مجلة الرسالة/العدد 7/المبارزة

مجلة الرسالة/العدد 7/المبارزة

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1933



للكاتب الروسي اسكندر بوشكين

مرت السنون، ودعتني مصلحة الأسرة للعيش في هذه القرية المظلمة في مقاطعة (يرنا)؛ وكم تمنيت لو أتيحت لي العودة إلى حياة الجندية وما كان لي فيها من متعة الاجتماع ولذة الشباب؛ وكانت حياتي هنا مملة في تشابه أيامها قاتمة لندرة حوادثها، أقضي وقتي حتى الغداء في التحدث إلى المالك أو في مراقبة العمال ومشاهدة المباني الجديدة، فإذا جن المساء (وخصوصا أمسيات الشتاء والربيع الطويلة المزعجة) لم أجد ملهاة ولا تسلية، فقد قرأت الكتب القديمة الموجودة كلها، واستعدت من خادمتي العجوز (كربلوفنا) القصص التي تحفظها أكثر من مرة، ولم أكن أميل إلى أغاني القرويين لما فيها وفي معانيها من الحزن والألم والحسرة، وحظي من هذا كله كثير. أما الشراب فقد كنت أتجرع كل ما تصل اليه يدي على رداءة نوعه وحدة طعمه، وقد تمنيت أن أكون سكيراً كهؤلاء الذين تكتظ بهم هذه القرية الغريبة.

وكان جيراني الأقربون جماعة من السكيرين، حديثهم زفرات متصلة وأنات متقطعة. فكيف لا أوثر الوحدة على الاجتماع بهؤلاء؟ ولم أجد حلاً لهذا السأم سوى التبكير في اليقظة، والتأخير في تناول الغداء. حتى يطول نهاري ويقصر ليلي.

وعلى بعد أربعة فراسخ من منزلنا توجد المقاطعة الجميلة التي تملكها (الكونتس بيروفنا) ويسكن هذه المقاطعة وكيل السيدة، أما هي فلم تزرها غير مرة واحدة في الشهر الأول من زواجها.

وفي يوم من أيام العام الثاني لحياتي في هذه القرية سمعت أن الكونتس وزوجها سيقضيان الصيف في مقاطعتهما، ولقد وصلا حقا مع حاشيتهما في النصف الأول من شهر يونية.

وليس من شك في أن قدوم جار غني يعتبر حادثا هاماً في حياة الريف. وقد تحدث الناس عن هذا الحادث قبل حدوثه بثلاثة أسابيع، ولا يزالون يتحدثون فيه حتى اليوم مع مرور ثلاثة أعوام عليه. أما أنا فلم يثر فيّ غير الشعور بقرب سيدة شابة رائعة الجمال، حتى إذا جاء الأحد الأول على إقامتهما تناولت غدائي وأسرعت إلى قصرهما لأقدم نفسي للسيدة بصفتي جارها القريب وخادمها المطيع.

قادني الحاجب إلى المكتبة فبهرني أثاثها البديع ومساحتها المتسعة، هنا رفوف صفت الكتب والمجلدات فوقها على كل منها اسم مكتوب بالبرنز، وهناك تماثيل ومرآة، وعلى الأرض بساط أخضر عليه سجاجيد عجمية رائعة النقوش، ولما لم أكن متعوداً هذه المناظر المترفة شعرت بضآلة مركزي وضعة شأني، وداخلني شعور غريب فيه من الحيرة والخجل ما فيه، وأصبحت كالفلاح الساذج الذي يطلب مقابلة الوزير!

فتح الباب ودخل رجل في الثانية والثلاثين أو يقاربها، فما رآني حتى هش لي وابتسم في وجهي. . . أخذت أسرد عبارات التحية المعروفة كأن أقول أنني مسرور بلقائه وأن. . . وأن. . . ولكنه وقفني عند حدي بحديثه الطريف ورحب بي.

وما أن استعدت هدوء نفسي أمام ابتسامته وتواضعه حتى فتح الباب ودخلت الكونتس، هنا اصطكت ركبتاي وانعقد لساني. . . لقد كانت آية من آيات الجمال والرشاقة، وكم حاولت أن أجيبها فلم أستطع ولاحظ الكونت اضطرابي فراح يقدمني إلى زوجته في أسلوب عادي كأنني صديق قديم.

وجلت بنظري في المكتبة حتى استقرت عيناي على الصور ولم أكن من غواة الصور أو نقادها، ولكن صورة واحدة استوقفتني لا لما تمثله من المناظر السويسرية الساحرة ولكن لأن طلقتين اخترقتاها واحدة فوق أخرى!

إلتفت إلى الكونت وقلت (ما أجمل هذه الصورة!) فرد مبتسما (نعم! وهي على جمالها لها عندي مركز خاص. هل تحسن إطلاق الرصاص؟)

فأجبت على سؤاله مسرعاً لأنني وجدت فرصة سانحة للتحدث في موضوع أفهمه (أجل!. وأنا أستطيع إصابة بطاقة على بعد ثلاثين خطوة) وهنا تدخلت الكونتس (حقا!. . وأنت يا عزيزي هل تستطيع إصابة بطاقة على بعد ثلاثين خطوة؟)

فأجاب الرجل: (لا أدري! لقد كنت ماهراً في الرماية أيام شبابي. . وقد مضى علي أربع سنوات لم ألمس فيها بندقية)

قلت (صدقني يا سيدي أنك لا تستطيع إصابة البطاقة على بعد عشرين خطوة وأنا أراهنك على ذلك، لأن الرماية تحتاج إلى مران مستمر. . وأذكر أنني لم أستعمل بندقيتي شهرا كاملا أيام كنت في الجيش لأنها كانت عند مصلح الأسلحة. . أتدري ماذا حدث؟ لقد أخطأت زجاجة على بعد خمس وعشرين خطوة لا مرة واحدة ولكن أربع مرات متتابعة! وكان لفرقتنا قائد يحب المزاح دائما فقال: أظنك تحترم الزجاجة أيها الصديق! فالتمرين واجب. . وأذكر أن أمهر من قابلت في هذا الضرب من ضروب الرياضة رجل غريب كان يتدرب على إطلاق الرصاص ثلاث مرات قبل الغداء على الأقل. . وكما أنه لا يستطيع نسيان الكونياك لا ينسى بندقيته مطلقا!).

ورأيت الزوجين يعجبان من حديثي ويقبلان على الإنصات.

سألني الكونت (وما طريقته؟). فأجبت (سأقص ذلك عليكما. . كان إذا رأى ذبابة على الحائط. . أنت تضحكين يا سيدتي؟ أقسم لك أن ما أقوله حق لا ريب فيه. . ثم ينادي خادمه. كوسكا هات بندقيتي! فيأتي له بها ثم. . طراخ! فإذا بالذبابة منبطحة على الحائط!)

فصاح الكونت: (يا لها من مهارة! وما اسمه؟) فأجبت (اسمه سيلفيو يا سيدي) فانتفض الرجل واقفا وهو يقول (سيلفيو؟ وهل عرفت سيلفيو؟)

قلت (أعرفه؟ لقد كنا صديقين. . وكان سيلفيو معي في الفرقة؛ وها قد مضت خمسة أعوام على ذلك. . هل تعرفه أنت؟)

فقال الكونت (أجل أعرفه تماما. أو لم يخبرك عن حادث فريد وقع له؟)

- (أخبرني كيف لطمه شاب وقح على وجهه في مساء أحد الأيام)

- (وهل ذكر لك اسم هذا الشاب الوقح؟)

(لا لم يطلعني على اسمه. . آه!) وهنا استدركت لأنه يغلب على ظني أن الشاب هو الكونت وقلت (عفوا سيدي. . لم أكن أعلم!. ولكن يغلب على ظني أنه أنت!) أجاب الكونت في ارتباك: (أجل هو أنا. . وهذه الصورة ذات الثقب نتيجة لقائنا الأخير!)

هنا اعترضت الكونتس قائلة (نشدتك الله يا عزيزي ألا تتحدث في هذا الموضوع، إن مجرد التفكير فيه يرعبني حتى اليوم!) ولكن الكونت لم يحقق رجاءها بل قال (يجب أن يعرف السيد كل ما يتصل بالموضوع، فهو يعلم كيف أهنت صديقه فمن الواجب أن نروي له كيف انتقم ذلك الصديق.)

ودعاني الرجل إلى الجلوس قريبا منه في مقعد ذي مسند وأخذت أنصت لهذه القصة.

تزوجنا منذ خمسة أعوام وقضينا شهر العسل في هذا المنزل؛ وفي الحق لقد كانت أهنأ أيام حياتي لو لم تعكرها هذه الحادثة المزعجة.

وفي مساء أحد الأيام ركبت مع زوجتي للنزهة ولكن الجواد جمح بنا حتى ارتاعت زوجتي ورجتني أن أعود بالعربة إلى الإسطبل أما هي فستعود سيرا على الأقدام، ولم أكد أصل إلى الدار حتى رأيت عربة سفر أمام الباب. وقيل لي أن إنسانا لم يذكر اسمه ينتظرني لمهمة خاصة في المكتبة. . أسرعت إلى هناك فوجدت رجلا لا يزال في ثياب السفر له لحية طويلة، وأخذت أتذكر أين رأيته قبل ذلك. .

وقال الرجل: أولا تذكرني أيها الكونت؟، وكان صوته مضطربا. . فصحت عند ذلك: سيلفيو!

وأقول الحق لقد وقف شعري من الرعب. وقال صاحبنا جئت لأطلق رصاصتي. فهل أنت مستعد؟، ورأيت بندقيته بين طيات ثيابه وعددت اثنتي عشرة خطوة ورجوته أن يسرع في مهمته لأن زوجتي في الطريق إلى المنزل؛ ولكنه قال أريد النور أولا، لذلك طلبت الشموع.

ثم أغلقت الباب وأمرت ألا يسمح لأحد بالدخول، ورجوته مرة أخرى أن ينجز مهمته فرفع بندقيته وأخذت أعد الثواني ولم أكن أفكر في غير زوجتي حتى إذا انقضت دقيقة كاملة خفض بندقيته وقال (أنا آسف جداً لأن بندقيتي ليست محشوة ببذور الكريز! والرصاص كما تعلم صعب الاحتمال! ولكن تعال نفكر في المسألة مرة أخرى. . لا أرى مبارزة فيما أنا مقدم عليه. . بل هي أقرب ما تكون إلى القتل، وليس من عادتي إطلاق الرصاص على شخص أعزل من السلاح، هيا نبدأ المبارزة من جديد فنرى أينا يبدأ. . . وأعددنا ورقتين كتبتا في الأولى رقم 1 وفي الثانية 2 ووضعناهما في القبعة التي أصبتها في المبارزة الأولى. . . وتناول كل منا ورقة دون أن ينظر فيها فإذا بورقتي رقم واحد وهنا صاح سيلفيو ((لا أنكر أيها الكونت أن حظك حسن كحظ الشيطان!))

لم أفهم غرضه وأجبرني على أن أطلق رصاصتي التي لم تصبه بل أصابت الصورة التي تراها!

وأشار الرجل إلى الصورة التي استرعت انتباهي أول جلوسي وصار وجه الكونت أحمر قرمزيا وأصبح وجه زوجته كوجوه التماثيل الرخامية البيضاء. أما أنا فقد تعثرت بين شفتي أنة خافتة وأتم مضيفي قصته:

أشكر الله لقد أخطأته رصاصتي: أما هو فقد كان رابط الجأش ثابتاً ينتظر. . فتح الباب فجأة ودخلت زوجتي فلم تكد ترانا على هذه الصورة حتى ألقت بنفسها عند أقدامي، وهنا استعدت شجاعتي وقلت لها، عزيزتي، ألست ترين أننا نمزح؟ اذهبي واشربي قدحا من الماء ثم عودي الينا، وعند عودتك سأقدم إليك صديقي وزميلي القديم، ولكنها لم تصدقني وسألت سيلفيو في رهبة وتأثر، هل أصدق زوجي فأعتقد أنكما تمزحان، فأجاب، انه يمزح دائما يا سيدتي، اتفق مرة أن صفعني وهو يمزح، وأصاب قبعتي برصاصته وهو يمزح، ومنذ دقائق أخطأني وهو يمزح أيضا، والآن جاء دوري لأضحك قليلا!، ثم استعد، ولكن زوجتي جثت بين قدميه. . . عندئذ قلت لها، انهضي يا عزيزتي! ألا تخجلين من نفسك؟؛ ثم وجهت حديثي إليه وقلت هل تريد أن يغشى على هذه السيدة؟ فلتطلق رصاصتك! قل نعم أو لا! فأجاب: لن أطلق رصاصتي فقد تم غرضي، ها أنت ذا ترتعد من الخوف وها هو وجهك كوجوه الموتى، وهذا كل ما أطمع فيه. . ولكن أذكر أنني أعطيتك فرصة ثانية وكنت أظن أنك لن تخطئني. . . لن تنساني بعد الساعة. . سأتركك لضميرك يرى رأيه فيك!.

واتجه نحو الباب، ثم التفت إلى الصورة دون أن يستعد وأطلق رصاصته فوق رصاصتي تماما! وهنا أغمي على زوجتي ولم يستطع الخدم الوقوف في وجهه وقد كانت الأبواب تفتح أمامه في سرعة حتى وصل إلى عربته ومضى. . أما أنا فلم أعد إلى نفسي إلا بعد مدة طويلة.

إلى هنا انتهى حديث الكونت، وهكذا سمعت هذه القصة الرائعة ولم أر بعد ذلك سيلفيو ولم أسمع عنه إلا أنه قاد جماعة من الثوار في الفتنة التي أشعلها (اسكندر ابسلانتي) وأنه قتل فيها عندما كان العدو في (سكولياني). . .

عبد الحميد يونس