مجلة الرسالة/العدد 70/يا هادي الطريق جرت!!
مجلة الرسالة/العدد 70/يا هادي الطريق جرت!!
ُرت!!
ذلك هتاف الأمة الحيرى، يتجلجل في صدرها المكظوم كلما بهرتها الشدائد، وأجهدتها المفاوز وفدحتها الضحايا، ووقف بها اللغوب، ودارت ببصرها في معامي الفضاء فلا تتبين نسما لطريق ولا تتعرف وجهاً لغاية
يا هادي الطريق جرت!!
ذلك صراخ القافلة المكروبة، تخبط منذ زمن طويل في معامي الأرض وخوادع السبل، وإدلاؤها الغواة يلتهمون زادها مع الوحش، ويتقسمون مالها مع الغير ويغتنمون ضلالها مع الحوادث حتى قطعوها عن ركب الإنسانية وتركوها في مطاوي التيه تنفق جهدها على غير طائل وتنشد قصدها من غير أمل
يا هادي الطريق جرت!!
ومن يستطيع اليوم أن يعَّرف هذا الهادي بالنداء، أو يخصصه بالوصف، أو يأخذه بالتبعة؟ لقد تعدد الهداة في هذه القافلة! واختلفت الشياطين بين هؤلاء الهداة فتنازعوا الزعامة وتجاذبوا الأزمة فأخرجنا هذا من مذهب إلى مذهب، وصرفنا ذاك من مطلب إلى مطلب، حتى إذا انكشفت عن عيوننا أغطية الغفلة وجدنا أنفسنا بعد الجهد الجاهد ندور حول الموقف الذي كنا فيه أو نرجع إلى الموضع الذي فصلنا عنه!
على هذه القيادة المتضاربة الأفينة رجعنا القهقري زهاء ثمانين سنة: رجعنا إلى العهد الذي كنا نهدهد الدستور فيه على هوى السلطان المطلق، وندرب القانون على مصارعة العرف الغالب، ونعلم الشعب الأجير معنى الأمة المالكة! وليتنا عدنا إلى ذلك العهد بأخلاقه ورجولته! فقد كنا على قلتنا أعزة، وعلى فاقتنا أعفه وعلى جهالتنا أعلم بالخير وأفهم لمعنى المجتمع. كنا نتواصى على الصبر، ونتعاون على البر، ونتهادى صنائع المعروف ونحفظ وحدة الأسرة بالحب، وسلطان الدولة بالطاعة، وحقوق الله بالورع، فما كان منا من يخون الأمانة، ويسرق الأمة، ويتكئ على النقيصة ويتحمل على الخبث ويتَّجر بالدين، ويتخذ عدو وطنه ولياً، ويعتقد خطة غاصبه شريعة!
ولكننا وا أسفاه بعد هبَّة مصطفى، ونهضة سعد، وجهاد خمسة عشر عاماً، تمكن فيها السلطان واستبحر العمران، وازدهر العلم، وتولد النبوغ، وتوحد الشعب، وتكون الرأي، نصاب بهذه النكسة الشديدة، فنعود ناقضين ما ابرم خاسرين ما غنم اللهم أن النيل لا يزال يفيض وإن الوادي لا يزال ينبت، وإن الشمس التي أنضجت أذهان الفراعين لا تزال تشع وإن الأيدي التي غرست أولى الحضارات على العدوتين لا تزال تعمل، فما بالنا اليوم يتقدم الناس ونتأخر، وتتحرر الشعوب الضعيفة ونحن لا نتحرر؟
دع عنك ما يقال من كلب الاحتلال، وفقد الاستقلال، وتجني الدول، فأن ذلك كله عرض من أعراض العلة الدخيلة الوبيلة وهي انحلال الخلق. في دهرنا الحديث داء جرثومته أننا عنينا بالتعليم قبل التربية، وبتعليم الابن، قبل تعليم البنت فكان لنا من ذلك الوضع المقلوب رجال يجرون في عنان مع علماء الغرب، بل وربما طالوهم في حذق اللغات وتلون المعرفة؛ ولكن كثيراً منهم يخلون من أخلاق الرجولة خلو البيت من الأم الصالحة والمدرسة من المربي القادر، فتخونهم الكفاية عند التطبيق، وتخذلهم الشجاعة عند العمل، ويفارقهم الضمير عند الواجب، فلا يبقى إلا الغرائز الحيوانية التي تثب على أموال الناس، وتعتدي على حقوق الشعب، وتستخدم السلطان العام في مساعدة الصديق ومكايدة العدو ومناوئة الخصم!. .
وليت غريزة الحياة بقيت فينا على حال الفطرة إذن لعلمنا ما تعلم النمل من قوِام العمل، وفهمنا ما تفهم النحل من نظام الجماعة، وسرنا على نور الله لا نعمة في ظلام ولا نسدر في غواية
إن بعض الأمم الإسلامية أقل منا عدداً، وأرق ثروة، وأضيق ثقافة، وأحدث مدنية ما في ذلك شك، ولكن غرائزها الأصيلة لم يزيفها ذل الرق السياسي، وخلائقها النبيلة لم يفسدها زور المدنية الوافدة، فتمردت على الضيم، وتعنّتت على الأحداث وقلَّمت الأظفار الناشبة في استقلالها، وقطعت الأيدي الطامعة في استغلالها، ومشى أبناؤها الأباة على هدى ماضيهم المشرق لا يستكينون لمشورة حليفة ولا يستنيمون لمعونة أجنبي ولا يستجيبون لوساوس الأطماع في مرافق الأمة ومناصب الدولة حتى انخزلت عنهم التهم وغفلت عنهم الفتن، واستوثق لهم الأمر أو كاد
ذلك يا قوم ما يهدى له منطق الطبع، وصوت التاريخ، وعبقرية الجنس، أما هذا الذي نحن عليه فلا يمكن أن يؤدي إلا إلى الذي نحن فيه. فتداركوا إفلاس المدرسة، وفشل السياسة، وفوضى الحكم، بأيقاظ الضمائر الغافلة واستخدام الكفاءات العاطلة، واستلهام هذا الشعب المجيد الذي عودته عناية الله أن يعوق ولا يضل، ويعذب ولا يذل، ويحارب ولا يستكين
احمد حسن الزيات
-
-