مجلة الرسالة/العدد 70/الشيخ علي يوسف

مجلة الرسالة/العدد 70/الشيخ علي يوسف

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 11 - 1934


2 - الشيخ علي يوسف

للأستاذ عبد العزيز البشري

تتمة

ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، على انه كان إلى الطول. يظهر في مرأى العين نحيلاً هزيلاً، ولكنه كان مكتنز اللحم. مستطيل الوجه، واسع مساحة الجبهة، ازرق العينين، طويل الهدبين كثيراً ما ترى له في إطراقه، نظرة غريبة ساجية. ضيق الفم، على أن في شفتيه الحمراوين شيئاً من الغلظ. تعلوه صفرة ما احسبها من اثر مرض. وشعر لحيته الدقيقة المتسقة يميل إلى الشقرة. رفيق الصوت لينه إذا تحدث، فإذا رفع صوته ضمر بعض الضمور، وتسلخ بعض التسلخ، فلم يكن من تلك الأصوات التي تصلح للخطابة

وكان بعد رجلاً شديد العقل قوي النفس حديد العزم، وافر الشجاعة. لا تتعاظمه قوة خصم بالغة ما بلغت قوة ذلك الخصم وبأسه. وإذا تحداه متحد ركب رأسه في نضاله لا يبالي أين يقع المصير، وصح فيه قول الشاعر:

إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانباً

واذكر أنني مضيت إليه مرة في صحب لي من خلصانه، وسألناه أن يترفق بالمؤيد فلقد تظاهر عليه خصومه وألَّبوا الجمهرة عليه، واذكوا عليه حماسة الشباب في رأى له قد لا يحسن فهمه العامة، ولا يستريح إليه طموح الشباب. فأصغى إلينا واحسن الإصغاء، وترك كل واحد منا يقول ما عنده، حتى إذا انتهينا ونحن على الظن بأنه نازل عند رأينا، عادل إلى ما سألنا، فإذا هو يرتج في مجلسه ارتجاجه عنيفة ويقول في قوة وفي عزم حديد: (والله لا يعنيني أن يكون الناس جميعاً في صف واحد، وأنا والحق الذي اعتقده بازائهم في صف واحد)!. وتركناه ونحن نرى منحدر المؤيد بطغيان الخصومة يوماً بعد يوم!

ولقد كان الشيخ علي رحمة الله عليه، رجلاً متمكناً من نفسه حقاً، ولقد كان مما يشاع عنه، ولعل خصومه هم مبعث هذه الإشاعة، انه كان يقول: أنا لا أبالي أن اخسر هذا البلد، ففي إمكاني أن أعود فأكسبه بثلاث مقالات. .!

ولقد عاشرت الرجل ما عاشرته، واستمكن ما بيننا من الود والآلف إلى الحد. الذي يبعثني على الاعتقاد بأنه ما كان يخفي عني شيئاً حتى من نجوى نفسه في الأسباب العامة. وشهد الله ما سمعت منه قط هذا الكلام، ولا أية عبارة أخرى يمكن أن تؤدي معناه

ولكن مع هذا لقد كان هذا هو الواقع اعني الواقع من حاله لا من مقاله: فأنني لا اعرف رجلاً سياسياً عظيماً كان اقل الناس أنصاراً وأكثرهم خصوماً كما كان الشيخ علي يوسف وخصومه. على كثرتهم، لقد كانوا من جميع الطبقات، وكانوا من جميع الهيئات، وانهم ليحيطون به إحاطة الطوق من كل جانب، وكلهم عامل على إسقاطه، جاهد ما امتد به الجهد في هدم المؤيد، مذك عليه الأقلام والألسن من كل ناحية، تدمغه بتهمة الخيانة الوطنية فما دونها في غير هوادة ولا اشفاق، والمؤيد يتقلص بين أيدي القارئين ويتقلص حتى يظن انه قد تشرف على العفاء. ثم إذا الشيخ يتجمع، وإذا هو يشرع القلم شرع الرمح الرديني، وإذا هو يطعن الطعنة البكر ها هنا مرة وها هنا مرة، فلا يصيب إلا الكلى والمفاصل. وإذا هؤلاء الخصوم يتطايرون عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، وإذا المؤيد يرن في البلد رنينه، بعد ما تردد تأوهه وطال أنينه!

وقد عرفت أن الشيخ علي يوسف كان مبغضاً إلى الكثرة في البلاد. وان هذا البغض ليرجع في الأكثر إلى أسباب صناعية: منها المنافسات الصحفية، ومنها الغيرة من موضعه يومئذ من ولي الأمر، ومنها كان هنالك رجال أقوياء ببسطة الجاه وسعة الغنى، وفيهم كذلك من ذهب لهم في العلم والأدب صيت وذكر، كان هؤلاء لا يستريحون إلى سياسة القصر، ولربما ظاهروا المعتمد البريطاني أحياناً في عدائه للقصر. فهم بالضرورة، ينقمون من كل رجل توافيه للقصر، وخاصة إذا كان رجلاً كالشيخ علي يوسف جبار العقل جبار القلم

أرأيت كيف كان هذا الرجل محاطاً من جميع أقطاره بنطاق من العداوات المختلفة، بل التي يصطرع التناقض أحياناً بين أسباب بعضها وبين أسباب بعض؟. على أن إذكاء بغض الشباب والعامة للرجل من جهة، وبغض الخاصة له من جهة اخرى، إنما كان يسلكه له خصومه من أحد طريقي الضعف فيه، أن صح هذا التعبير. أولهما انه كان معتدلاً لا يرى العنف سبيلاً إلى استرداد حقوق البلاد؛ بل أن هذا العنف لقد يرديها في أخطار لم تكن لها في الحساب، وكان طوعاً لهذا يرى إلا يتحدث على الشئون العامة إلا الشيوخ الناضجون المجربون، وهذا وهذا، ولا شك مما لا يرضى الشباب المشتعل حماساً لحق الوطن. ولا تنسى أن العامة من وراء هؤلاء أما السبب الثاني فلصوقه بالقصر، وشدة توافيه له ومظاهرته له على الدوام، أظن أن هذا مقام لا تحمد فيه إطالة الكلام

مع هذا كله ففي يوم الجلي، يوم تحدث الأحداث القومية، ينفض الناس قلوبهم حتى يتساقط عنها كل ما علق بها من الحقد على الشيخ علي يوسف، ويتلعون أعناقهم نحو المؤيد، شاخصة أبصارهم، مرهفة آذانهم، معلقة في انتظار ما يقول الشيخ أنفاسهم. فإذا النمر الجبار يثب على فريسته من عدوان العادين وثبته فلا يزال يوسعها تمزيقاً بمخلبه، وضغماً بأنيبه حتى ما يدعها إلا (اعظماً وجلوداً)

نعم، لقد كان يقول الشيخ علي فيروي كل غلة، ويشفى كل علة،، ويعلو بسطوة قلمه حتى ما ينتهي منتهاه في ذاك أحد. والناس طراً لهذه النصرة بين مهلل وبين مكبر!. هذه كانت قدرة الشيخ القادرة وهذه كانت قوته العبقرية النادرة. وهذه مقالاته في أعقاب حادثة دنشواي ما برحت ترن في آذان من قرءوها إلى الآن

وأني لأذكر له حادثاً طريفاً في هذا الباب:

فشت الفاشية، لا أعادها الله بين المسلمين وإخوانهم الأقباط عقب مصرع المرحوم بطرس باشا غالي، وكان ذلك في سنة 1910 على ما اذكر، وعقد الأقباط مؤتمراً ملياً لهم في أسيوط، وأجابهم المسلمون بمؤتمر مثله في القاهرة وأفضوا برياسته إلى اكبر رجل في البلاد يومئذ وهو المرحوم مصطفى رياض باشا، واختار القائمون على هذا المؤتمر مثوى لاجتماعه ملعب مصر الجديدة، ومضى الناس أفواجاً في اليوم المشهود، واجتمع رجالات البلد لم يتخلف منهم إلا من انقطع به العذر. وتصدر الحفل رياض باشا. وتعاقب الخطباء كابراً بعد كابر. فأبلوا في المقال أيما بلاء وأبدعوا في الخطاب أيما إبداع

حتى إذا كانت النوبة على الشيخ علي أذكى بعض شبان الحزب الوطني في المحتشدين في بهو الملعب طائفة من الفتيان من طلبة الأزهر وتلاميذ المدارس، يسألون القوم إلا يصفقوا إذا خطب الشيخ ولا يظهروا أية إشارة تدل على الاستحسان. فوعدهم اكثر الناس بهذا وأصروا عليه مخلصين لما تنطوي صدورهم من حقد عليه ومن بغضاء

وينبعث الشيخ يخطب وهو كما قدمت لك غير خطيب. استغفر الله بل لقد انبعث يتلو مقالته في أوراق بين يديه، وأنت حق خبير بالفرق الهائل بين اثر التالي واثر الخطيب. وما أن مضى في تلاوته بضع دقائق حتى اخذ الناس عن نفوسهم، ونسوا ما عاهدوا أولئك الفتيان وعاهدوا أنفسهم عليه. فبروا من التصفيق اكفهم وشققوا بالصياح حناجرهم تشقيقاً، فكنت تسمع من هتافهم مثل الرعد القاصف، وترى من اضطرابهم وتموجهم فعل الريح بالأغصان في اليوم العاصف! وكان من أشدهم سعراً من كلام الرجل هم أولئك الفتية الذين كانوا يروضون الناس على إلا يلقوا خطابه إلا بالجمود والأعراض

وجهد بالرجل، فتعاور التلاوة عنه كل من أستاذنا إبراهيم بك الهلباوي والمرحوم احمد بك عبد اللطيف المحامي الأشهر، وأنت كذلك خبير بأثر خطبة يتلوها في الساعة غير منشئها، ما أرخى إليها من قبل نظراً. ومع هذا فما برحت تزداد الفورة ويشتد بالقوم الفتون!

ولقد اذكر انه بعد إذ فرغ من خطاب الشيخ وافقت في طريقي صديقاً لي من شبان الحزب الوطني وهو الآن من أعلام آهل الفضل الذين يتولون منصباً جليلاً في السلك القضائي. وكان مسرفاً غالياً في التشيع لمبادئ حزبه. مفرطاً في بغض الشيخ شديد الحمل عليه ورأيته يضرب كفاً بكف فسألته ما به؟ فأومأ إلى مكان الشيخ من منصة الخطابة وقال: (على حس الخطبة دي، يقعد ابن الـ. . . يخون في البلد ثلاث سنين)!

ولا زلت كلما لقيت صاحبي اذكره هذه الحكاية، فيضحك في غيظ لا ادري أن كان من تذكيري له بهذه القصة، أم انه ما تزال في صدره بقية من هذا الضغن القديم؟! الله اعلم!

ولقد عرفت أن الشيخ علي يوسف كان رجلاً مكافحاً، بل أن قلمه لم يكن يجود في شيء مثلما كان يجود في الكفاح ولم تكن سياسة الاحتلال في مصر تخشى سطوة قلم قدر ما تخشى قلم هذا الرجل، فأنه كان فوق كفايته البيانية، وما آتاه الله من شدة العارضة، والتمكن من نواصي جلائل المعاني، لا يهرول إذا هرول في الصغائر ولا يطعن إذا طعن إلا في الصميم

ولا احب أن أتجاوز هذا المعنى في الرجل قبل أن أدل على خلة من خلاله في كفاحه: ذلك بأنه كان يعتمد اضعف النقاط في خصمه فيتجمع لها، ثم يثب عليها بكل قوته، ولا يبرح يطعنه منها دراكاً حتى يدوخ رأسه ويذهله عن سائر أسلحته، إذا كانت له أسلحة أخرى تجهز بها لذلك النضال

وكان في كتابته سريعاً جداً، حتى لتحسبنه ويده تجول في القرطاس عازفاً على قانون لا مسطراً بيراع، وتراه كلما فرغ من وجه الرقعة من الاضمامة دفع بها إلى من يفضي بها إلى المطبعة. وهكذا حتى يأتي على غاية المقال، لا يتتعتع ولا يتحبس ولا يحتاج إلى مراجعة شيء مما اسلف، ومع هذا تجد المقال سوياً غاية في الحبك وتناسق الأطراف!

ومن العجب العاجب في أمره انه كثيراً ما كان يكتب والغرفة محتفلة بالزوار وأصحاب الحاجات، يرفعون أصواتهم بفنون الأحاديث والجدل بل لقد يأخذ معهم في بعض ما هم فيه وهو ماض لشأنه لا يشغله هذا عنه كثيراً ولا قليلاً!

الشيخ علي الصحفي

ولقد كان رحمه الله، صحفياً بأجمع معاني الكلمة، يكتب المقال الرئيسي كل يوم بيده ويراجع كل ما يدلي به إليه الكتاب من المقالات، ويفض البريد بنفسه، فما رآه كفؤا للنشر إذن في نشره وقد يحذف بعض المقال ويبقى على بعض، فإذا تهيأت الجريدة للطبع وراجعها المصححون تناولها فقرأها من أولها إلى آخرها يصحح ما عسى أن يكون قد فات القوم تصحيحه، ويتثبت من إلا يكون قد دس على الجريدة شيء مما يكره أو يكون قد سقط إليها في سر منه إعلان عن خمر أو غيره من المناكر

وكان على جلالة محله وكثرة المخبرين لديه، يطوف بنفسه كل يوم بأكثر الدواوين في تنسم الأخبار يستخرجها بلطف حيلته من النظار (الوزراء) أو من المستشارين الإنجليز فمن دونهم من عيون الموظفين

وهكذا استطاع الشيخ علي بكفايته وحد عزمه أن يجعل من المؤيد اعظم جريدة في مصر، برغم كل ما كان يعتريها من الكيد، بل اعظم جريدة في العالم العربي كله

من أخلاق الشيخ علي

وقبل أن اختم الحديث في الشيخ علي يوسف أرى لزاماً أن أشير إلى فضيلتين من فضائله البارزة بروزاً عظيماً: أولاهما انه كان خيراً مطبوعاً، ما رأيته سئل الخير قط يستطيعه إلا فعله مهما يكن فيه من عنت ومن إرهاق، وإنه ليفعل مغتبطاً رضياً هاشاً حتى ليكاد يلتمس السائلية الخير إلتماساً، وحتى ليكاد يصدق فيه قول الشاعر (كأنك تعطيه الذي أنت سائله). وإني لأعرف إنه كان يجرد صدراً من يومه في السعي لحاجات الناس ابتغاء رضوان الله، هذه واحدة. أما الثانية فشدة وفائه. ولقد عرفت صلة الرجل بالقصر، ومبلغ ضعفه له. ولقد يتغير ولي الأمر يومئذ على الرجل من صدقاته أو مِنْ من أسلفوا له يداً، فتتناهشهم الأقلام من كل جانب، اللهم إلا المؤيد، فأنه الذي لا يطلق مقالة السوء فيه أبداً وحسبك دليلاً في هذا الباب شدة توافيه للمرحومين الشيخ محمد عبده، وسعد باشا زغلول، ورياض باشا، وغيرهم فإن كان قد مس بعضهم كما مس رياض باشا عقب خطبته المشهورة، فلقد كان عذره واضحاً وأي وطني يطيق أن يسمع الإشادة بفظل المعتمد البريطاني على حساب كرامة أمير البلاد! على إنه فيما مسه لقد كان به أرفق الكاتبين

فإن زعمت بعد هذا أنه كانت في الرجل هنة أو كانت فيه هنات، فمن ذا الذي سلم على العيوب كلها، و (كفا المرء نبلاً أن تعد معايبه). وحسب الشيخ علي انه كان بمجموعة مزاياه ومواهبه مفخرة من مفاخر هذه البلاد التي لا يسخو بمثلها الزمان و (إن الزمان بمثله لبخيل)

رحمه الله رحمة واسعة، وعزانا عنه نخن القادرية قدره، أحسن العزاء

عبد العزيز البشري