهادة.
إنه يرقد بداخل تابوت تراه معلقا وسط قاعة من قاعات الجند. أنه الملك الظاهر الذي لم تكن تحويه الدنيا بأسرها.
في ساعة بعد الزوال من يوم الخميس 17 المحرم سنة 676هـ (يوليه 1277 ميلادية) في حجرة من حجرات القصر الأبلق ومكانه اليوم التكية السليمانية بمدينة دمشق فاضت روح الملك الظاهر أبو الفتوح بيبرس بعد مرض بسيط لم يمهله غير أيام معدودات، وبموته انتهت حياة اعظم ملوك مصر والشام وطرا في عصرهما الإسلامي العربي المجيد لا بل في جميع اعصر التاريخ.
وكان السلطان العظيم قد دخل دمشق على راس جيشه الظافر عائدا من الجهاد عن طريق إنطاكية يحمل على جبينه غار النصر في آخر حملة قادها إلى أواسط آسيا الصغرى حيث حارب وقاتل وقارع وانتصر، ودخل مدينة قيصرية، وخطب باسمه على منابر أرض الروم بعد أن كسر التتار هناك وشتت شملهم، وحرر بلاد المسلمين من طغيانهم. ويقول مؤلف سيرته القاضي محي الدين بن عبد الظاهر: (دخل دمشق معتقدا إن الدنيا في يده قد حصلت، وأن سعده استخلص له الأيام والليالي والممالك شرقاً وغرباً)، ولكن المنية كانت على مقربة منه كما قال تعالى: (حتى إذا فرحوا بما أُوتوا أخذناهم بغتة) سورة الأنعام.
وكان رحمه الله ورضوانه عليه بطل من أبطال الإسلام أمضى العمر مجاهدا في سبيل الله ذائدا عن دينه وصفه المعاصرون فقالوا (كان طويل القامة أسمر اللون أزرق العينين أشعر اللحية جهوري الصوت شديد الهيبة تخضع له اسود الرجال وكان خفيف الركاب سريع الحركة لا يستقر في جهة حتى يظهر في جهة أخرى).
يوماً بمصر ويوماً بالحجاز ويو ... ماً بالشام ويوماً في قرى حلب
كان رجلا من رجال الله يحمل بين جنبيه قلباً لا يعرف المخاوف ولا ترهبه الأخطار، وكان بعيد الهمة عظيم الآمال يقدم بطبعه على عظائم الأمور ويرحب بالمجازفة ومقارعة الأخطار، يواجهها وهو ثابت مطمئن ويدفعها بالهدوء الذي يلازم النفس المطمئنة ذات النظرة النافذة التي لا تحيد عن الهدف ولا ترتد، والتي تشعر بأن لصاحبها من القوى الكامنة والظاهرة ما يجعله يسيطر على حوادث الزمن، وان فيه من صفات الرجولة ما يجعله بطلا من أبطال العالم، وإنها تشعرك بان لوازم القيادة متأصلة فيه، فهي التي أوصلته أن يتحكم على نفسه ويقودها كما يشاء ثم مكنته أن قاد الناس معه.
كان من أبطال المسلمين المؤمنين بعظمة الإسلام لا ينفك يفكر فيه ويخفق قلبه له، فهو من أولئك الذين إذا قاموا بعمل عظيم وضعوا كل شيء في سبيل تحقيقه والوصول إليه. هؤلاء ليس لهم أن يختاروا من الأمور أوسطها وأسهلها أو يقفوا بين طريقين مترددين وجلين؛ لم يكن من أولئك الذين تشغلهم أمور الدنيا فترى الواحد يوزع جهوده ذات اليمين وذات اليسار. بل كان في الطريق الذي يضع عقله وروحه وما يملك في إتمام ما بدأ فيه ويحشد عواطفه وغرائزه، في تأكيد إرادته نحو الغاية التي ينشدها، فكان أن وصل بالإيمان والثقة إلى أن تملكته نفحة من تلك النفحات الدافعة التي يسبغها المولى على من اختار من عباده، فأصبحت هذه النفحة غريزة في خلقه وقوة نفسه ودمه، تحركه للعمل والجهاد في سبيل وخدمة دينه ونصرة كلمته، فغدا بهذه النفحة قوة من قوى الخالق جل شأنه (آني لهذا أقمتك لكي أرى قوتي فيك).
عجب الناس له: إذ رأوه ملكا على اعظم ما تكون الملوك عليه هيبة ووقارا، قائدا على اعظم ما يكون عليه القواد أمام الأخطار والمعارك، ساس الملك وخاض المعارك فأدهش الدنيا بملكه وعظمته، وأدهشتها بفتوحاته وانتصاراته ومواقعه الحاسمة الفاصلة. حكم فعدل، وخطب باسمه في مشارق الأرض ومغاربها وأعاد الخلافة العباسية، وقاد الجند في الحروب فما من معركة دخلها ذد الإفرنج أو التتار إلا وانتزع النصر من أيدي أعدائه، فحطم قلاعه وحصونهم وساق الملوك والأمراء والقادة أسرى بين يديه. لهذا بقيت صورة الملك الظاهر حية خلال الاعصر، ولهذا صاحب أعماله السنين، وبقيت خالدة مع الزمن راسخة في قلوب الناس جيلا بعد جيل يتناقلها الخلف عن السلف ويسمر بسيرته الرجال.
ألم تر السامعين لسيرته. ما الذي يجمعهم حولها ويجعلهم يأنسون بها؟ انهم يلتمسون من عزيمته وعزمه ما يقوي عزيمتهم وعزمهم، وانهم يرون في صبره وإقدامه وشجاعته ما يخفف من وقع الأحداث والنوائب عليهم، ولذلك عاشت سيرته وأعماله وأصبحت أعماله مضرب الأمثال، وأطلت شخصيته من وراء الأجيال والقرون تحدث الناس بدوري البطولة والمجد.
وفي ليلة وفاته كتب مؤلف سيرته: (قبض الله روحه الزكية فرجعت إلى ربها راضية مرضية، وكأن نفوس العالم كانت نفساً، وانزل الله السكينة فلا تسمع إلا همساً، واستصحب نهايته السكوت، وخادعت العقول نفسها بين مصدق ومكذب، وسكتت الشفاه والألسنة، وتناومت النفوس من غير نوم ولا سنة، وأسدلت ستور المهابة، وافرد بقاعه من القلعة يوماً إليه بالترحم والسلام، ولا يزوره غير الملائكة الكرام، وكانت مدة مرضه قدس الله روحه ثلاثة عشر يوما، وهي مدة مرض الشهيد صلاح الدين رحمهما الله تعالى).
وفي قاعة من بيوت الجند من المماليك البحرية بقلعة دمشق وضع جثمان الملك الظاهر في تابوت بعد أن تولى غسله وتصبيره وتكفينه خادمه الخاص الشجاع عنبر، وساعد المؤذن كمال الدين علي المنيحي بحضور الأمير عز الدين الافرم، وبقي التابوت معلقا حتى شهر رجب من تلك السنة حينما جاء وفد من القاهرة لدفنه بتربته التي أنشئت بالمدرسة الظاهرية. ذكر صاحب البداية والنهاية: إن العمارة بدأت في يوم السبت تاسع جمادي الأولى في مكان الدار المجاورة لحمام العقيقي تجاه المدرسة العادلية ووضعت أسس التربة في خامس جمادى الآخرة.
عندئذ أوفد ابنه الملك السعيد: الأمير علم الدين سنجر والطواشي صفي الدين جوهر الهندي فوصلا من مصر إلى دمشق، ولما كانت ليلة الجمعة الخامس عشر من رجب سنة 676هـ حمل نعش الملك الظاهر من القلعة ليلا على أعناق الرجال:
خرجوا به فوق الرقاب وساروا ... تهديهم من وجهه الأنوار
وسروا به ليلا ليخفوا قبره ... والليل لا تخفى به الأقمار
هم سارعوا نحو الثرى بعبيره ... وقبوره الأسماع والأبصار
عندئذ أوفد ابنه الملك السعيد: الأمير علم الدين سنجر والطواشي صفي الدين جوهر الهندي فوصلا من مصر إلى دمشق، ولما كانت ليلة الجمعة الخامس عشر من رجب سنة 676هـ حمل نعش الملك الظاهر من القلعة ليلا على أعناق الرجال:
خرجوا به فوق الرقاب وساروا ... تهديهم من وجهه الأنوار
وسروا به ليلا ليخفوا قبره ... والليل لا تخفى به الأقمار
هم سارعوا نحو الثرى بعبيره ... وقبوره الأسماع والأبصار
وسارت جنازته إلى صحن الجامع الأموي للصلاة عليه، ولما انتصف الليل خرجوا به يتقدمهم نائب السلطنة المصرية بالشام الأمير عز الدين أيدمر ومعه أمراء جند الشام وتوجهوا به إلى المدرسة الظاهرية ثم إلى التربة التي أنشئت له، وهناك ألحده. قاضي القضاة عز الدين بن الصائغ. ولما ارقد رقدته النهائية بدأ القراء مستفتحين بالآية الكريمة (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا وألا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون)، ولقد زرت هذا الضريح ووصفته على حالته بعدد (الرسالة) 470 المؤرخ 23 نوفمبر سنة 1942، وكنت لا أدخل دمشق إلا جعلت من برنامجي زيارة هذا القبر الطاهر والوقوف أمامه أرتل قول القائل نقلا عن ابن الفرات:
صاح هذا ضريحه بين جفنيّ ... فزوروا من كل فج عميق
وهو القائل أيضا: (إن الأسف تجدد بدفنه فكان العالم فجعوا بأبيهم الشفوق، وقضوا حق التعزية وأنى يقضي أحد ما له من الحقوق).
ولقد تقلبت بي الأيام وتنقلت بين بلدان كثيرة وأتيت من كلف فج عميق لأجدد عهد الإخلاص أمام الملك الظاهر أعظم ملوك الإسلام المجاهدين المرابطين، فمن وجدت بقعة أوحت إلي وملأت روحي مثل هذه البقعة وقبر صلاح الدين. لقد جعلاني أومن بحق الوطن الخالد وعظمة مصر قلب العروبة والإسلام وأوحت كل منها إلى بالدوافع النفسية للعمل وعرفتني مكانة بلادي في التاريخ إن القوى الكامنة فيها لا تقهر وإنها سوف تظهر للعالم وتكتب في تاريخ العرب والمسلمين صفحة جديدة، وستبعث بعثاً جديداً بإذن الله.
إلى هذه التربة أنتهى مسير جثمانه الطاهر ليرقد رقدته الأبدية إلى يوم البعث إذ هناك يرقد بطل المنصورة وعين جالوت وصاحب الفتوحات الكبرى: قيصرية وارسوف وصفد وطبرية ويافا والشقيف وإنطاكية وحصن الأكراد، وغيرها من البلاد والحصون والقلاع، صاحب مصر والشام وبرقة والحجاز والنوب وأرض الفرات:
تدبر الملك من مصر إلى يمن ... إلى العراق وارض الروم والنوبي
ولن اترك الظاهرية من غير أن أشير إلى ما ذكره اليونيني في تاريخه عن أول درس للشريعة ألقى بها بعد بنائها إذ قال:
(وفي يوم الأربعاء ثالث عشر صفر كان أول درس بها ترأسه نائب السلطنة المصرية بالشام، وكان درسا حافلا حضره القضاة وكان مدرس الشافعية الشيخ رشيد الدين محمود بن الفارائي، ومدرس الحنفية صدر الدين سليمان، ولما توفي تولى بعده حسام الدين أبو الفضائل الحسن بن أنو شروان الرازي الحنفي الذي كان قاضياً بمدينة مطلية).
ها قد عشت يوماً من أيام الملك الظاهر فانظر أثابك الله إلى آثار ذلك العهد وإلى علمائه وتعجب لحالنا اليوم وما نحن فيه.
فهل فكر أهل مصر والشام في الظاهرية والملك العظيم المدفون بداخلها؟ هل أعطيت له مكانة البطولة التي يستحقها في التاريخ؟ أنظر إلى الحجر الرخامي على الباب تجده من عمل أحد الولاة بدمشق فيه شعر ركيك بالعربية وبالتركية يكيل المدح، وينسى واضعه أن يذكر صاحب المدرسة والتربة بكلمة واحدة. ومن نكد الدنيا إن الوقفية على المدرسة الظاهرية منقوشة على أحجار البناء على الباب الكبير، ولكن هذا لم يمنع الولاة والغاضبين من أن يحرموا الظاهرية من القرى الموقوفة على دروس الدين. أني استحي من نفسي وأخشى أن يقراني العالم إذا ذكرت للناس أسماء الضياع وأسماء من أغتصبها: رحم الله الإسلام والمسلمين ووقانا من شر أعمالنا.
قضي وله على الدنيا أيادٍ ... يصح بها من الزمن السقام
فراح من الملائك في صفوف ... لهم من حول تربته زحام
أحمد رمزي